عرض مشاركة واحدة
قديم 05-24-2012, 03:42 PM
المشاركة 670
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
مع الروائي ياسين رفاعية

ياسين رفاعية واحد من أكابر كتّاب القصة والرواية عربياً, أديب وحكواتي بالفطرة, استمع كثيراً لدروس القصة القصيرة في (فرن الخبز) الذي كان يمتلكه‏
والده... من خريجي أكاديمية الحياة, عنيت عمال الفرن الذين كانوا رجالاً, وهو فتى بعد, كان ينصت بشغف لقصص عشقهم, يزفر حينما يزفرون, ويتألم حين يتألمون, ويبكي معهم حين يبكون, كانت معايشة من نوع إبداعي خاص بين من يحكي ويقص؛ وبين منتج القصة أو الحكاية ومتلقيها الفتى الذي راح يعرف من القصة أمرين هما: الحياة, والناس, وقد رسّبت مآسي تلك القصص والحكايات التي استمع إليها آثارها الفاجعة في نفس الفتى الذي سيغدو، وهو ابن السادسة عشرة من عمره، منتجاً لقصص عمال (الفرن) وحكاياتهم مكتوبة ومنشورة في الصحف والمجلات.‏
كانت حياة ياسين رفاعية صعبة وقاسية جداً, حتى ليحسب عارفها أنها منجم من العذاب العلوق بالإنسان, لذلك ـ وهو بكر والديه ـ ترك الدراسة في الرابعة عشرة من عمره, والتحق بالعمل الشاق في (فرن) والده, وهناك لم يشو ياسين رفاعية الكعك وحسب, وإنما شوى قصصه على نار كُتب عليها أن تنضج كل ما هو جميل ومميز, لذلك لا أبالغ إن قلت إن نضجاً مختلفاً ومميزاً يرى ويحس في قصص ياسين رفاعية ورواياته لا نجده عند مجايليه من أعلام القصة والرواية المعروفين عربياً.‏
الطفل/ الفتى الذي لم يكمل دراسته في المدرسة الرسمية أكملها في مكانين شديدي التواري والتخفي, والطقسية, هما: الأول: فرن أبيه حيث كان يستمع لقصص عمال الفرن (الذين يكبرونه بعشرات السنوات) وحكاياتهم فيخزنها في غرف الذات المبدعة.‏
والثاني: المقبرة! نعم المقبرة, حيث كان يأتي إليها ليجالس زكريا تامر ويوسف شرورو ( قاص وروائي فلسطيني) من أجل الاستماع لقصة كتبها أحدهم, لكأني بياسين رفاعية كان يفرّغ كل ضجيج الفرن في المقبرة حيث هو الهدوء والإنصات, والوحدة المطبقة, هؤلاء الثلاثة تامر, ورفاعية, وشرورو اكتشفوا مكانهم السري الخاص (المقبرة) من أجل أن يتعلموا فن الإصغاء؛ فن الصفاء.. ليعيشوا ما عاش في حضرة النص؛ حضرة الإبداع.‏
ياسين رفاعية, ومنذ يفاعته, دخل عالم الكبار بقوة وحضور غير عاديين عبر مرتين اثنتين, الأولى: كانت عندما دخل عالم الكبار في (فرن أبيه), وقد أُيد هناك بنفوذ والده ومكانته (باعتباره صاحب الفرن), والمرة الثانية كانت عندما دخل عالم الكبار في مجال الكتابة والصحافة, وقد أُيد هناك بقوة نصوصه وبروز موهبته الصافية.‏
تلك اليفاعة الطموح للمناورة, والتميز... هي التي تسم ياسين رفاعية الشخص أولاً فتجعله كائناً متجدداً على الدوام، وهي التي تسم نصه ثانياً الذي لا يركن إلى ثبات أو سكون أو نجاح.‏
ياسين رفاعية, وعبر حوار معه, يمنح صفحات (الموقف الأدبي) شيئاً من حضوره, وحزنه, فلا يخرجُ القارئ من هذا الحوار إلا وقد عرف الكثير عنه كشخص أخاف الحياة بسطوة حضوره, وقوة صبره, وعن نصه الذي هو مدونة رفيعة الشأن لحياة عاشها أناس كانت علتهم الأولى أنهم مهمشون.‏ [/
frame]

سألته:‏
ـ لو أردنا إعادة إنتاج عالم طفولة ياسين رفاعية ما الذي تقولــه, ما الذي تتذكره؟!‏
*إذا أردت أن تسألني عن طفولتي, فما زلت طفلاً, وسأحافظ على طفولتي حتى الموت.‏
ـ عنيت كيف كانت النشأة, وما هي أحوال البيئة؟‏
* نشأت في بيئة فقيرة جداً, وجئت من أب عظيم, وأم عظيمة, من ذلك الجيل الآفل الذي كانت الكرامة فيه قبل كل شيء، وهي هدفه الأعلى.‏
