عرض مشاركة واحدة
قديم 06-03-2012, 11:17 AM
المشاركة 798
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع الجزء الثاني من الحوار مع عبد العزيز مشري
(12) - تقوم التقنية الكتابية لمعظم أعمالك السردية على دور الكاتب العليم بكل شيء فتحاول إخفاء شخصيتك ككاتب لتعطي الإنطباع بالحيادية لكننا كقراء نستطيع أن نبصر دهاءك الفني ونراك في هذه الشخصية أو تلك.. لماذا اخترت هذا الأسلوب ولم تجعل بطل النص راوياً إلا في بعض أجزاء الغيوم ومنابت الشجر " ؟
وفي " ريح الكادي " التي تعد من أعمالك المتميزة يبرز الصراع الدرامي في القرية بين ثلاثة أجيال تتعرض حياتهم لعملية التغيير.. ترى لماذا نراك تختفي خلف الشايب " عطية " وأي دلالة عميقة تود أن تطرحها بهدوء من خلال ذلك الموقف ؟

* - لا أعرف كيف يقرأ القارئ أعمالي لكنني أواجه بمثل هذا السؤال وغالباً ما يكون عن شخصية الكاتب وأين هو طفلاً وصبياً ورجلاً ؟!
إن مسألة البطل الفرد لا تحظى باهتمامي ولا عنايتي في كتاباتي عموماً، ثم إن الكاتب هنا هو جزء من كيانات متآلفة وتحمل صفات المجتمعات البشرية في خيرها وشرها والكاتب يتفاعل مع شخصية أولى وشخصية ثانية وهكذا .. غير أن شخصية الكاتب لا تدير النسيج السردي حسبماً تريد مما لا يتعامل مع الواقع أو يجعل الشخوص أبواقاً مدجنة تنفخ بما يملؤها به الكاتب ..لقد حاذرت دائماً على ألا تأتي هذه الشخصية – الكتابية – كأنا مثقفة تدير من أعلى الجبل الناس والبهائم والأشياء المؤنسنة حسب رغبتها أو ميولها الشخصية المزاجية.. لا شك أبداً ودن أدنى التبريرات أن الكاتب لا يكتب خارج وعيه وبالتالي فإنه قد يكون في مناطق الصيد و الإلتقاط، وليس بالضرورة أن يكون مجمعاً في شخص بعينه في النص .
أما عن " عطية " أو " عاطي " .. فقد كان يحتل الرمز القروي في كتاباتي القصصية الأولى وما لبث الكاتب أن أكتشف أن هذا الرمز يمكن أن يتوفر في أغلب الشخصيات المُعَانيَة الوفية الكاملة بكل صدقها العفوي مع عالمها ومعايشتها له ودون أن يكون ثمة ميزة محددة، وهذا هو الغالب وإلا فكيف تأتي برواية تحشد فيها كل أهل القرية .. أنت في حالة شبه انتقائية لعدد من الشخصيات المتوافقة مع درامية العمل ومتناغمة حسب الضرورة مع" بانوراما" ذلك العالم الذي تكتب عنه في إطار خصوصيته الاجتماعية و المكانية .

** ** **

كان الوقت يجلدنا والكلام يأخذ منا مآخذ المجابهة منتصف الليل وقلت : يا عبد العزيز سأذكرك بطرفة من طرائف الحوادث التي تحدث في القرى : روى آباؤنا أن مجموعة منهم ذهبت إلى قرية أخرى لتطلب منهم المساعدة في جمع " دية " شخص غريب قتل خطأ في نواحيها، وحين التقوا بشيخ تلك القرية وبعض وجهائها لاحظوا عدم حماسهم للمساهمة، فقام أحد أفراد المجموعة وحلف على أهل القرية الأخرى بأن يخرجوا إلى ساحة الدار للتشاور في أمرهم، (لأن التشاور سينبثق عنه شيء وإن كان قليلاً، كمساهمة مالية من قيمة الدية المطلوبة وقد نجحت الفكرة( !
الوقت الآن منتصف الليل يا عبد العزيز ألا تأكل ؟
قال : لم آكل ولن .. فهذه اعتبرها فترات مائية.. أنا آكل الماء فقط ! قلت له وقد بلغ العناء مني ومن بعض الأصدقاء المرافقين مبلغه: حلفت عليك أن تتشاور مع "أخوك " أحمد في أمرنا !
تشاورا همساً .. وخرج أحمد من صالة اللقاء وأخذتنا الأحاديث الجانبية ثم عاد أحمد بإبريق الشاي وبعدد من السندويتشات .
