عرض مشاركة واحدة
قديم 11-02-2011, 09:13 AM
المشاركة 6
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
معالم الإبداع في القص عند



نجيب محفوظ



د . فاروق مواسي

تناول النقاد والدارسون أدب محفوظ بغزارة( 1 ) لا تكاد تصل إليها أية دراسات أخرى عن أديب عربي، وقد بقيت رواياته وقصصه مرمى لكل مستعيد ومستزيد.
وإزاء ذلك لا تبغي هذه الدراسة أن تستعرض هذه الأبحاث، ولا أن تنتقي منها مدعية من ورائها توليد معنى أو تحليل مبنى لم يعمد إليهما أحد. ولكنها تطمح أن تقدم للقارئ خلاصة رأي وزبدة مخَضتها من قراءات في أدب محفوظ وعنه.
وهذه الدراسة لا تزعم –بعد ذلك- أنها أول من أشارت إلى كَيْت وذَيت، فقد تكون ثمة تصورات هي أصداء لطروحات سبقت ، ولعل ما يشفع لها أنها تركيز لمعالم أكثر من كونها تعمقًا في عينّة ما.
فماذا قدم محفوظ للأدب العربي حتى حظي بهذه المكانة وهذه الهالة التي أسْطَعتها –بشكل أو بأخر- جائزة (نوبل)؟ (2)
وقراءتي لروايات محفوظ –أو بداية مَخْض الزبدة- بدأت في مرحلة دراستي الثانوية ( 3 ) حتى إذا نشر البروفيسور سوميخ كتاب "الإيقاع المتغير في أدب نجيب محفوظ" - بالإنجليزية - تناولت الكتاب في دراسة قصيرة(4 )، وركزت على كون محفوظ أديبًا عالميًا، ويجب أن نوجد الوسائل لتقريبه للأذهان الغريبة التي تستمرئ –غالبًا- أدبنا.
وها هو أملي يتحقق وأجد كاتبنا ضمن أسماء عالية خالدة حصلت على الجائزة من قبل، نذكر من بين الروائيين: سنكلير لويس ،وبيرانديللو ،وتوماس مان ،وبيرلز بك، وأندريه جيد ،ووليم فوكنر، والبير كامي ،وجون شتاينبك، وإرنست همنغواي، وميخائيل شولوخوف، وجبرائيل ماركيز ....(بالإضافة إلى بوريس باسترناك، وجان بول سارتر- اللذين رفضا الجائزة) (5 ) .
وما دامت هذه الدراسة تطمح إلى عرض إبداع محفوظ بصورة عامة وجوهرية فسأتوقف على بعض معالم هذا الإبداع الأدبي مدللاً على ما سأذهب إليه.

"إن التلوين" الأدبي هو إبراز ما في أداء محفوظ، وأقصد بذلك القدرة على التعبير في أكثر من لون (Genre)، وبالأخص الرواية والقصة القصيرة، حيث تتباين صور الفن الأدبي الواحد طرحًا ومنهجًا وأسلوبًا.
ففي الرواية نطالع أولاً رواياته التاريخية (عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة) ، فنستشف منها معانقة التاريخ/ الأسطورة للواقع السياسي المعيش في مصر، وتصل بنا رواياته الاجتماعية (القاهرة الجديدة، زقاق المدق، خان الخليلي وغيرها) إلى اكتشاف تناقضات الحياة اليومية والصراعات السياسية عبر تصرفات الشخصيات الروائية وسلوكاتها.
أما الثلاثية (قصر الشوق، بين القصرين، السكرية) ففيها وجهة نظر مؤكدة، يرى محفوظ أنها "خيط سير معين للأحداث يمكن تلخيصه في كلمتين - بأنه الصراع بين تقاليد ضخمة ثقيلة وبين الحرية في مختلف أشكالها السياسية والفكرية (6 ) .
وتحمل بعض رواياته صورًا للتشويه الاجتماعي، فتأتي الشخصيات المهزوزة اجتماعيًا، وكأنها إفراز طبيعي لظروف البيئة، مما يمكن اعتباره اتجاهًا "طبيعيًا" في التقسيم "المدرسي".
ونجيب محفوظ يتوقف عند بعض مسائل محرّمة ( محظورات ) في العرف الاجتماعي (taboo)، ويطلعنا على نماذج لعاهرات وفتوات ومتعاطي مخدرات، وكان مجتمعنا ينظر إلى هذا الشذوذ جزءًا من مقومات وواقع واحتمال.

