عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
3

المشاهدات
1336
 
محمد فتحي المقداد
كاتب سـوري مُتألــق

اوسمتي


محمد فتحي المقداد is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
650

+التقييم
0.12

تاريخ التسجيل
Sep 2009

الاقامة

رقم العضوية
7788
03-26-2020, 12:09 AM
المشاركة 1
03-26-2020, 12:09 AM
المشاركة 1
افتراضي نافذة على كوورونا (قصة قصيرة)
(أدب العزلة زمن الكورونا)
نافذة على كورونا
قصة قصيرة

بقلم الروائي - محمد فتحي المقداد

[justify]ما إن صدر أمر حظر التِّجوال المُتوقّع لضرورته القُصوى؛ منعًا من تفشّي الوباء على نطاق واسع، خوفًا من خروجه عن دائرة السّيطرة كما حدث في إيطاليا؛ فسيكون مالا تُحمَدُ عُقباه.
كنتُ أحدّث نفسي بهذا الأمر، وأتمنّاه على أصحاب القرار أن يفرضوه. لم أتفاجأ عندما أخبرني الأولاد به، الذين تركوا هواتفهم لمتابعة الأخبار على القنوات المحليّة، تلبّسهم الخوف.. تحذيرات مُتتالية، غسل الأيدي بالصّابون لمدّة عشرين ثانية، عقب كلّ مُلامسة لأيّ شيء، عبوة (الهايجين) حازم لم يستغنِ عنها بجانب رأسه وقريبًا منه على الدّوام، وكان يضعها في جيبته أينما ذهب قبل فرض الحظر في البيوت. كلّ قليل يصبُّ منها نقاطًا على يديْه، ويفركهما ببعضهما.
تروقني حركاته الروتينيّة بهذه السّلاسة، لكنّه لا يتردّد في إبداء استيائه من ريم أخته الصّغرى عندما تمتدّ يدها إلى عُلبة (الهايجين) الخاصّة به دون استئذان منه، ويصرخ بأعلى صوته، إذا امتّدت يد أحدهم إلى كأسه المُخصّصة لشرب الماء، وكذلك المنشفة القطنيّة.
بدوري لا أتردّد بالتدخّل كما الأمم المُتحّدة بإرسال جنودها ذوي القُبّعات الزرقاء إلى بؤر النّزاعات المُصطنعة في العالم بمباركة دوليّة. أضحك من أعماقي المُتعبة المكتئبة، وأنا أُمثّل دوري بفضّ الخلاف المُفتعل بين حازم وريم، مُتدّخلّا بصلاحيّاتي.. استنادًا لما أمثّله كربّ أسرة، المُتماثلة مع صلاحيّات المنظّمة الأمميّة، بقرار فوريٍّ منّي مُترجَلٍ بلا تخطيط ولا مُوافقات بالأغلبيّة الخاضعة للتصويت ظاهرًا المُتوافق مع توجّهات الدّول العظمى.
يعمّ الهدوء المكان لبعض لحظات وتُنسى مشكلتهم، لنتراكض إلى الشّبابيك مع سماعنا لصفّارة سيّارة النّجدة، ويعلو صوت مُكبّر الصّوت فيها على شخص كان يمشي عند منعطف للطريق الرّئيسة، أعطى ساقاه للريح هروبًا، الدوريّة تتّجه بسرعة فائقة باتّجاهه، اختفى كومض البرق بين دروب وأزقّة الحارة العديدة.
الشُّبّاك نعمة كبيرة في مثل وضعنا، رغم شفافيّة البلّلور يبقى حاجزًا لانطلاق البصر في جميع الاتّجاهات، ويصعب إخراج الرأس خارج نطاقه، إلّا بإزاحته وفتح الظّرفة مع الخارجيّة ذات الشّبك الخفيف المانعة للنّاموس والذّباب صيفًا.