قلت لأحمد : كنت اختلس السمع لثغاء الشاة أو التيس تحت حد السكين ؟ فضحك أحمد وقال الله يرحم أيامها ، قال زميلي : نحن نعذركم فإذا لم يتوفر الخروف فليس أقل من " ديك الشيبة " الذي تحدث عنه " الصاحب " في رواية الحصون .
أجابه أحمد : أنت في جدة يا صاحبي ولست في قرى الجبال .
تشاوروا فينا يا عبدا لعزيز!!
ضحك وقال لقد بلغت المشورة سندويتش الجبنة .. فهنيئاً مريئاً ما تأكلون !

( 13) - للأمكنة كمين كما تقول فوزية أبو خالد ، وهذه الأمكنة تتغلغل فينا حباً وكرهاً ..شجناً وأسى ، وأنت قد تنقلت من قريتك في منطقة الباحة إلى الدمام وأقمت بها لسنوات طويلة ورحلت إلى القاهرة وقضيت أوقاتٍ متباعدة في الرياض ثم استقر بك ريح " الجاردينيا " في جدة .
حدثنا عن رائحة المدن وعن المناخ الذي اندمجت به اختياراً أو قسراً وما هو انطباعك الثقافي والاجتماعي عن هذه الأمكنة .

* - المكان كما تقول الشاعرة " فوزية أبو خالد " كمين .. لكنه ليس كمين يبث في الداخل رائحته وإنما يترك أيضاً نوعاً من الحوار يخاطب فيها جميع جوارح الإنسان .
لو افترضنا تجريد المكان من هذه الخاصية الإنسانية الكبيرة والمنظومة من عدة تراكيب دقيقة وجزئيات .. فإنه لن يختلف عن أي موقع للحياة أو المصادفة .. بحراً أو صحراء أو صندوقاً من الخشب لا مكان له .. ستصبح الحالة أشبه بزمن " مكتسب " ففيه عمر يقضى بأية صورة بلا حس حتى تنتهي .
قد لا أتحدث هنا عن إيجابية المكان – كمحور ارتكازي – في العمل الإبداعي بقدر ما أعنى منطقية ضرورية في حياة الإنسان برغم الرضى والمصالحة معه من عدمها .
عندما كنت أعيش في القرية إلى سن أول العشرين .. لم أكن لأعرف العالم بمحيطاته وأناسه واختلاطات إيقاعاته وسهوله و جباله .. سوى بحدود طلوع الشمس من مشرقها خلف الجبل الكبير المقابل للبيت من بعيد، وللحصن القديم الذي تلتف حوله برتقاله الشمس النحاسية في الغروب .. هذه حدودي التي التقطت في تفاصيلها عالمي الأليف والحبيب والشقي أيضاً بآلامه وحرمانه، لكنه كان حميمياً ومتغلغلاً في انسجتي وخلايا ذاكرتي وجوارحي .. للحجر – مثلاً – معنى واحد ملتصق بقساوته وصخريته الصلبة وهندسته ووزنه الذي يعني لك تفصيله شبه مدركة الثقل والنوع واللون، لكنه يبقى صخراً في ثنايا ذاكرتك أينما ذهبت ما لم تضف إلى معرفتك معارف إضافية جديدة .. تختلف باختلاف درجات استيعابها ومكانها وزمانها .
دخلت المدينة فرأيت الصخر غير الصخر والحجر يأخذ خاماً آخر تعرف مكوناته ولا تعرف حميميته المجهولة التي ارتبطت بها في ثقافتك القروية الأولى .. رأيت حجراً يستخدم للبناء من الأسمنت والرمل المقولب ومساكن تقام في عز الصحاري والبحار .. دفعة واحدة انتقلت من آخر حدود الجنوب الغربي إلى آخر حدود الشمال الشرقي .. من الجبل إلى البحر ومن الوديان إلى الصحاري بالطبع كان عليك أن تتعايش مع بيئات جديدة .. كذلك مهما جاهدت في تلوين وتغيير الحجارة .. لن تستطيع أن تغير ما في داخلي.. لقد أخذت الصخر الذي تقطع منه الحجارة في النشأة الأولى معنى محدداً تلمسه وتحسه بكامل قنواتك المعرفية ولكنك تكتشف أن الحجارة ليست سواء .. هذا صحيح تجاه كل الجوانب الحياتية الأخرى التي تقابل الشخص باختلاف المكان، وفي مدينة " الدمام " على بحر الخليج العربي بشمال شرق المملكة .. كنا نبحث عن شكل الصخر أو الجبل أو الحجر .. يقولون ثمة جبل في المنطقة الشرقية اسمه " جبل الظهران " وسمعنا عنه من آبائنا الذين التحقوا عمالاً أميين بشركة الزيت .. منذ قبل مجيئنا للحياة رأينا حيزاً صخرياً تشقه عدة طرقات للسيارات ثم ما لبث بعد أن التصقنا به .. أن انطمس .. فُـتك به حتى ُسوي به الأرض.. فكنا في مواسم الصيوف نقطع آلاف الأميال بالسيارة إلى الجنوب وأول ما يبهجنا نحو الجنوب منظر الجبال وأشجار الطلح و"القرض " والسدر ورائحة الفضاء الواسع النقي .
