الموضوع: المسافران
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
7

المشاهدات
3847
 
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


ياسر علي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,595

+التقييم
0.38

تاريخ التسجيل
Dec 2012

الاقامة

رقم العضوية
11770
05-31-2013, 05:22 AM
المشاركة 1
05-31-2013, 05:22 AM
المشاركة 1
افتراضي المسافران
استوى على الصخرة قبالة البحر يتأمل أمواجه العاتية التي تصفع بشدة وجهها المشقوق فتزيد من غور جراحها وتذكي آلامه ، تأمل وجه القدر الذي وضعها أمام مارد لا يمل الزحف والعراك ، تراءت له نتوءاتها النازفة و أخاديدها الغائرة كجمجمة تآكل لحمها وأصبحت مسكنا للرعب ، تمالكته قلة الحيلة و تأففاته تتوعد خرير البحر المتعالي على أنين الصخرة التي تواجه مصيرها بشرف ، تذكر أيام الطفولة النزقة واجتهاد المدارس ، استرجع كده المتلاحق ، أين حذقه الذي كان به يهادن ، و قوته التي بها كان يجابه ، و كبرياءه المتين و قدرته على التجاهل و اللامبالاة ، أيقن بمرارة استنزاف رصيده من الصمود كأنه الصخرة التي تأويه وقد أتاها البحر من جذورها يجتث حياتها و يجعلها مسكنا لذوات القواقع .
تساءل عن جدوى المقاومة إن كان الأمل معدوما و الحب مسجونا والرغد يفر منه كما تفر الحسان من القبح ، ما عاد في نفسه متسع للرحمة ، و ما عاد في قلبه فسحة للنبض ، استسلم فيه الإحساس فلا هو قادر على معانقة الفرح ولا مؤانسة البكاء ، استنشق هواء واخزا آتيا من أعماق المحيط الضابح لعله يستفز بعضا من همته المتلاشية لتنفيد آخر خطوة يمحو بها كل ما سلف و يصبح ذكرى بلا موضوع .
استجمع شتاته و فتح عينيه الذابلتين و جال بهما وكأنه يودع أطياف العبث الذي أفجعه ، لمح خيال امرأة تهرول نحو الماء بخطواتها المتثاقلة المتعثرة ، كلما سقطت همت بالنهوض مسرعة نحو البحر ، يراقب اللوحة بذهن أجوف بالكاد أقنع نفسه أن مكروها يدنو فطفق يبحث عن ممر إلى الشاطئ الرملي ، البطلة تخترق المياه و ملابسها تعيق انسيابها والأمواج المتكسرة تبطئ تقدمها ، لكن عزمها لم تنل منه صيحات البحر الهادر ، ولا زفرات ذلك اليائس الخامل الواهية الذي تقدم نحو الماء البارد مستعيدا صحوه المخدر على ظهر الصخرة .
عانقتها زبانية البحر بأطرافها الممدودة ، فعلا بها الموج لتصافح السماء وتودع النوارس الحائمة ، تلاطمت الأطواد مرحبة بالزائرة التي تضاءلت كقشة تذروها الرياح ، صاحبنا يجدف نحوها وهو ابن البحر العارف بأسراره و خدعه التي تتتابع في دوامات ومتاهات ، طيف ماء حمل الجسد الناعم و لكف المارد المستعر سلمه بينما العوام يجابه الأمواج العرضية و المتراجعة باحثا عن هودج العروس العائمة ، غالبه المتنمر فاستسلم لبرهة و هم بالسفر إلى وجهته التي كان بها حالما ، احمر لسان موجة بجلباب جسد غارق في سبات العذارى ، فانبجست الرجولة من هشيم وساويسه و انقض على الكفن الأحمر رافعا رأسها إلى النور موقنا من إخراجها من أتون هذا الغاصب الجبار ، هادن الأمواج تارة وقاومها أحيانا حتى أحس برجليه تلامسان الأرض .
على رمال ذهبية نشر حمله الثقيل ، هم باسعاف الصريعة فضغط على صدرها الناعم فلم تستجب ، نفخ في فمها البارد المالح فلم تمانع ، صفعها بكف مرتجفة فلم تتوجع ، أربكته رائحة الموت فابتعد عنها خطوتين هاربا من جنون القدر ، لكن عناده يستثيره ، إصراره لم ينكسر يوما ، طوال حياته لم يتذوق طعم الاستسلام المذل ، رجع إلى الجثة معاودا الكرة بحزم ، مع كل ضغطة زفرت ماء ، ومع نفخته سعلت بقوة منتفضة ويداها تصدانه ، واجهته قائلة : " ابتعد عني ...ماذا تريد ؟؟ " و أجهشت بكاء دافنة وجهها في مدها .