أوه..!! يا إلهي.. تراكم المُختزَن القديم في خيالي.. توارد أفكار أخذني بعيدًا، لذلك السّجين الذي يُزاحم زميله على النّافذة الصغيرة لرؤية الوجوه القادمة من الخارج، لعلّه يرى فيها أملًا قادمًا من الخارج، علمه يقينًا أن لا أحد يأتي لزيارته. سنوات حُكمه المؤبّد حصدت ما تبقّى من عمره مع والدته. آخر من كان يزوره في هذه الدّنيا.
أيّام خدمتي حضرتني جلسة جمعتني بعسكريّ استُدعي للخدمة الاحتياطيّة المؤقّتة، لا أذكر ما هي الأزمة التي استنفرت قوى الجيش السوريّ فيها لاستدعاء المدنيّين، وتعبئة النّقص المُتوقّع في الكوادر التي تُكلّف في مهمّات لوجستيّة ذات طبيعة حربيّة.
وضاءة وجهه المُدوّر ما زالت تتلألأ في مُخيّلتي وما بَهُت وهَجُها، نبرات صوته تأتيني من مسافة أربعة عقود، مع اهتزازة من رأسه، وهو يشير للقمر حامدًا لله بصوت مرتفع لنسمعه. يُعلمّنا درسًا بليغًا في رؤية الوجود من حولنا بنعمه العديدة، وأظنّ أنّ ألفة الأشياء تجعلها عاديّة في نظرنا؛ فإذا افتقدناها.. يبدأ بحثنا عن قيمتها بشكل حقيقيّ. وقال:
-"أيّام الاعتقال كنَّا نتناوب على رفع بعضنا لدقيقة واحدة على الأكتاف؛ ليتوازى نظرنا مع الكُوّة الصغيرة المُتساوية بارتفاعها لسطح الأرض فوقنا، لم نكُن لنُفوّت رؤيتنا لضوء القمر، فُسحة عظيمة لنا تأخذنا بعيدًا إلى أهلنا، وتُحرّقنا أشواقنا لهم، وأشدّ ألمي وأنا أتصوّر أمّي ودموعها، وحُزنها الدّائم عليّ، وفي كلّ يوم عند قرع الباب كانت تتوقّع من يأتيها بخبر يريح قلبها المحزون".
نظرتُ إليه مليّا، مـتأمّلًا قسماته الفرحة بالحياة، وللغبيّ مثلي بسؤال الجاهل:
-"وماذا يعني كان يعني لكم وقتها.. وأنت تحت الأرض في السّجن؟ ها نحن نراه سويًّا الآن..!!".
ضحك طويلًا واصبعه تشير للقمر.. بعد هذه المُدّة الطويلة أرثي لحالي وقتها أمام ذلك الشّاب الذي كان يكبُرني بسنوات تتعدّى العشر. وتابع:
-"مواضبتنا الدوريّة لمراقبة القمر.. نُحسّ منها أنّنا مقيمون على قيد هذه الحياة.. والعالم في الخارج لم ينمح.. قطار الحياة يسير.. النّاس فوق مشغولون بأعمالهم وصراعاتهم وأفراحهم وأحزانهم، كنّا نرجع بعد هذه الحفلة نحتسي آلامنا.. نلعق المِبرَد الخشن فتُدمى ألسنتنا، وتتورّم شفاهنا، نخرج من إسار الجُدران الصّلبة الكئيبة برطوبتها، أنا من جهتي كنتُ أتلمّس أعضائي واحدًا تلو الآخر، ونبضي عالٍ رغم انخفاض درجات الحرارة، التي ترتفع على وهج أنفاسنا المُتوقّدة لممارسة البقاء".
استرسالي البعيد في مجاهل الذّاكرة على وقع صمت الغُرفة أمام حاسوبي. حالة العسكريّ ذاك تُسيطر على مشاعري، صراخ حازم وريم الذي لا ينتهي، كسر قيود حواجزي العديدة، لأتوجّه إلى الغرفة الأخرى لفض الاشتباك النّاشىء. ودوري لا يعدو أن يكون كالحَكَم في مصارعة الدّيكة.

عمّان – الأردنّ
25 \ 3 \ 2020[/justify]