بالطبع أنا لا أعني أن الأمكنة يجب أن تساير مطالبي .. لكنني وجدت قلمي يسعى لإعادة تراكيب الأشياء بحكم مرجعية ذائقية ودون الوعي بهندسة الأمكنة الجديدة وملابسات ضرورياتها وبيئات أنسانها. في " القاهرة " حيث البعد الشديد اجتماعياً وبيئة ومعيشة وفي عمق الليالي الموغلة في الغربة ولأسباب غير اختيارية .. كتبت رواية " الوسمية " بحميمية ومرجعية معيشية دقيقة لكنه يبقى المكان "القاهرة" كمين آخر له مواصفاته ونماء ثقافته وأناسه و.. إلخ .
في " لندن " الضبابية .. عرفت طعماً آخر للضباب الذي عرفته في الجبال السروية وبطبيعة الحال والمكان والزمان .. رأيت ضباباً يعايش الإنسان ويختلط بيئته وشارعه ومكان عمله وملبسه ومأكله ومشربه وكان الضباب يعني لي دائماً – يعود للمرجعية البيئة القروية – وجود البرد والعواصف والمطر وانتظار تصريح الأهل بعدم الذهاب إلى المدرسة .. جميل هذا وقبيح في مكانه وزمانه البعيدين .. فقد اتخذ لغة أخرى وسلوكاً آخر .. بمعنى صورة وذائقة أخرى وبقيت له صفة المكان لكل معانيه وأشكاله .. وهكذا .
وفي ولاية " فلوريدا بأمريكا .. عشت أياماً بالغة القسوة ألقيت بكل حديث حضاري عن أمريكا .. هناك خلف سواحل الأطلسي لقد رأيت الخضرة والجبال كأنما صنعها الإنسان بمادة بلاستيكية لكنه لم يستطيع أو لم يفكر في تغيير رائحة الطين الذي كنت أنزل إليه في الحدائق كعصفور ينحت بمنقاره بحثاً عن ألفة عظيمة مفقودة .
ما لمسته هنا أو هناك تجاه الأمكنة .. لا يعتمد عليه كقانون، فهذا قانوني أنا أو تلقائيتي الشخصية مرتبطة بحالتي وظروفي وذائقتي وإنسانيتي .. لكنني لا أستطيع أن أجعل من المكان رداءاً أخلعه متى شئت وكيفما أتفق .
هل المكان هو الجغرافيا أم أنه شيء آخر ؟
بالطبع يا صديقي .. المكان ليس مجرداً عن التقائك في الحياة المعاشية أو النفسية مع الآخرين .. المكان يتأنسن بعلاقتك مع الإنسان الذي يشغل ويغير ويؤثر في هذا المكان.
لذلك تأخذ الأمكنة حميمية الإلتصاق بالنفس والذائقة والذاكرة .
لم أفكر ذات لحظة في العيش خارج مدينة " الدمام " فقد ألفتها إلى درجة العشق.. احببتها حباً إنسانياً تفصيلياً.. فيها تعرفت على الأصدقاء ..على الانفتاح نحو ثقافة جديدة .. الثقافة المعرفية بالذات وصياغات التعامل الذاتي مع الحياة والأشياء.. المعرفة الحقيقية لمعنى التجربة الانتقالية من براءة القرية إلى ترس الطاحون المدني .. كنت أمام امتحان يومي في كفاءة الذات وفي كيفية التعامل مع العالم القريب والبعيد .. مع الغذاء والماء ونوع الخبز ومعايشة الدواء، و إقامة سلوك جديد مع وسيلة جديدة اسمها " قيادة السيارة " والعمل اليومي حسب اشتراطات الوظيفة .. لم أكن اعتمد على جرس الساعة ولم أخل بالتزام مع الآخر .. كنت دقيق الالتزام وفي مرحلة عنفوانية فكراً وممارسة ولم تكن مآسي الحياة مرة كما هي كسباً ثقافياً ودروساً .