وينتقل محفوظ عبر رواياته المتعددة من الوصف السردي إلى البناء الدرامي (ثرثرة فوق النيل مثلاً) إلى أسلوب جديد قد لا يعتبر رواية في المفاهيم الكلاسيكية للرواية (أمام العرش) إلى جو الأحلام والأساطير (رحلة ابن فطومة، ليالي ألف ليلة وليلة).
تتميز "أولاد حارتنا" بأنها حاملة شحنات فلسفية عبر (أليغوريا) تتلخص – لدى كثير من الدارسين - بأن (جبلاوي) هو الله ، وأن (عرفة) هو العلم الذي يكمل مسيرة الحياة.
وهذا التراوح والتباين نجده كذلك في قصصه القصيرة، فمن قصة سردية مباشرة إلى قصة مفعمة بالميتافيزيقية أو السريالية. (وخاصة بعد نكسة حزيران- انظر مثلاً "تحت المظلة") وهذا التركيز أو التكثيف من شأنه أن يبهر القارئ المثقف خاصة وهو يعلم أن محفوظًا ليس لاعبًا في "سيرك" للعبارات، وإنما هو يعمد إليها مشغوفًا بخلفية ثقافية واجتماعية، وبالمقابل فإن في بعض قصصه المتأخرة – كما أرى _ حشوًا وثرثرة ( 7 ) .
وهذه المباشرة التي تطفو بين الفينة والأخرى من شأنها كذلك أن تثير النقاش حولها رغم ما فيها من قصور فني.
وفي ظني إن هذا الصعود والهبوط في الرسم البياني من شأنه أن يستقطب القراء على اختلاف مشاربهم، فيجد كل منهم نقطة ارتكازه. وليس من المعقول أن ترضي القصة الواحدة جميع الأذواق في جميع المستويات وبكل الأزمنة والأمكنة.
إذن ، فهذا الصعود والهبوط بحد ذاته إشارة صحة وإثارة للنظر المتواصل.
خلق محفوظ رواياته وكأنها منتزعة من صميم التاريخ، فجعلها حيّة في وجدان المجتمع وضميره، وليس أدل على ذلك من شخصية (أحمد عبد الجواد) في الثلاثية ذات الملامح والسمات التي قد توازي بتصويرها شخصية تاريخية أو أسطورية.ثم إن (حميدة) و (نفيسة كامل) و (سعيد مهران) و (صابر الرحيمي) و (محجوب عبد الدايم) وغيرهم شخصيات تتحرك في نبض المجتمع المصري، فيتعرف القارئ على سلوكها وانفعالها، وينفعل إزاءها مما يجعله بالتالي في فعالية تقويم الذات وتوجيهها في سلوكه وممارسته.
إذن ، فنحن أمام محاولة غير مباشرة من المؤلف/ الراوي لبناء كشاف سلوكي واجتماعي وقيمي عبر تصرفات الشخصيات وأمزجتها.
إن القارئ يألف تصرفات الشخصيات رغم أنه يتقزز من بعضها، فهو يتابع النمطية والشذوذ متفرجًا أو مسايرًا وأحيانًا متسائلاً عن موقفه إزاء الحدث، ولا بدع إن كان التطهير بالمفهوم الأرسطي فعالاً في النثر كذلك.
وهذه القدرة على نقل الشخصية بالتفصيل وبأدق الجزئيات فيها الكثير من التجسيم على الشخصيات، بل بصف الأمكنة بدقة متناهية يبنيها وفق رؤية خيالية "وفانتازيا" لا تبتعد عن الواقع بكثير (8 ) ، يقول محفوظ:
"أغلب رواياتي كانت تدور في عقلي كخواطر حية أثناء جلوسي في هذه المنطقة... ..يخيل لي أنه لا بد من الارتباط بمكان معين أو شيء معين يكون نقطة انطلاق للمشاعر والأحاسيس.." ( 9 ) ، وحتى المكان يصبح في بعض العمال بطلاً (كالزقاق في "زقاق المدق" والعوامة في "ثرثرة فوق النيل" والفندق في "ميرامار").
