عرض مشاركة واحدة
قديم 11-16-2011, 01:50 PM
المشاركة 47
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
مقابلة مع ادوارد الخراط
أحـب أن يــأتــي الـتــاريـخعـلـى ذكــري فــي صــفـحـة لا يـشــاركـني فـيـهـا أحــد

إدوار الـخــراط: أؤرخ لأشـــواق الـروح وأشـــواك الـمـجــتـمـع

تـأثـرتُ بـجـبـران حـتـىالـتـيـه لا بـالمـنـفـلـوطـي والـعـقـاد وطــه حـســيـن

هذاالحوار حصيلة لقاء طويل أجراه "الملحق" مع الروائي ادوار الخراط، في مناسبة مجيئهالى بيروت وإلقائه محاضرة "أيار التذكارية" في الجامعة الأميركية في بيروت ــبرنامج أنيس الخوري المقدسي. وفيه يستعيد محطات من حياته وتجاربه ملقياً الضوء علىجوانب كانت خافتة ومقيمة في الظل. وقد ارتأينا تقديمها كشهادة "محرَّرة" منالأسئلة. شارك في الحوار الياس خوري واسعد خير الله وماهر جرار وعقل العويط وحررهمحمد ابي سمرا.

قالت لي أمي: انتَ رضعتَ لبن الحزن.(وسام موسى)

1
ولدت في 16 آذار 1926 في حي بجنوب الاسكندرية قريب منمنطقة تسمّى بحيرة مريوط. كان معظم المقيمين في ذلك الحي من الفئات الشعبية القادمةمن الصعيد الى الاسكندرية. العمران ونمط الحياة فيه أقرب الى الريف منهما الىالمدينة: شارع واحد رئيسي مفروش بالاسفلت يسير فيه الترام وينتهي الى قسم البوليس. وشوارع أخرى مفروشة بالحجار والرمل الابيض. البيوت كلها من طبقة واحدة او اثنتين،على سطوحها عرائش من العنب. وقد وصفت ذلك الحي في مقاطع من روايتي "ترابها زغفران". على ناصية الشارع الرئيسي كان منزل الخياطة اللبنانية السيدة روز التي تشتغل عندهافتيات في خياطة الثياب.
في الجلسات العائلية على سطح بيتنا تحت عرائشالعنب، كانت جدتي وخالتي ترويان الحكايات عن الجن والعفاريت. ولكثرة ما سمعت هذهالحكايات في طفولتي، كان الطفل الذي كنته يحسب ان جنيات الحكايات وعفاريتها كائناتحية، ومن لحم ودم. كنت في السادسة او السابعة من عمري حين التقيت مرة في الليلامرأة عجوزاً فقيرة في شارع مهجور قريب من بيتنا، فأيقنت انها عفريت من عفاريتالحكايات. لم تتلفظ المرأة - العفريت بكلمة واحدة، لكني لا ادري إن كنت وقفت جامداًقبالتها دقيقة واحدة او 24 ساعة، قبل ان أروح اعدو هارباً بأسرع ما استطعت للوصولالى بيتنا، حاملاً في جوارحي ووعيي ومخيلتي الطفلية التجربة الأولى في الاتصال بقوةعالم الغيب في ما وراء الواقع والمحسوس.

من اليمين: محمد أبي سمرا،عقل العويط، ادوار الخراط، أسعد خير الله والياس خوري.

2
"
روضةالكرمة القبطية" كانت المدرسة الأولى التي تعلمت فيها، وامشي نحو خمس دقائق منبيتنا للوصول اليها، وكان ناظرها منصور افندي شخصية حاسمة في تكويني الأول: رجلشديد الطيبة والحزم في آن واحد، ينظمنا صفوفاً في الصباح - نحن تلامذة المدرسةالأقباط مع قلة من المسلمين - لنروح ننشد ترنيمة "أبانا الذي في السموات"، قبل انيبدأ برواية قصص شهداء القبط، وفي مقدمهم القديس مرقص، مؤسس الكرازة او الكنيسةالقبطية، الذي تصف الحكاية استشهاده دفاعاً عن العقيدة وصفاً درامياً: قام الرومانبربط ذراعيه وساقيه الى عربة يجرها حصان أخذ يجري سريعاً بعد ضربه بالسياط، فتمزقجسم القديس مرقص أشلاء، وتركت هذه الحكاية أثراً لا يمحى في نفسي وقلبي.

