عرض مشاركة واحدة
قديم 09-06-2010, 12:49 PM
المشاركة 40
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
اسـتـنــتــاجــات :
من خلال عرضنا لآراء علي كامل حول شخصية المتنبي يظهر أنه كان خاضعا لتأثير النظريات النفسية، حيث حاول أن يمزج في التحليل بين نظرية فرويد حول النرجسة ونظرية آدلر حول مركب النقص والتعويض وبين برنامج ايزانك حول المزاج، مما جعله يتعامل بنوع من الإسقاط، فبالرغم من وعيه بحدود المنهج النفسي في سبر أغوار النفس والكشف عن مكنوناتها وآليات اشتغالها خصوصا إذا كان الموضوع المدروس ينفصل زمنيا عن الذات القارئة، فإنه عمد إلى بعض الأبيات ومارس عليها عملية التأويل بغية تأكيد فرضياته القبلية. إن الأساس الذي يتحكم في قراءته لشخصية المتنبي هو البحث عن لا وعي الشخص معتمدا النص كوثيقة، في حين أن البحث يجدر أن ينصب على لا وعي النص ولا وعي القارئ والوقوف على العلاقة المتبادلة بينهما.
إن علي كامل تعامل مع شخصية المتنبي باعتبارها كتلة من العقد المرضية، مغيبا تجادل هذه الشخصية مع المحيط، وهنا يبرز الفرق بين دراسة يوسف سامي اليوسف وعلي كامل، رغم أنهما تبنيا نفس المنهج، وهنا يمكن أن نثير قضية هامة تتعلق بالاستخدام المنهجي، فهل المنهج يعتبر وسيطا بين الذات والموضوع ؟ أم أنه يوحد المعرفة بالموضوع ويحول دون تعدد التأويلات ؟ أم أن له فقط وظيفة تنظيمية ؟ يعني أنه ينظم إدراكنا للموضوع، أم أن له وظيفة وقائية بحيث يحمي النص من الإسقاطات الذاتية ؟ إن هذه الأسئلة تبرز لنا مدى تمثل النقد العربي للمناهج النقدية الحديثة، ومدى قدرة النقاد العرب على استحداث تشابكات مع هذه المناهج.
فمن خلال وصفنا التحليلي لدراسة اليوسف وعلي كامل خلصنا إلى تبيان الفروق في النتائج رغم اتفاق المبدأ المنهجي، فعلي كامل يرد ازدواجية شخصية المتنبي إلى التكوين النفسي المضطرب لديه، في حين نجد اليوسف يرجع ذلك إلى أن المتنبي انعكس فيه التفاقم والشرخ الحضاري. وقد ربط اليوسف عقد المتنبي مع سؤال المرحلة (أي السؤال السياسي) فكانت تخدم المشروع القومي الذي كان يتوق إليه الفرد العربي في القرن الرابع الهجري، أما علي كامل فقد فسر هذه العقد في علاقتنا بذات الشاعر وتكوينه النفسي حيث بدا المتنبي مريضا نفسيا يكتب الشعر من اجل أن يتداوى به.
أما مقاربتهما للعقدة النرجسية عند المتنبي نلاحظ أن هناك فرقا كبيرا من حيث المنطلق ومن حيث النتائج بالرغم من وحدة الإطار العام للتحليل، فاليوسف لم يرتبط بمفهوم النرجسية كما تكرس في أدبيات التحليل النفسي الفرويدي حيث تعامل مع المصطلح بنوع من المرونة ليلائم الموضوع الدروس، أما علي كامل فقد تعامل مع المصطلح دون اعتبار لخصوصية الموضوع المدروس وحافظ على حرفيته في التطبيقات الغربية مما أفضي به إلى إثارة البعد الجنسي المصاحب لهذه العقدة.
لقد تبين لنا من خلال التحليل أن كلا من اليوسف وعلي كامل مزجا بين نظرية فرويد ونظرية آدلر، وجلي أن كلا النظريتين تختلفان من حيث المنطلقات والأهداف، ففرويد يرى أن الفن هو بمثابة تعويض عن الإحباط وتسام بالغرائز المقموعة والمكبوتة، أما آدلر في نظرية الاحتجاج الرجولي التي هي نتيجة لعقد النقص التي يعانيها كل إنسان في صغره، يرى أن الفنان يصبح بموجب هذه الرؤية شخصا عصابيا يبحث عن إثبات الذات وتأكيدها.
