عرض مشاركة واحدة
قديم 07-02-2019, 10:55 PM
المشاركة 22
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: قردة وخنازير (رواية)
(5)

أخذها بسيارته المكشوفة إلى مخيمات البدو التي تقبع بالقرب من كوخه.. قال لها أن هناك عقيقة وهو مدعو إليها، لم تفهم ما هي العقيقة لكنها أدركت أنه سيكون هناك الكثير من لحم الضأن..
كانت تخشى مثل تلك الرحلة فحياتها مع عصابة دان علمتها أن البدو هم أعدائها الطبيعيون.. حاول أن يطمئنها فقال لها أنهم من بقايا الزمن الغابر الذي لم يتلوث بمعاول الحضارة بعد.. ربما لضيق ذات اليد.. وربما لأن جيناتهم ترفض عالم النخبة المعدني البارد الخالي من الحياة..
بعكس الصحراء التي تشعرك بأن كل ذرة رمل فيها لها حياتها المستقلة وإن امتزجت مع مثيلاتها لتنسج تلك السجادة الصفراء الشاسعة التي يفترشونها صيفاً وشتاءً..
كان يحمد الله على أن يد النخبة الطائلة لم تصل بعد إلى الصحراء.. الصحراء هي المكان الوحيد الذي يهمله الطغاة غالباً ولا يلتفتون إليه..
حينما وصلوا إلى مخيمات البدو رأت ليلى حشد من الأطفال الصغار حفاة الأقدام باسمي الثغور يعدون ناحيتهم مهللين.. ولم يكد حسن يترجل حتى أحاطوا به من كل جانب وجعل هو يضمهم إليه بحنان جارف، كأنها عودة أب غائب لأولاده من صلبه. إنه يحفظ أسمائهم جميعاً ويسأل كل منهم عن حاله وحال أبيه، كم حفظت من القرآن يا على؟ أنت تتقدم على أقرانك يا فتى، وأنت يا بلال؟
بدأوا يلتفتون لليلى بوجوههم المغبرة برمال الصحراء الطاهرة وعيونهم التي تشع ذكاءً.. كانوا مستغربين من رؤيتها مع صاحبهم الذي كان شعاره الوحدة والتفرد.. من هذه يا عم؟
ـ أختكم ليلى..
ـ أنت لديك بنات؟
يبتسم حسن وهو ينظر لليلى :
ـ رزقت بها منذ أيام..
قال لها وهم يمشون بصعوبة بين الرؤوس الدقيقة، أن هؤلاء الأطفال كنز المستقبل.. لقد نشأوا على فطرتهم بعيداً عن صخب العالم وملوثاته السمعية والبصرية، وبقليل من الجهد والمثابرة سينشئون رجالاً كما ينبغي أن يكون الرجال.. النموذج المثالي الذي تنهض بسواعده الأمم.. النموذج الذي يحلم به حسن..
البدو هنا لا يستوعبون كثيراً من كلامه هذا، لكنه لا يشعر باليأس أو الإحباط أبداً. يقول لنفسه: غداً سيفهمون، ويكفي أنهم يثقون فيه.. يعتبرونه حكيم الصحراء الذي يأتي إليهم بين الحين والحين لينثر عليهم فيض من حكمه التي لا تنتهي.. إنه الوحيد الذي يملك كتباً في هذا الجزء من العالم الذي كف عن القراءة منذ عقود، فسكان الصحاري قد عادوا لتلقي العلوم عن طريق السماع.. أما أن يكون مصدر علومك هو الكتب فأنت بالنسبة للبدو تعد علامة زمانك وأوانك؛ لذا كانوا ينصتون إليه ويحاولون فهمه قدر المستطاع، وهو كذلك كان يحاول تبسيط الأمور لهم قدر المستطاع.. كذلك لم تتوقف فوائده لهم على النواحي الثقافية فقط، فخبراته القتالية التي لم تفارق دمه إبان خدمته العسكرية، كانت مفيدة جداً لهؤلاء الذين يعيشون حياة قاسية لا تخلوا من الصدامات العنيفة مع عصابات الصحاري.. هؤلاء الذين جاءوا من شتى بقاع الدنيا بعد أن لفظهم النظام العالمي، ليجدوا لأنفسهم هنا مرتعاً خصباً للممارسة شتى أنواع الجريمة بلا رقيب أو حسيب..