فجأة أخذتني أقدار الصحة إلى " الرياض " .. فكنت أهرب من المستشفى في السابعة مساءاً لكي أعود إلى بيتي في مدينة " الدمام " اقضي نصف الوقت في الطريق ( 3-4 ) ساعات وأعود إلى غرفتي بالمستشفى قبل السابعة صباحاً ..لا تقل إنني كنت مجنوناً .. لقد كان هذا يحدث وفي حالة إغماء فالظرف الصحي كان صعباً. عرض علي الأصدقاء بـ" الرياض " رعاية صحية وعملاً ملائماً بالصحافة مثلاً ومسكناً .. لم أوافق.. كان اليوم يمضي كشهر .. أرغب في النفاذ بأية صفة إلى " الدمام "
الأطباء يتعاملون مع المريض كحالة جسدية فقط فيسقطون ضلعين من مثلث الصحة النفسية والاجتماعية.. لم أعد من الرياض بنتائج إيجابية .. برغم العناية .. عدت مريضاً – كجورب محموم إلى الدمام .. لكنني كنت سعيداً ودخلت في تصالح جديد مع الحالة وهنئت قليلاً قليلاً .
هل يمكن اعتبار المكان " الدمام " معطفاً تلقيه عن كتفك لمجرد دخول موسم الصيف .. لا اعتقد أبداً ولكنك أيضاً لست مخلوقاً لموسم واحد بصفاته وحواشيه في الحياة ! فجأة .. أيضاً وبصورة غير متوقعة أبداً رأيت أن المعيشة في الساحل الغربي بمدينة " جدة " .. تتصالح مع الظرف الصحي المكتسب تجربة، فقد أحسست بتحسن ملحوظ وبأصدقاء جدد وبألفة قديمة مفقودة تجاه شجرة " الحناء " وبقرب المدينة من الجبال السروية.. أما المسألة الصعبة حقيقة .. فقد كانت تقليدية التعامل – خاصة الأقرباء – لقد كانت امتحانا جديداً مراً .. كانت ضريبته كبيرة في أوائل الأمر .. ربما وبحكم العذر الصحي الذي استخدمه بإيغال شديد أحياناً .. استطعت أن أتأقلم أو يتأقلمون مع " هذا المريض " المسكين .. اسكنهم الله واسكن المسلمين واسع جناته .. آمين .

اطلَّ أحمد من الباب وقال : تفضلوا حياكم الله .
انتقلنا إلى غرفة أخرى وكان تراث الأجداد يعلن عن حضوره، حيث أعلن رأس الخروف المفتوح بلسان مائل إلى اليمين عن وليمة تليق بتراث العائلة . إنهمكنا في الأكل ونسيت عبد العزيز ولكنني فوجئت به يشمر عن أكمامه ويستبدل أكل الماء بالمائدة الدسمة ، تبادلنا الأحاديث القصيرة ولكن عبدا لعزيز كان يأكل بلذة ما ألفتها منه بل أنه لم يشاركنا التعليقات العابرة .
- هل تظن الخروف ماء يا آكل الماء ؟
أجاب باقتضاب: هذا خروف ما بعد الحداثة والخدماتية والاستهلاكية .
- لكنه لذيذ وسريع والتجهيز .
صحتين على قلبك
فرغنا من الأكل وخرجنا إلى الحديقة الصغيرة بجوار الكادي وحوض الريحان وبين ارتشافات كاسات الشاي وصوت قرقرة الأرجلية أردت استعادة حيوية الحوار فسألت عبد العزيز :
لماذا تأثرت باللهجة الشامية التي تستخدمها في سياق حديثك أكثر من تأثرك باللهجة المصرية التي كانت هي لهجة زوجتك الأولى والأخيرة والتي كانت تناديك "عب عزيز"..؟
تنحنح قليلاً وقال : أولاً ..فال الله ولا فالك .. وثانياً .. الله يمسيها بالخير .. وتاسعاً شو بدك في هالسيره ..
- كيف قفزت من ثانياً إلى تاسعاً
أمرك سيدي .. والسبب في رأينا يعود إلى أن الأمور متشابهة أو متماثلة أو بليدة فالأول والآخر سواء أما بالنسبة لاستخدامي اللهجة الشامية أكثر من المصرية فيعود إلى ذوق شخصي بحت أرى أن الشامية تعطيك المعنى بصيغة أكثر حضوراً أو تجديدية، أما المصرية فإنها تستخدم نفس الكلام لمئات الحالات.
كانت الطائرات تحط في مطار الملك عبد العزيز وكأنما وضعت علامة على بيت عبد العزيز ابن مشري لتبدأ إنزال العجلات فوق سطحه فانقطع الكلام مراراً . وحين أردت معاودة طرح الأسئلة كان صاحبنا قد ملّ الحديث واستلم للخدر الذي يعقب الأكلة الدسمة. وسألته هل تريد مواصلة الحوار قال بحدة: اشغلتني يا ولد بهذي الأسئلة " ما معك ضيعة ولا بيعة تشغلك عني ! "
أدركت أن الوقت قد أسلم مقاليده للتوقف وأعطيته ما تبقى من أسئلة ليجيب عليها بطريقته .