اضافة الى "روضة الكرمة القبطية"، هناك مدارس الأحد التي كانت مس كاترينتعلمنا فيها الترانيم الدينية. لا أزال حتى الساعة أذكر مس كاترين الشبيهة صورتهابصورة مريم العذراء، فيما كانت تلقننا الترانيم. وفي واحدة من مدارس الأحد بدأالطفل الذي كنته يقرأ الكتاب المقدس من دون ان يتنصر عبر طقوس العمادة. والىالقراءة والترانيم، كانت توزع علينا نحن التلامذة الأطفال بطاقات مصورة مكتوبةعليها عبارات بالقبطية والعربية. كانت تلك البطاقات تروي بالصور حكايات من التوراةوالانجيل، بدءاً بآدم وحواء وملاك النار الذي يحمل سيفه الناري الاسطوري. لم تكنتلك الصور او اللوحات عادية في عيني ذلك الطفل الذي كنته، اذ خبرت فيها معنىالألوان وتذوق التشكيل الفني المرتبط بالموضوع الديني. لاحقاً قرأت العهدين القديموالجديد، وتعرفت الى قصة صلب السيد المسيح الذي كان مأساة حقيقية حميمة في بيتنا،رغم ان عائلتي لم تكن متدينة الا تديناً تقليدياً، فيؤدي أفرادها فرائض الصوم مندون الصلوات. لكن الكتاب المقدس كان تأثيره كبيراً عليَّ، لأنه كان كتاب الوفياتوالزيجات والولادات العائلية التي كان والدي يحرص على تدوين تواريخها عليه.

3
قدم والدي الى الاسكندرية من أخميم في الصعيد، مخلّفاًوراءه زواجه من امرأتين. تزوج الاولى في أخميم مسقطه، وبعد وفاتها انتقل الىالفيوم، حيث تزوج من امرأة ثانية دفعته وفاتها الى الانتقال الى الاسكندرية، حيثتزوج والدتي التي كانت شديدة الغيرة على زوجها من زوجتيه السابقتين المتوفيتينوأهلهما الذين تشدّدت في قطع علاقة والدي بهم وبماضيه، باعتباره رجلاً مزواجاً.

قبل قدومه الى الاسكندرية كان والدي تاجراً في الفيوم يعمل في تصدير البصلوالبيض، وكانت تجارته مزدهرة هناك قبل تعرضه للافلاس في ازمة ،1936 مما اضطره الىالعمل كاتب حسابات عند اصدقائه التُجار في الاسكندرية حتى وفاته. الذكرى الأقدموالأقوى لديّ عن والدتي هي العبارة التي طالما كانت ترددها على مسمعي في طفولتيقائلة: انت رضعت لبن الحزن.
ذلك لأني ولدت بعد 19 يوماً من وفاة اخي الذي ولد قبليبسنة او سنتين في الاسكندرية، فنذروني كي يجري تنصيري في أخميم التي كان لعلاقتيبها تأثير كبير في حياتي، قبل ان أعرفها وتطأها قدماي.

واذ كنت قد ولدتلأرضع لبن حزن والدتي على وليدها البكر، فإني في العاشرة من عمري، صحوت ذات صباح مننومي في بيتنا على صياح والدي النائح: ولدي... ولدي... ولدي، لحظة وصله خبر مقتلابنه البكر من احدى زوجتيه السابقتين، بعدما دهسه قطار.

كان عمري نحو ستسنوات حين أخذني أهلي الى اخميم لايفاء النذر بتنصيري وتعميدي هناك. أذكر ان الرحلةكانت شاقة في القطار، وعن سلّم بيتنا الذي كان بلا سياج في اخميم سقطت فأصبت بجرحبليغ في ركبتي، لم يندمل أثره حتى اليوم.

4
في أثناء الحربالعالمية الثانية، كانت الاسكندرية تُضرب بالقنابل، عندما قرر والدي أن يرسلنا، أميوأنا واخوتي واخواتي، الى مسقطه في أخميم، ويظل وحده منصرفاً الى عمله فيالاسكندرية. كان ذلك في العام 1940 او العام الذي تلاه، فاستغرقت رحلتنا في القطارنحو 17 ساعة للوصول الى اخميم بين المنيا والأقصر في الصعيد.
في اخميمانصرفت الى قراءة شكسبير وشيلي ويتس في اللغة الانكليزية. وربما في تلك الفترة بدأتبمحاولات الترجمة الاولى لبعض القصائد من الشعر الانكليزي. وقبل ذلك، فيالاسكندرية، كنت قد قرأت مؤلفات جبران خليل جبران الذي تأثرت به حتى التيه والهيام،على عكس المنفلوطي والعقاد وطه حسين الذين قرأت مؤلفاتهم من دون ان يتركوا فيّأثراً يذكر.
طوال أيام الاجازة الصيفية، بدءاً من العام ،1938 انصرفت كلياًالى القراءة والمطالعة اللتين تعبدت لهما منصرفاً عن الذهاب الى البحر ولعب الكرةوغيرها من الألعاب التي كان يمارسها اصدقائي واترابي في المدرسة. أقول قارئاً نهماًواعني اني كنت في الصباحات افتح باب المكتبة البلدية في الاسكندرية مع موظفيها،ومعهم اقفل بابها واغادرها في المساء. وقد جعلتُ لقراءاتي منهجاً صارماً، اذ وضعتقائمة بأسماء الكتّاب نظمتها بحسب التسلسل الأبجدي. كانت القائمة تبدأ باسم ابرهيم،ويليه أحمد، ثم أسعد... الخ. وحين كنت أفرغ من قراءة مؤلفات الاسم الأول، انتقل الىمؤلفات الاسم الثاني فالثالث... حتى نهاية التسلسل الأبجدي.
واذا كان جبرانهو كاتبي المفضل بالعربية آنذاك، فإن التأثير الأول عليّ من كتّاب الخواجات (الأجانب) مارسه الشاعر الانكليزي شيلي. واذا قلت أني قرأت روايات جرجي زيدان فيتلك الفترة، فان أثرها فيّ لم يكن يذكر، قياساً الى كتابات جبران الذي تعبّدت فيمحراب أدبه.
لم تستمر اقامتنا في أخميم أكثر من أشهر معدودة في نهاياتالحرب الثانية، عدنا بعدها الى الاسكندرية، حيث قررت ألا أزور أخميم قبل أن أكتبرحلتي اليها ومشاهداتي فيها. وهذا ما فعلته لاحقاً في كتابي "صخور السماء". لقدحرصت على ألا ازورها كي لا أشوه تلك الصورة الأولى الغريبة التي رأيتها عليها اثناءلقائي الأول بها. ومن زيارتي الأقدم الى أخميم استعدت في "صخور السماء" اطياف طقوستنصري وتعميدي في كنيستها استعادة دقيقة كاملة.