في حي فقير (حي العقيبة) جميع أسره تتواصل كأنها أسرة واحدة, عشت في جو حميم, فأنا شخصياً رضعت من تسع أو عشر نساء كن من عمر والدتي, ولذلك لي إخوة حتى الآن لم أستطع إحصاءهم, أما العائلة العتيقة التي هي أسرتي (الأب, الأم), فأنا أول من بصصت النور فيها, ثم توالت الولادات من بطن أمي السخية فأنجب أبي سبع بنات وختمها بصبي.‏
وعندما جئت إلى هذه الدنيا كان عمر أبي سبعة عشر عاماً, وعمر أمي ثلاثة عشر عاماً, فنشأت معهما إلى أن أصبحا صديقيَّ, مررنا بظروف قاسية فوالدي كان مناضلاً حقيقياً, ومن أجل أن يوفر لنا الخبز والأدام عمل في مهن عديدة, كان يوصل الليل بالنهار.‏
ـ لكن المهنة التي عُرف من خلالها هي مهنة (الفران) ولطالما تحدثت أنت عنها؟‏
*نعم لقد ثبت أبي فيما بعد على مهنة صنع الكعك, وكنت أرافقه إلى الفرن في فترات متتالية, وأذكر أنني عندما حصلت على الشهادة الابتدائية, وكنت آنذاك فتى صغيراً, كنت أقضي نصف وقتي في الفرن, والنصف الآخر في الدراسة حتى تعلمت مهنة صنع الكعك, وعندما ساءت ظروفنا العائلية إلى حد لا يطاق, تخليت عن الدراسة وأنا في الصف التاسع, والتحقت بفرن أبي معاوناً لـه, وبراتب مقداره خمس ليرات يومياً, وحملت عن أبي عبئاً كبيراً في هذا الفرن كي أمنحه قليلاً من الراحة, فكنت أخرج من البيت عند منتصف الليل وأظلّ فيه حتى الساعة السادسة من مساء اليوم الثاني؛ أعمل واقفاً, وأحمل أكياس الطحين... وأحياناً حين أتعب أنام على أكياس الطحين.‏
ـ ومتى بدأت تفكر بالكتابة للمرة الأولى؟‏
*في تلك الفترة, وقبل أن تخطر ببالي الكتابة, كنت على تواصل حميم مع عمال الفرن فأسمع كل يوم من أحدهم قصة أو حكاية, قصة عشق فاشلة لأنهم كانوا جميعاً محبين فاشلين, فخطر ببالي آنذاك لو أنني أستطيع كتابة هذه القصص, ومن غير ما قصد صرت أشتري كتباً وأقرؤها بدءاً من القصص البوليسية (شارلوك هولمز, وأرسين لوبين) إلى الأدب الروسي، إلى الأدب الأمريكي (همنغواي, جون شتاينبك), وأظن أنني تأسست على قراءة الأدب الغربي قبل قراءة الأدب العربي.‏
وقد كنت هاوياً لقراءة الروايات, فلم أترك رواية مترجمة إلى العربية آنذاك إلا وقرأتها, كان هناك شاب صغير يتجول في حينا القديم (حي العقيبة) حاملاً صندوق البويا (ماسح أحذية)، يشتغل على مسح أحذية الناس, كان شاباً لطيفاً, وعلى وجهه مسحة من الحزن العميق, اقترب هذا الشاب من قلبي كثيراً وأصبح صديقي وكان يروي لي في كل يوم قصصاً من حياته وحياة أبيه المتوفى ووالدته العجوز التي ليس لها سواه، تلك القصص شكلت عندي فكرة قصة فكتبتها وكان عنوانها (ماسح الأحذية)، كتبتها في الأصل بعدما قرأت إعلاناً عن مسابقة للقصة القصيرة في مجلة تصدر في العراق, عنوانها (أهل النفط) كان يرأس تحريرها جبرا إبراهيم جبرا, كتبت هذه القصة وأرسلتها إلى المسابقة, وفوجئت أنها نالت الجائزة الأولى, وكانت الجائزة عبارة عن ثلاثمائة ليرة, وهذا مبلغ كبير آنذاك, أذكر أن أحد موظفي مكتب الشركة في دمشق اتصل بي لأقبض المبلغ, وحينما أخذت المبلغ ذهبت إلى ماسح الأحذية وقاسمته إياه.‏
وحين أعطيته نصف المبلغ بكى وقد فوجئ تماماً، قال لي بالحرف الواحد ليس لدينا سجادة، والدنيا شتاء وبرد, سأشتري بهذا المبلغ سجادة, فقلت لـه افعل ما تشاء, وقد عرفت أنه اشترى سجادة بمائة ليرة, وفوجئت في الليلة التالية أنه جاء إليّ ودعاني إلى العشاء في بيته المؤجر, وهناك تعرفت إلى أمه العجوز التي حدثني عنها طويلاً. أذكر أن تلك الأم رفعت يديها إلى السماء وقالت في دعاء شجي: يا رب لا تجعل هذا الشاب( تقصدني) يحتاج إلى إنسان طوال حياته، وكأن هذا الدعاء يتلبسني حتى الآن.‏
فأنا لم أحتج لإنسان والحمد لله على الرغم من ظروفي الصعبة التي مررت بها (بعجرها وبجرها)..‏
ـ كم كان عمرك يوم كتبت تلك القصة؟‏