نظر إليها نظرة ذهول ، تراجع خطوات واستدار مستقبلا الصخرة . خطواته تتقدم ، لا يعلم مصابه ، يريد الاستكانة على الصخرة منصتا إلى وقع الأمواج عليها ، يخيل إليه أنها طبول تقرع ، مدافع تطلق طلقات النصر ، تفجيرات تهتز لها مدائن نائمة ، رعود هي قاصفة ، دب الألم إلى أذنيه ، رفع رأسه على امتداد الأفق فلا يرى غير ماء يزاحم ماء فينهمر على وجه الصخرة مقبلا ، قبلات بطعم السوط ، يا لك من جلاد لا يقهر أيها البحر الجامح .
خشخشة خفيفة جعلته يسترد انتباهه ، ملابسه بجانبه مطوية تذكر أنه كان يرميها على الشاطئ تباعا عندما هم بإنقاذها ، نسي جمعها عند عودته ، استدار فوجدها محمرة الوجه خجلا و قد تخلصت من ملابسها المبللة تنشرها على الصخرة ، و الشمس تنشر أولى أشعتها مالئة البحر لؤلؤا وضاء .
مد يده إلى محفظته التي تشغل حفرة عميقة ، أخرج منها فوطة وقدمها للبطلة ، نشفت جسمها وقدم لها معطفه الطويل فشكرته على صنيعه ، جر سجارته نافتا أكوام الدخان على وجه البحر ، أحست بتحرجه ، فحدتثه قائلة :" أيربكك جلوسي بجانبك؟" رد عليها بنظرة غير واضحة ، بينما ركام الدخان يغادر فمه لتعبث به ريح قادمة من المحيط ، أذخلت خنصرها في أذنها تسحب منها ما بقي من مياه مالحة قائلة : " شكرا لك على إنقاذي " رمى اللفافة مجيبا :" أنت تنتعلين حذاءك " فردت :" نعم تخلصت منه عندما كنت متجهة إلى البحر ، كان يسقطني ..." تتحدث بنغمة ناي ، استرق نظرة إلى ركبتيها الملتصقتين وساقاها الممتدتين و قال : " كيف أصيبت رجلك ؟ " فأجابت " خدشة بسيطة إنها الصخرة ، جرحتني خشونتها و أنا أتسلقها " .
استغرق في صمته محاولا السيطرة على أحداث هذا اليوم ، أنه لا يحب أن ينفلت العقال من يده ، يحتاج إلى مزيد من الوقت لمؤانسة تسارعها و تواليها كما تتوالى الأمواج عند قدم الصخرة وقد هم بالرجوع احتراما لصمودها ." البحر هائج" هكذا نطقت محاولة كسر جمود جليسها ، قام إلى ملابسه يرتديها وقد أحس انتعاشا في بدنه ودفئا يغمره وفتوة باهرة تملأ أخاديد انكساراته ، إشعاع أمل يكنس ضباب يأسه ، رفع رأسه مبتسما لها مسترسلا في نظرته كاشفا مستكشفا ملاحة وجهها المستدير كالبدر ليلة اكتماله ، هي أيضا لم يفتها تغير ملمحه و انكشاف غمته وذهاب حزنه وإشراقة وجهه كنور الشمس التي بدأت تبتعد عن الجبل الجاثم على أطراف البحر .
حياتي أخيرا ينتهي مخاض عمر دام أعواما ، أخيرا اهتديت إلى الحل الأمثل ، كثيرا ما حز في نفسي انزعاجك ، و أوجعني رؤية بؤسك ، و ألمتني كآبتك ، و أربكني ثوبك البالي ، و وجهك الشاحب الذي فارقته دماء الشباب ، آسف أنا من رؤية بذور سوداء تنازع سواد شعرك ، آسف عليك إن تكالبت عليك المصائب ، آسف ما بيدي حيلة ، صبرت حتى أضحى الصبر على كتفي ثقيلا ، ألم تفكري يوما أني سأمل ، أنت التي كنت يوما بثولا تغار منك العذارى ، و تبغيك القلوب اللهفى ، و تتغنى بك القرائح شعرا ومديحا .
حياتي ، لا تفكري يوما أني خائن عهد ، و لا ناكر جميل ، و لا قاتل حب ، لقد حاولت أن أتعود على قبحك ، و أجاري هلوستك ، و ألاعب بأسك ، وأهادن ثورتك ، و ألاين مكرك ، قد يقول قائل أني أفرغتك من روحك وجمالك و غادرت ، لا لم أفعل ، منحتني يوما حبا وحسنا ولباقة ، أعطيت وأجزلت كرما ، أما اليوم فكما غاليت سخاء فقد أمعنت تقتيرا وبخلا وشحا .
حياتي
