عرض مشاركة واحدة
قديم 06-30-2019, 11:18 PM
المشاركة 21
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: قردة وخنازير (رواية)
(4)

حينما وصلت الأشباح الثلاثة إلى الكوخ لم يكن هناك أثر لحسن على باب الكوخ..
توقعوا أنه غافي بالداخل مع الفتاة منذ البداية؛ لذا استعدوا بأسلحتهم لاقتحام الكوخ وتصفيته بسرعة، واستخلاص الفتاة والشرائح..
وهكذا وقف ديفيد بالخارج بينما اقتحم شامير وإيزاك الكوخ شاهرين أسلحتهم..
ـ لا أحد بالداخل!
هنا جاوبهم صوت عظام تتحطم بالخارج، مع صوت صرخة مكتومة..
حينما غادرا الكوخ وجدا زميلهما ملقى على الأرض مهشم الأوصال، وقد استلب منه سلاحه..
ـ ديفيد ماذا حدث؟..
جائم الجواب من الخلف حينما سمعا تكة السلاح المميزة مع صوت حسن يطلب منهما إلقاء السلاح..
ألقيا السلاح بلا تردد واستدارا ببطء.. وجدا حسن يصوب إليهما سلاح ديفيد وهو يقول بهدوء:
ـ بالنسبة لرفيقكم فقد كسرت ذراعه اليمنى وساقه اليسرى.. لكنه قد يكون أسعد حظاً منكما لو حاولتما إغضابي..
ـ لا تنفعل هكذا يا أبت..
قالها إيزاك مصطنع المزاح، فقال له حسن بصرامة :
ـ أبحث عن أبيك بعيداً عني يا هذا.
ابتلع إيزاك لسانه ونظر لشامير مستنطقاً إياه..
وضع الأخير يديه فوق رأسه وصاح بصوت مبحوح:
ـ لم نأت لإيذائك يا أبت.. فقط أردنا الفتاة والشرائح..
ـ الفتاة لا تريدكم.. والشرائح قمت بحرقها بنفسي..
هنف إيزاك محنقاً:
ـ تباً.. هذا سيغضب دان..
قال له حسن ببرود :
ـ سأعد حتى ثلاثة.. أريدكما خلالها أن تحملا رفيقكما وتغادرا المكان..
صاح شامير في ذعر :
ـ لا ليس ثانية .. ثلاثة قليل جداً يا رجل.. لن أتمكن من أن..
قاطعه حسن ببرود:
ـ واحد!

***

ـ لقد رأيتك من بعيد وأنت تهشم عظام ديفيد.. أين تعلمت أساليب القتال تلك؟..
دخل حسن الكوخ فألقى قطع السلاح التي غنمها في ركن، والتفت إليها حيث هرولت خلفه.. قال لها :
ـ لقد خدمت في شبابي في الجيش..
كورت لوسي قبضتيها ووقفت وقفة قتالية مضحكة وهي تقول بحماس طفولي :
ـ لن أدعك حتى تعلمني..
أشار إلى فراشه الذي هجره من أجلها وقال :
ـ نامي الآن وفي الصباح سأعلمك كل شيء..