* كنت في السادسة عشرة من عمري وكانت قصة (ماسح الأحذية) فاتحة جيدة ومشجعة للكتابة القصصية, وأول من جعلتهم أبطالاً لقصصي في تلك الفترة, هم رفاقي العمال في الفرن, فإذا كان أحدهم يحب امرأة في حياته تشبه ليلى فوزي كان يعلق صورة تلك الفنانة على الحائط, ويقول هذه حبيبتي حتى صارت كل جدران الفرن معرضاً لحبيبات العمال.. لكي تدلل على فشل تجاربهم العاطفية.‏
أحدهم كان يكره أنور وجدي لأنه يحب ليلى مراد, فقال لنا ذات مرة إذا تزوجت سأسمى ابني أنور فقلنا لـه كيف تسميه أنواراً وأنت تكره أنور وجدي؟ فقال من أجل أن أضربه كفين في كل صباح. بالفعل كانت أحاسيسي تجاه هؤلاء الشبان حميمة جداً, فعندما يتكلم أحدهم عن الحب كان يبكي من فرط الأحاسيس, هؤلاء كانوا المنبع الأساسي لقصصي القصيرة, وإذا عدت إلى مجموعتي (الحزن في كل مكان) ستجد أن جميع أبطالها من العمال والمشردين.‏
ـ وهل كانت صناعة الكعك المهنة الوحيدة التي عملت عليها؟!‏
*لا, ففي ظروف قاسية أخرى أي في أواخر الحرب العالمية الثانية, أوقفت الدولة تزويد أفران الكعك بالطحين, وكانت المؤسسة التي توزع الطحين اسمها (الميرا) هي التي توفر الطحين للخبز, لذلك وقعنا في حالة عطالة طويلة عن العمل, في تلك الفترة عملت عند صانع أحذية (كندرجي) وكنت في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمري, وكانت مهمتي عند صانع الأحذية هي تجليس المسامير المعوجة, فكانت أصابعي تُدمى من ضرب الشاكوش, قضيت بضعة شهور عنده كانت من أقسى الشهور التي عشتها في حياتي, وحين استطاع والدي الحصول على الطحين شهرياً, كان يصنع الكعك ليلاً, ويبيعه في النهار بالتهريب للبقاليات, وأنا شخصياً كنت أحمل صاج الكعك الطري المعجون بالسكر, وأبيعه داخل سينما [غازي], أنادي على الكعك: [كعك طيب, كعك حلو, كعك طري] وما أن ينتهي الفيلم حتى أكون قد بعت حوالي (50) كعكة, وسعر الواحدة آنذاك قرش واحد, ثم توالت الأحداث الصعبة, فأصر أبي على إعادتي إلى المدرسة لكني تعودت على حياة أخرى غير حياة المدرسة, فكنت أهرب من المدرسة, وأستعين بأصدقاء أبي لا بأبي عندما أنقطع عن المدرسة لكي أعود إليها, متوسطين لي تحت حجج أنني كنت مريضاً أو ما شابه ذلك فأعود إلى المدرسة, هذه الحياة ما بين الفرن والمدرسة والقراءات الفردية هي التي شغلتني.‏
ـ ومتى كانت بداية النشر, وأين؟!‏
*كانت هناك جريدة سورية اسمها (الشعب) كانت مكاتبها مجاورة لفرن أبي, وكان مدير تحريرها الكاتب المعروف عادل أبو شنب, كنتُ أخذ إليه قطعة أدبية تشبه الشعر, فأعطيه المقطوعة, وأُدخل لـه, دون أن يشعر بي, كيساً من الكعك أواريه خلف مكتبه, وبعد ثلاثة أيام أو أربعة أعود بقطعة جديدة من الشعر, وبكيس جديد من الكعك, وقد فوجئت حين عدت إليه في ثاني مرة بأن وجدت كيس الكعك القديم ما زال موجوداً خلف مكتبه, فقلت لـه أستاذ عادل ألم تنتبه إلى هذا الكيس! فقال لي لا أدري لمن هو! قلت لـه أنا جئت به إليك! فضحك وراح يهتم بي أكثر, وأنا شخصياً كنت مهتماً بقصصه ومعجباً بها, فقد كان من أوائل المجددين في مجال القصة القصيرة, وحين انتبهت الدولة إلى أن أبي يُهّرب الطحين, قامت وختمت الفرن بالشمع الأحمر, فاضطر أبي وبمسعى من صديق لـه أن يعمل حارساً ليلياً, وكانت المنطقة التي يحرسها هي منطقة شارع السنجقدار, وسينما راديو التي أصبح اسمها فيما بعد (سينما النصر), فكان أبي يصطحبني إلى تلك السينما, ويدخلني إليها مجاناً باعتباره حارساً للمنطقة التي تقع فيها, وكانت هذه السينما تعرض فيلماً عن (زورو) و(طرزان) ثم بعد ذلك تقدم فاصلاً تمثيلياً حيّاً يقدمه عبد اللطيف فتحي, الذي كان يعتمد على النكتة, وحين يهم بالدخول يصرخ (يا ساتر).‏