عرض مشاركة واحدة
قديم 08-08-2010, 10:55 PM
المشاركة 2
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: رسول حمزاتوف: آخر فرسان العصر
كان رسول يحب أن يتقاسم خططه وأفكاره الإبداعية، وكثيراً ما كان يطلب النصح دون أن يهتم لسن محدثه. فكان يثمِّن النصيحة الذكية، وأما الغباء فكان يهزأ منه بطيب خاطر.‏

هناك من اعتبره شاعراً رسمياً. لكنه لم يكن ينافق أبدا: لا عندما كتب عن ستالين في سنوات الحرب، ولا عندما صمت في زمن يلتسين... كان يؤمن بقدسية الوطن فقط بالوطن لا غير كان يثق، وعندما خاب أمله، فإنه غرق في التاريخ حتى رأسه وراح يؤلف حكايات وأساطير أفارية. لم يكن لا رومانسياً ولا مثالياً. وأما لقب شاعر البلاط، الذي حاولوا إلصاقه به، لم يكن ينسجم مع صورته. كان رسول يتقلب ويتحرك مع البلاد وهو يحاول أن يخمن طريقها، بالإضافة إلى أنه كان يعمل كثيراً. كان قد أصبح رسول حمزاتوف آخر ـ ذلك التراجيدي، الفيلسوف.‏

لقد استطاع أن يكتب الكثير بلغته الأم الأفارية إلا أن هذا الإرث لم يصبح في متناول الجمهور. وقد أراد من خلال كتاباته الحديثة أن يقول الكثير، وأن ينقل الكثير، وأن يعيد صياغة الكثير. لم تسنح له الفرصة. أعطاه الخالق شهراً واحداً فقط لكي يودع الدنيا، التي أحبها بقوة، ولأن يودع الأصدقاء والزملاء والعائلة، وموسكو حيث عاش أفضل سنواته. لم يكن رسول يضع نفسه في مواجهة المرحلة الجديدة، لكنه أيضاً لم يرغب في الانضمام إليها. لقد مشى في دربه الخاص، الذي كان وعراً إلى درجة لا تصدق. لم يتخلَّ عن أشعاره الباكرة، بل حاول ببساطة أن يعيد ترتيبها وتهذيبها وأن يعيد التفكير بها وبذاته، وبرؤيته إلى العالم في ذلك الوقت.‏

في بداية التسعينيات وجد حمزاتوف نفسه، كما الأدب بصورة عامة، على قارعة الطريق، من دون هبات وجوائز، براتب تقاعدي تافه. لهذا بالضبط انزوى وانطوى إلى نفسه. ولكنه مع ذلك كان يدافع بغيرة عن حقوق الكتّاب والأدباء. فقد كان على الدوام يعتبر أن الكتابة ـ هي علمُ الأمة وأن السلطة التي تتجاهل ذلك مصيرها الزوال:‏

كما لو بصوف ممشط، بالضباب‏

حُجب الأفق الشفاف ـ‏

حان وقت المشعوذين‏

واحتلَّ الأوتوستراد.‏

فما الذي ينتظرني خلف المنعطف،‏

ماذا ينتظر بلادي؟..‏

أيها الزمن، لقد أفلستَ أنتَ أيضاًَ،‏

ومن جديد أنت في الأسر قبل الأوان.‏

لقد كان رسول حمزاتوف مركز الكون الإبداعي في داغستان، حيث كان الجميع يتحدثون عنه وفي كل مكان. كانوا ينقلون عنه مقتطفات، يقرؤونه، وكانوا يمدحونه ويشتمونه، ولكنهم لم يكونوا غير مبالين به أبداً.‏

كم كان رسول حمزاتوف ضرورياً في هذه الحياة. من دونه صار العالم مختلفاً. لقد انكمش كالجلد المحبب (الشغران).‏

يرقد رسول حمزاتوف هناك، حيث كان يتمنى ـ عند سفح جبل تاركي ـ تاو، إلى جانب رفيقة دربه فاتِمات، وهو يرى المدينة بأكملها من هناك، المدينة التي أحب وكذلك البحر الذي تغنى به، كما بوشكين. ولن يعشوشب الدرب إليه وهو ـ كما من قبل، ليس وحيداً.‏