***

العجوز يعرف الكثير فعلاً..
هذا ما تأكدت منه في الأيام التالية التي قضتها معه.. لم تتركه حتى علمها كيف تدافع عن نفسها بسلاسة حتى وإن كان من يهاجمها كل عصابة دان دفعة واحدة.. فستعرف كيف تحولهم إلى حفنة من ذوي العاهات في ثوان.. هذا هو الإحساس الذي داهمها بعد كم التدريبات التي لقنها إياها..
قال لها :
ـ لا يهم كم عدد من يهاجمك.. ولا يهم مقياس قوتهم إلى قوتك.. المهم هو هنا..
وأشار إلى جهة قلبها..
ـ عقلك وهدوئك هو المقياس الحقيقي لقوتك.. احترسي من الخصم العاقل والهادئ، وإن كان أقل منك قوة، بأكثر مما تحترسين من القوي الأحمق والغضوب..
لم تنتهي دروسها مع العجوز على تعلم فنون القتال بالأيدي أو بالسلاح وفقط ..
لقد رأت منه أشياء أعجب وتعلمت منه أشياء أخرى لم تكن تجري بخاطرها..
كانت تحب مراقبته وهو يصلي، وتنصت إليه وهو يقرأ بصوت رخيم في كتاب صغير يدعوه مصحفاً..
سألها مرة عن ديانتها فقالت أنها لا تدري..
قال:
ـ توقعت أن تكوني يهودية مثلاً..
ـ من أجل دان وعصابته من اليهود؟.. أنا لا أعرف لي دين معين منذ وعيت على الدنيا..
ـ ملامحك عربية.. من يدري ربما تكونين مسلمة على الأرجح..
قلبت شفتيها وهي تهز كتفيها بمعنى أنها لا تدري.. ولا تعبأ..
نظر لها ملياً ثم سألها :
ـ هل تمانعي لو اخترت لك اسماً عربياً غير اسمك هذا؟
فاجئها السؤال.. فكرت قليلاً ثم ردت بسؤال :
ـ وماذا ستسميني؟
نظر للصحراء الممتدة كأنه يستلهم منها اسماً ، ثم عاد ليهمس لها :
ـ ليكن .. ليلى..
قالت باسمة :
ـ إنه قريب من لوسي..
هز رأسه ببطء نافياً ..
ـ شتان..
ساد الصمت بينهما برهة، ثم خطر لها سؤال فقالت:
ـ ما معنى أن أكون مسلمة؟
جذب نفس عميق ثم أغلق المصحف ورد على سؤالها بسؤال:
ـ ما هو هدفك في هذه الحياة؟..
ـ هدفي أن أحيا آكل وأشرب وأنام ملء جفوني..
ضحك وقال:
ـ هذا هو هدف سائر البهائم والحيوانات يا ليلى.. أما البشر فقد خلقوا لغاية وهدف أسمى.. أمانة عظيمة تحملها الإنسان وأشفقت منها سائر المخلوقات.. لكن ذلك الهدف وتلك الغاية طمست معالمها في غالب عقول البشر..
فتحت عينيها وقلبها لكلامه.. تلاشت الصحراء القاحلة من حولهما وحلت محلها مروج خضراء وينابيع عذبة.. شعرت بحلاوة في حلقها، فقالت لنفسها ذلك هو مذاق الحياة الحقيقية التي لم تعرفها.. لأول مرة تشعر بكينونتها.
طلبت منه المزيد، ففتح لها كتب في الدين والأدب والتاريخ، فتح لها باباً على دنيا عاشتها لعقدين من الزمان، ولم تعرفها..
تحت فروة رأس ذلك العجوز يوجد كنز أغلى من الشرائح التي عملت على سرقتها مذ نشأت مع عصابة دان..
أعطاها نبذ من تاريخ العالم القديم والحديث، كيف بدأت الدنيا وإلى أين صارت بالبشر في دوامات من المحن والابتلاءات والدسائس والمؤامرات، حكى لها عن النخبة الحاكمة أصلهم وفصلهم، كيف سيطروا على مقاليد الأمور في العالم، وصهروا الدول والشعوب والقبائل والطوائف تحت ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، ثم صاروا هم يفرقون ويميزون بين البشر، درجات وشرائح بعضها فوق بعض، وهم وحدهم على قمة هرم النظام العالمي..
استيقظ العالم على نظام هو أبشع ما توصلت إليه قرائح الطغاة عبر العصور..
استغربت كيف يعرف كل هذا رجل يحيا وحيداً بالصحراء، إنه يعرف عن النظام العالمي أكثر من هؤلاء الذين يحيون ليل نهار يسبحون بحمده، أو حتى هؤلاء الذين يناصبونه العداء.. سألته عن حياته السابقة فحكى لها ماضيه مع النظام العالمي الجديد .. لعلها المرة الأولى التي يحكي فيها تلك التفاصيل لكائن حي.
ـ لماذا اخترت الصحراء؟
ـ لا يوجد أصفى ولا أنقى من جو الصحراء..
ـ وكذلك لا يوجد أقسى منها..
ـ النظام العالمي أشد قسوة .. أما الصحراء فهي أقرب لأب يقسوا على ابنه كي يصقله..
قالت له وهي تمسك بحفنة رمل، ترفعها أمام عينيها ثم تنثرها في الهواء:
ـ هل ترغب في أن يحذو الناس حذوك؟
قال وهو ينكت بعود في يده :
ـ لا أجد لهم طريقاً أخر..
ـ تريد من الناس أن يتركوا العمران والحضارة ويعودوا للصحراء؟
ـ أنا لا أدعو للتصحر.. أنا أدعوهم حيث كانوا أن يزيلوا غبار القرون الذي علا فطرهم .. لقد لذت بالصحراء لأنها كانت أرحم بي من الخلق.. حتى من أقرب الناس إلي.. ولو وجدت يد حانية في عالم العمران والحضارة لما جئت لهنا..
قالت بشفقة تسللت كقطرات الماء العذب عبر شقوق روحه العطشى:
ـ تحيا هنا بلا أنيس ولا جليس؟
هز رأسه نافياً، وقال:
ـ لم أعد كذلك يا ليلى..

***

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..