لقد نقل حسن إلى البدو خبراته العسكرية النظامية، وجعلهم يفاجئون تلك العصابات بأساليب لم يألفوها في قتال الصحراء الذي يعتمد غالباً على الفطرة الصحراوية، لذا فقد عاد إليهم قدر كبير من الأمن والرخاء مع ظهور ذلك الرجل الغريب والفريد في حياتهم.
مجرد رجل واحد ووحيد، فماذا لو كان هناك دستة منه في هذا العالم؟ حسن كان يعتقد أن من هم على شاكلته لا يلتقون غالباً، لأنهم جميعاً هائمون على وجوههم في الصحاري والقفار، فارين بأرواحهم من هوس النظام العالمي..
وصلوا لخيمة شيخ البدو الذي استقبلهم بوجه بشوش وإن لم يفت ليلى تلك النظرة المستغربة التي رماها بها.. إنه عجوز متماسك مثل حسن، وهو سليل قبيلة عريقة يعرفها الأخير جيداً.. توقعت ليلى أنه سيثب بها متهماً إياها بسرقة بعض رؤوس الماشية العام الماضي.. هؤلاء البدو لا ينسون الوجوه بسهولة.. أما هي فتنسى دائماً وجوه ضحاياها.. لكن لم يحدث شيء لحسن الحظ.
سألته وهم يقدمون لهما القهوة العربية مع التمر، لماذا لم يقم معهم بدلاً من حياة الوحدة تلك؟ قال لها أنهم يرحبون به، لكنه يحب الاكتفاء بزيارتهم غباً ليزدادوا له حباً..
شيخ البدو لا يكف عن تجاذب أطراف الحديث مع حسن.. أحياناً يدور حديثهم عن أحوال القبائل.. مشاكلهم.. خلافاتهم.. ثم يتطرق الحديث إلى العالم الخارجي.. فالبدو يسترقون السمع من هنا وهناك وينقلون لحسن شذرات من أخبار العالم الذي هجره منذ زمان .. فينصت باهتمام شديد كأنه ينتظر أن يسمع خبراً من هنا أو هناك عن زوجته وابنه الوحيد .. ثم لا يلبث أن يهز رأسه محبطاً وهو يردد أن هذا كله عقوبة من الله..
لاحظت ليلى أن الشيخ صداح قد أسر لحسن ببعض الكلام.. أدركت أن الكلام عنها فاضطربت .. إن لم تكن لهم معها سابقة سرقة أو نصب، فغالب الظن أنه يوصي صاحبه بالحذر في التعامل معها..
بعدها دخل شاب يشبه صداح يحمل وليداً في قماطه.. ثم لم يلبث أن ناوله لحسن، فنظر الأخير في وجه الوليد، وسرحت خواطره بعيداً.. ـ ماذا ستسميه يا حسن؟
ـ عماد.. عماد الدين..
تلاشت الذكرى فوجد نفسه يحدق في وجه أبو الوليد.. سأله عن اسمه فقال :
ـ عابر ..
غمغم حسن :
ـ عسى أن يكون له نصيب من اسمه.. ويعبر بنا المحنة.
هز صداح رأسه ممتناً لدعاء حسن، وأمر بصب المزيد من القهوة .. سأله حسن أن يلقي عليهم بعض أبيات الشعر.. فالشيخ صداح يحفظ دواوين من الشعر العربي القديم بالسماع ويجيد فن الإلقاء كذلك.. أما حسن فكان من المتذوقين..
وجيء بشاتين فوضعتا في السفود على النار، ورأت ليلى أجمل مشهد شوي في حياتها.. لقد أكلت لحوم نيئة من قبل، وأكلت أطعمة فاسدة من مخلفات المقاطعات، لكنها لم تر مثل هذا المشهد البدائي الخلاب في آن..
فكرت في الهجوم على الشاة وهي على النار، لكنها أحجمت كي لا تسبب فضيحة لحسن..