أدرك تحت سماء داغستان:‏

بينما أعبر آخر مضيق،‏

باكراً جئتُ كشاعر،‏

وكنبي ـ جدّ متأخر.‏

* * *‏

هذه ترجمة لبعض قصائد الشاعر:‏

(1)‏

داغستاني(3)‏

بعد أن زرت العديد من البلدان،‏

ورجعتُ إلى البيت تعباً من الطريق،‏

وقد انحنى فوقي، سألني داغستاني:‏

"أحيُّك البعيدُ أثار فيك الشوق؟"‏

صعدتُ إلى الجبل ومن ذلك العلو‏

أجبت داغستان، وقد تنهدتُ بعمق:‏

"لقد زرتُ مناطق كثيرة، لكنك‏

تظل الأحبّ في كل الدنيا.‏

ربما، أنا نادراً ما أقسم بالحب لك،‏

فلا الحب جديدُ، وليس جديداً أن نقسم،‏

أنا أحبُّ بصمت، لأنني أخاف:‏

أن تشحب الكلمة المُكررة مئات المرات.‏

وإذا ما راح كل واحد من أبنائك يقسم‏

بالحب لك، وهو يصرخ، كما المبشّر،‏

فسوف تملُّ قِممُك الصخرية‏

أن تسمع وأن تجيب بعيداً بالصدى.‏

حين كنت غارقاً في الدموع والدماء،‏

سار أبناؤك إلى الموت، مع أقل كلام،‏

وصارت أغنية الخنجر الأليمة.‏

هي صوت القسم لحب الأبناء.‏

ثم بعد، حين خفت المعارك،‏

راح أبناؤك، يا داغستاني،‏

صامتين يقسمون بالحب لك‏

بضربات المطرقة وبالمنجل الرنان.‏

لقد علّمتني كما الجميع خلال قرون‏

أن نعمل وأن نعيش بلا ضجيج، لكن بشجاعة،‏

علّمتنا أنّ الكلمة أهم من الحصان،‏

وأن الجبليين لا يسرجون خيولهم من دون حاجة.‏

مع ذلك، وقد عدتُ إليك من عواصم‏

بعيدة، غريبة، ثرثارة وكاذبة،‏

يصعب عليّ الصمتُ، وأنا أسمع صوت‏

جداولك الغنّاءة وجبالك الشامخة.‏

(2)‏

أحبك، يا شعبي الصغير‏

تُحسنُ لقاء الحزن بصرامة،‏

من دون دموع، بلا حيرة،‏

وتجيد أنتَ السعادة‏

من دون أن تتباهى.‏

أليست أغانيك هي التي تشبه‏

طيران النسر البطيء،‏

والرقصات ـ‏

مع الفارس، الذي يطير‏

حصانه، وقد نسي اللجام.‏

لم يبهت طبعك الأبيّ،‏

والعبرة في كلامك تعيش.‏

أوه، كم أحبك بقلب جبلي‏

أنتَ، يا شعبي الصغير!‏

في زحمة الجبال، حيث‏

من الضباب مجدول قيد غليظ.‏

قلبك دائماً مفتوح،‏

وواسع دوماً كما السهل.‏

القطارات ترعد عند قدميك،‏

ومن على كتفك تُقلع طائرة.‏

أحبك، كابن دولة جبارة،‏

أنتَ، يا شعبي الصغير!‏

* * *‏

(3)‏

إذا كان ألف رجل في العالم‏

إذا كان ألف رجل في العالم‏

مستعدين لأن يتقدموا لخطبتك،‏

فاعلمي، أنه بين هؤلاء الألف رجل‏

أكون أنا ـ رسول حمزاتوف.‏

وإذا ما أغُرِمَ بك منذ زمن بعيد‏

مائة رجل دماؤهم تجري كالهدير،‏

فليس بالغريب أن تكتشفي بينهم‏

جبلياً اسمه رسول.‏

وإذا ما أغرم بك عشرة‏

رجال حقيقيين،‏

دون أن يخفوا نيرانهم،‏

فمن بينهم، وهو يهلل ويجزع،‏

سأكون أنا أيضاً ـ رسول حمزاتوف.‏

وإذا جُنَّ بك واحد فقط،‏

يا مَن لا تهوى الوعود،‏

فاعلمي، أنه جبليٌّ‏

من قمم الضباب باسم رسول.‏

وإذا لم يغرم بك أحد‏

وحزِنتِ أكثر من أمسيات الغروب،‏

فاعلمي أنه في السفح البازلتي‏

للجبال قد دُفِن رسول حمزاتوف.‏

(1) الآول ـ كلمة أفارية تعني القرية الجبلية..‏

(2) المقصود هو حادثة المدرسة في مدينة بيسلان الروسية عام 2004 والتي ذهب ضحيتها عشرات التلاميذ الأطفال...‏

(3) داغستاني ـ هي الترجمة الحرفية لعنوان هذه القصيدة.. ولقد استخدم رسول حمزاتوف نفس الكلمات كعنوان لكتابة النثري الرئيسي "my dagestan = moi dagestan".. والذي سبق وترجمه الأديب الراحل عبد المعين الملوحي بالاشتراك مع الأديب والمرتجم الرائع الأستاذ يوسف حلاق إلى العربية تحت عنوان "داغستاني بلدي". وقد ارتأيت أن أترك العنوان كما أراده الشاعر بحرفيته وذلك للإشارة إلى التماهي بين "أنا" الشاعر الكبير وبين بلاده داغستان.. في زمن لم يكن يحق لأحد أن يمتلك شيئاً فكل شيء للسلطة بما في ذلك الوطن! د. استنبولي.‏

الموقف الأدبي العدد 427 تشرين الثاني 2006