5
درستالحقوق في جامعة الاسكندرية. ذلك ان والدي، صاحب الميول السياسية الوفدية، كانراغباً في أن يراني رجلاً على صورة مكرم عبيد باشا ومثاله، ما دام عبيد هذا نائبسعد زغلول، زعيم حزب الوفد. لكن السياسة كانت حاضرة ايضاً في عائلتنا من جهة عائلةأخوالي الذين كان أحدهما في جماعة "مصر الفتاة"، وكان الآخر من انصار نبيل عباسحلمي. أما اليسار الماركسي او الشيوعي الذي كان حاضراً بقوة في مصر العشرينات فقدغاب تماماً عن مسرح الحياة السياسية في الاربعينات.
في اثناء دراستيالجامعية، وبعد سنتين او ثلاث من تخرجي من الجامعة، كنت عضواً مؤسساً لحلقةتروتسكية ظللت سكرتيرها العام حتى .1948 في تلك المرحلة من حياتي غرقت حتى الثمالةفي الاجتماعات والمناقشات والتظاهرات واصدار البيانات وكتابة المنشورات التروتسكية،فأصدرنا مجلة "الكفاح الثوري" التي كنا ننسخها على الآلة الكاتبة ونوزعها علىالاعضاء والاصدقاء.

حين أنظر اليوم الى الوراء مفكراً في دوافع انتمائي الىتلك الحلقة من يسار اليسار، أجد ان شعوري بالظلم وفقدان العدالة كانا في اساسدوافعي العاطفية والوجدانية البعيدة.
وكان مصدر احساسي بأن العالم من حولي ليسعادلاً، بل ظالم، أمرين اثنين: فقداني خالتي واخويّ وأختيّ الذين خطفهم الموت علىنحو متواتر او متتابع. فالثلاثينات والأربعينات كانت حقبة سيئة وقاسية، عموماً، علىالصعيد الصحي، اذ كانت الامراض والاوبئة، كالتيفوئيد، تفتك بالناس فتكاً متمادياً،لعدم توافر الأدوية، خصوصاً المضادات الحيوية.
الأمر الثاني الذي يلازمالأول ويوازيه في دفعي الى اليسار، كان محنة الظروف المادية وقسوتها. فاليسروالرفاه اللذان عرفهما والدي قبل ازمة 1936 الاقتصادية الخانقة، انقلبا عسراً وضيقاً بعد تلك الأزمة، مما فاقم احساسي بالظلم واللاعدالة.

أما العنصرالذهني او الفكري في يساريتي فيعود الى وقوعي في مكتبة الاسكندرية البلدية علىمؤلفات كاتب في حروف السين، هو سلامة موسى الذي سحرتني كتاباته وانكببت على قراءتهاكلها، في نهم شديد، وعرفت منه ماهية الاشتراكية ومعناها. وفي تلك الفترة وبعدهابقليل قرأت برنارد شو ثم ان صديقي جورج خوري أهداني كتاب "هكذا تكلم زرادشت" لفريديريك نيتشه، في ترجمة خاله فيلكس فارس، فكان تأثري بذلك الكتاب كبيراً.

يعود تعرفي الى الأفكار الشيوعية والانكباب على قراءة المؤلفات الماركسيةالى شاب سوداني اسمه خليل الآسي. لكن شيوعيتي التروتسكية جعلتني معادياً للستالينيةوالديكتاتورية كما لم أكن معادياً لأي شيء في العالم. وكانت الشيوعية التروتسكيةجواباً شافياً عن احساسي بالظلم واللاعدالة، في جمعها بين الحرية والعدالة. ثم عرفتان تروتسكي صديق للسورياليين والسوريالية، فيما كنت منكباً على قراءة الأدبالسوريالي في ترجمة رمسيس يونان.