***

انتحى الشيخ صداح بحسن جانباً وقال له:
ـ عرفناك دقيقاً في علاقاتك مع بني البشر.. فكيف انحدر بك الحال إلى مصاحبة فتاة من سن أولادك وهي ربيبة لعصابة يهودية..
أومأ حسن برأسه كأنما توقع ما سيقول ..
ـ لقد أنقذتها من هلاك محقق.. كادوا يفتكون بها لولا تدخلت.. ولما كانت من سن أولادي كما ذكرت.. قررت أن أمارس معها دور كنت مفتقده بشدة منذ عقود.. دور الأب..
ـ إنها فتاة متشردة؟
ـ القسمة والنصيب..
ـ وعصابة دان لن تتركك..
ـ إنهم جبناء كغالب بني جنسهم..
ـ أخشى عليك غدرة الجبان..
ـ الله المستعان..
قال صداح وهو يبتسم في مكر :
ـ أنت عجوز ..
بادله الابتسام قائلاً :
ـ أنت لم ترهم وهم يعدون أمامي كالأرانب البرية..
كان اللحم قد نضج أخيراً، فتوقفوا عن الكلام .. ليلى كانت تنتظر على أحر من الجمر الذي نضجت عليه الشاة.. ولما وضعوا أمامها اللحم الساخن لسعت لسانها بسبب عدم صبرها على اللحم حتى يبرد.. وظلت تتحدث بقية يومها بلثغة مثيرة للضحك..
بعدها أخذوها لخيمة الحريم فلم يرها حسن إلا حينما قرر أن ينصرف، ساعتها رآها تغادر الخيمة وهناك شال مطرز يكسو شعرها الثائر، وقرط متدلي من أنفها لم تكد تبتسم لحسن حتى سقط منها فتلقفته بسرعة وحاولت تثبيته مرة أخرى بشتى الطرق..
ـ لا بد أن أصنع ثقباً في أنفي حينما أعود..
جذبها حسن وهو يلوح للشيخ صداح وبقية الرجال مودعاً..
ـ ومن سيسمح لك بهذا..
نظرت له بدهشة وهو يسحبها خلفه، لكنها دهشة لم تخل من سعادة غامرة لم تستطع أن تخفيها..
في طريق العودة قالت له وهي تسترخي في مقعدها :
ـ لماذا يعاقبنا الله ؟
ألقى عليها نظرة جانبية عابرة ثم قال :
ـ وأي شيء مما نفعله لا يستحق العقوبة من الله.. أتظنين أن النخبة هبطت علينا من المريخ؟ وأن العالم استجاب لها بالحديد والنار؟..
شعرت بالشفقة نحوه، إنه مهموم دائماً ومثقل بالجراح.. قالت له محاولة التسرية عنه :
ـ لكن الله موجود أيضاً..
هز رأسه أن نعم وقال:
ـ كل ما نحن فيه يؤكد تلك الحقيقة يا لوسي.. لكنه لا يتولى الظالمين.. كنا قديماً سادة هذا العالم حينما سرنا مع الله.. وقبلها لم نكن نساوي شيئاً بين الأمم.. قبائل متناثرة متناحرة.. الآن ترين أننا عدنا من حيث بدأنا لما تخلفنا.. على هامش العالم..
حلقت ببصرها في السماء الصافية ثم همست:
ـ تعرف.. بالرغم من كل ذلك.. أنا سعيدة..
انفرجت شفتيه عن شبح ابتسامة باهتة رغم ما به من هموم.. كانت ليلى كالفراشة العابثة التي تحلق بين الزهور، و لا تكاد تستقر لها على موضوع معين حتى تثب إلى موضوع أخر..
قال :
ـ السعادة شيء عزيز المنال في عالمنا هذا يا ليلى..
ـ لا أدري كيف أشرح لك.. لكن..
ولوحت بكفها كأنها تستدعي كلمات مناسبة للتعبير عن حالتها .. ثم أردفت وهي تهز كتفيها:
ـ لم يهتم بي أحد من قبل مثلك..
ظل حسن يقود بوجه جامد وعين لا تطرف.. شعرت ليلى بخيبة أمل من رد فعله البارد فأطرقت.. لكنه سرعان ما التفت إليها قائلاً :
ـ أنا أيضاً سعيد يا ليلى..
رقص قلبها وهي تسأله بدلال :
ـ وما سر تلك السعادة يا ترى؟
قال باسماً:
ـ لأنني لم أهتم بأحد منذ زمن بعيد مثلما اهتممت بك..
نظرت طويلاً لتجاعيد وجهه المرهق وهي تفكر.. ترى هل لو كانت قد عثرت على أبيها الحقيقي.. هل كانت ستشعر معه بنفس الاطمئنان والدفء الذي تشعر به الآن وهي إلى جواره؟..
شردت ببصرها في الصحراء المترامية التي تنهبها السيارة وتمنت أن يطول الطريق أكثر.. لم تحب الصحراء من قبل لكن حسن جعلها تهيم بها حباً.. مثله لا يمكن أن يظل بقية حياته مشرداً هكذا.. مثله كان في أمس الحاجة لمثلها..
ـ لا يمكن!
نظرت لحسن فرأت وجهه مسوداً وعيناه تضيقان..
الكوخ يلوح من بعيد.. لكن لماذا تتصاعد منه الأدخنة؟
زاد حسن من سرعته مثيراً خلفه عاصفة من الرمال.. الكوخ يقترب ومعه تتضح الرؤية.. أخيراً أطلقت السيارة فرملة عاتية ووثب منها حسن وهو يحمل بندقيته صائحاً :
ـ أبقي هنا..
لكنها لم تبق.. وثبت خلفه لترى المأساة التي سببتها لذلك العجوز البائس..
لقد عاد دان مع عصابته أثناء غيبتهم، وقرر أن يترك بصمته على كوخ حسن..
بصمة ربما لن تنمحي آثارها من روحه إلا مع مغادرتها لجسده..

***

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..