ما حاجتي لوداعك ، و لاستسماحك واختلاق الأعذار ، قررت ولا أبالي إن كان صوابا أو خطأ ، وقد قلت كفي إن كان مريعا أو لائقا ، اتسعت الفجوة بيننا ، زواجنا كان مجرد صدفة و نكتة ، لا أنا ارتضيت ولا أنت تمت استشارتك ، كلمة أخيرة هي عنواني الجديد : " الفراق؟"
قرأت البطلة الرسالة عندما ذهب لاحضار بعض طعام في البلدة المجاورة للشاطئ ، خلسة وجدتها وخلسة قرأتها ، ثم أعادتها إلى جيب المحفظة ، وبدأت في ارتداء ملابسها وهمت بالفرار من هذا الوحش الذي كاد قلبها له يلين .
تتكرر الرسالة في ذهنها فتتعجب كيف يصل الغرور بالبعض هذه الدرجة من الأنانية ، كيف يرمي بذاكرته كلعبة بئيسة ، كيف يمضي مرتاح الضمير بلا جراح ، بلا وخزة ضمير ، هذا منقذها يحيي نفسا كادت تزهق ، و يقتل نفسا لا ينكر أنها من وهبته الحياة والأحلام ، مفارقة لم تجد لها منطقا ، خير و شر في نفس واحدة .
فكرت في الهروب وهي تراقب من على الصخرة اكتساح المصطافين للشاطئ ، كرات تنط بين الأيادي الناعمة ، أجساد ترتوي ماء ، و أخرى ممدة على الرمال تهدهدها الأشعة الدافئة ، رأت شبابا كلهم أمل وحياة ، أشفقت على نفسها البئيسة و ما أقدمت عليه صباحا ، كيف تغيب في النفس هذه الإشراقات ، هذه الظلات القزحية الألوان ، هذه النسمات التي تصافح الأجساد بحميمية ، كيف استسلمت لغيرة حاقدة كادت تخطف منها حياتها و تسلمها لغياهب السراب ، كيف نال منها الظلام وهي شمس تملأ الدنيا ألوانا سعيدة ، مازالت سابحة في بركة التأملات حتى سمعت خطوات على الصخرة تنثر حصيات دقيقة .
" جئتك بخبز و علبة أسماك و مشروب غازي ، وبعض تفاح "
" أنا ذاهبة ، شكرا لصنيعك"
نظر إليها نظرة استغراب وقال : حسنا فعلت الصواب ، قالها وصوته لا يكاد يسترسل ، وغصة الوحدة تلفه مستدركا : رافقتك السلامة ، اعتلت الصخرت متسلقة شقوقها فأجابته : " ما بال الرسالة؟" وعندما أفرغت حمولة هواء كأنها تصعد السماء واصلت :" أنت قتلتها ودفتنتها بلا رحمة ، كيف لشخص مثلك أن يفعل هذا ؟ " وحين تجاهلها أضافت : "أنت سفاح"
و لما مسحت دموعها رد عليها ،: أنت أيضا قتلت نفسك ، كيف هو طعم الموت ؟ رجعت نحوه تستشيط غضبا : أنا قتلت نفسي ، أما أنت فقد قتلت نفسا بريئة بعد أن أسكنتك حضنها ، و قطفت ثمارها و أنهكت سحرها "
" لا تعاتبيني ، فلا أحدث إلا نفسي ، وما كنت فاعلا إلا ما اقترفت ، جئت إلى الصخرة لأودع عالمي ، لكن ظهورك أربك مشروعي ، وأجل نهايتي "
سكتت برهة ونطق لسانها :" لا تفعل ، أنا عشت هذه التجربة ولا يتسع قلبي لذكراها ، أحمق من يتمنى الموت ، معتوه من يوذي روحه ويدمرها ، رأيت الموت و جبروته ، رأيت أسنانه المكشرة ، و أنيابه الحادة ، رأيت شرر عينيه الفائرتين حمما من الرعب وأهولا من الخوف و غيوما من الهلع وركام دخان من القنوط ، لا يقبل بغير الخضوع ، يذيقك الذل بمهانة ، لا مقاومة تجدي ولا نواحا ينفع ، لا الاستسلام يقيك بطشه وخبثه ، إن صارعته استحلى نفورك ، و غرس أنيابه في كبدك ، و مخالبه في قلبك و قرونه في أنفك ، وحقنه المسمومة في عقلك ، و أشواك جسمه القنفذي تحيطك من كل اتجاه ، إن خضعت ضمك إلى نفسه ضما ، واعتصر ما بجوفك وأيقظ فيك كل ذكرى مؤلمة ، لحظات بعمر الدهر ، لم تنته إلا عند خروج المياه من صدري ، لا تفعل فتلك خطوة غبية "
أنهت كلامها واسدارت ماشية أمامه ، مازال يرقبها حتى اختلطت حمرة جلبابها مع ألوان الظلات والتهمها الأفق ، مزق الرسالة تمزيقا ، رمى وريقاتها للبحر المتقدم نحو الصخرة يبلسم جراحها و يؤنس وحدتها .
ابتسم ضاحكا و قال : " شكرا لقد أنقذت حياتي."