ويحاول فرويد أن يرد كل فنان وكل إثارة إلى أمراض نفسية تسببها رغبات مكظومة وعقد جنسية مكبوتة ترقد في اللاشعور، وتجد هذه الرغبات عند الفنانين متنفسا في الأعمال الإبداعية والفنية، فالركيزة الأساسية في نظرية فرويد هي الغريزة الجنسية التي يبني عليها تحليله النفسي ومن تم يصبح مفهوم التسامي مفهوما أساسيا في العمل الإبداعي. أما آدلر المتأثر بالفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في نظريته حول الصراع المستمر في الحياة إرادة القوة، فأنه يرى بان الفشل في السيطرة يؤدي بالإنسان إلى الإحساس بالنقص، وهذا المركب يفضي إلى التعويض هذا المفهوم يعتبر المفتاح الرئيس في نظرية آدلر ويلعب نفس الدور الذي يقوم به الكبت والتسامي عند فرويد. ولقد ارتبطت العملية الإبداعية عند آدلر بالشعور بالدونية ومركب النقص.
لقد بصم هذا المزج المنهجي كلا الدراستين باللا انسجام في النتائج المحصل عليها فالمتنبي كما صورته هذه الدراسات مرة نرجسي ومرة سادي ومرة يعاني من نقص أفضي به إلى عبادة الذات وإثباتها بقوة ومرة أخرى شاذ جنسيا. وكل هذه الأحكام تأسست على تحليل بيت أو بيتين من مجموع ديوان بلغت أبياته.
فالمحلل النفسي حينما يتصدى لتحليل أديب فأنه " يدرس كل جوانب شخصية متقصيا المعلومات اللازمة، باحثا في المراحل الفمية والشرجية والقضيبية، متوغلا في مختلف العقد من نرجيسية وأوديبية وقابلية واستعلائية ودونية ، بحيث يكون فكرة متكاملة من الأديب بعدما استوفى مختلف جوانبها. "
إن هذه التوغل النفسي لتحليل الشخصية قد افتقرت إليه كلا الدارسين وذلك جاء نتيجة لعدم توفر المعلومات الكافية عن حياة المتنبي من الطفولة وتعتبر هذه الندرة في المعلومات العائق الجوهري والثغرة القاتلة في الدراسات النفسية التي تتخذ النصوص الضاربة في القدم.
لقد استنتجنا في الأخير أن مقالتي اليوسف ومقالة علي كامل قد حاولتا تطبيق بعض منجزات المنهج النفسي على شخصية المتنبي وبعض من شعره ، فلقد اتسمت دراسة اليوسف بتداخل مستويات التحليل ، إذ لم يلتزم بطريقة محددة المعالم من طرائق التحليل النفسي ، غير أن ما يبدو أساسيا في مقالتيه هو دفاعه المستميت لإنصاف المتنبي، فالمقالتين في العمق لهما طابع سجالي، لأن محاوره الضمني هو كل الدارسين - عربا ومستشرقين - الذين سعوا إلى تبخيس والحط من قيمة شاعر العروبة ، وما هذه الاستماتة في الدفاع عن المتنبي سوى انعكاس لحاجة اليوسف إلى الدفاع عن حاضره المهزوم ، وهو الفلسطيني الذي رأى وطنه ينتزع منه وشعبه مشردا ، لقد كان في حاجة إلى توازن وجداني وإلى دعامة روحية وقد وجدهما في الزخم القوي وفي التيار الفياض لما يجيش به ديوان المتنبي من دعوة لإرادة القوة وتمجيد الذات والتصدي للآخر ، لذا ألفينا اليوسف يعدل من عقد المتنبي ويعتبرها عقدا إيجابية ذات دافعية مثمرة.
وهنا نسجل أن القراءة التي قدمها اليوسف للمتنبي تعكس بالأساس همومه وانشغالاته الحاضرة، فتركيزه على تحليل الأنا والذات المتعالية عند المتنبي ، والتقاطه العميق للأزمة السياسية وللتفاقم الحضاري كل هذه الأشياء هي مواطن اهتمام اليوسف بسبب تماثلها مع الشرط الموضوعي للقراءة.
في حين أن علي كامل اكتفى بتطبيق بعض المقولات في التحليل النفسي ، وظل ينقب عنها في شعر المتنبي، دون أن يترك للنص الشعري فرصة المفاجأة ومن ثم فإنه وقع في شرك ما اسماه جان ستاروبينسكي بالدائرة التأويلية ، حيث لم يتوصل في النهاية سوى لفرضية البداية.
إذن فما هو الجديد الذي قدمته هذه الدراسة لإضاءة شعر المتنبي ؟ من خلال تحليلنا لم نر جديدا ، إذ لم تعمل هذه الدراسة سوى على تسمية ظاهرة بارزة من خلال منطوق شعر المتنبي ، وقد تنبه لها القدماء فكبرياء المتنبي وجنونه بالعظمة هي من الأشياء التي كانت تغيظ معاصريه. ونتيجة لما سلف فدراسة المتنبي من وجهة نظر التحليل النفسي الكلاسيكي كانت كلها تتشابه من حيث النتائج ، ولم تعمل سوى على تسمية ظواهر نفسية متداولة في أغلب الدراسات التي تبنت منهج تاريخ الأدب .