إن هذا التكوين المعماري المجسّم في الناس والمقاهي والأزقة وعلاقة الناس بالمكان فيها قدرة خاصة على النفاذ والتحديد والانضباط للمعطيات والممكنات.
ويرى محمود بقشيش الفنان التشكيلي أن نجيب محفوظ يرجح "الكتلة" على "اللون" ويقول:
"إن ميل محفوظ إلى التركيب والبناء المجسم يخفض بطليعته من البوح الخطابي ويهذب التعبير المنطوق، وحتى عندما يتجه بريشته إلى مناطق الإبهام والحلم فإنه يهمل التجسيم، بل يؤكده للدرجة التي توهم بواقعية المشهد".. (10 ) ويسبر محفوظ أغوار الواقع الشعبي، ويساير حركة المجتمع المصري في رؤية مدركة لتطور الحياة المصرية، عبر قرن كامل – هذا القرن بالذات شهد نقلة إن لم تكن طفرة، فاصطرع الناس بين القبول والرفض وبين المادية والروحانية، وبين الانقياد للجماعة والحرية الفردية، فعكس محفوظ مفاهيم ورؤى مستجدة، وكان لـ (موتيف) التغير أصداء في كتاباته، حيث وَصفت أعماله تحول المجتمع المصري من التقليد إلى التجديد ، فظهر أكثر من تضاد ، وأكثر من مفارقة ، وأكثر من صراع على أصعدة مختلفة ، سواء كانت بين الرجل والمرأة ، أو بين الدين والدنيا ، أو بين جشع الإقطاع ومسكنة "الغلابا"....
لم تكن شخصيات محفوظ تتجاوز القاهرة أو الإسكندرية، وحتى "الحارة" التي تقف أقدامه عليها ، يعرفها في وجدانه عالمًا حيًا يتجاوز المكانية الضيقة إلى العالم الكبير والمعرفة، هي جواز المرور للتوصيف، لذا عدمنا في رواياته شخصيات وأماكن مستمدة من سائر الأقطار العربية، وذلك لأنه يعرف بصدق الفنان أن الشخصية التي يكتب عنها يجب أن يقرأها ويتقرّاها مرارًا وتكرارًا، وأن المكان يجب أن يكون مرسومًا في ذهنه بكل ما يحمله من طرافة ودهشة.
وأختتم الحديث عن الوصف الواقعي بهذه المقتطفات من قصة بعنوان "قاتل"، وفيها وصف حي لعالم الإجرام الذي كانت ملامحه أيضًا تتبدى في وصفه للفتوات ، وخاصة في روايته "أولاد حارتنا" فلعل هذا الوصف ما يشي ببعض ما أشرت إليه:
" وكان يسكن في حجرة بدرب دعبس بالحسينية حجرة في حوش ربع قديم، حيث ترقد أمه الضريرة نصف مشلولة، وهي عجوز تعيش على صدقات الفقراء من الجيران هناك يأوي أخر الليل... وتمضي الأيام وهو لا يلتفت إليها، أما هي فلا تشعر له بوجود، ولعلها لم تذكره على الإطلاق، ولكنه لا يكف عن مغازلة الأحلام، الأميرة والبحر والجبل وبحبوحة عيش لا يحسن تصورها ولو في الخيال. وتساءل كثيرًا عن وكسته، أين يذهب وماذا يفعل. وهو ذو الماضي الحافل بالأعمال. اشتغل شيالاً وموزع مخدرات ولصًا...
- ولد يا بيومي
انتبه بعنف نحو الصوت كأنما يستجيب للسعة سوط. ثم وثب نحو صاحبه باستماتة وهو يبتسم ابتسامة عريضة توددًا وتذللاً. ها هو إنسان يناديه أخيرًا. وهوى على يده ليلتها وهو يقول:
- أهلاً وسهلاً بالحبيب أهلاً بالمعلم علي ركن سيد حيّنا كله... فسحب المعلم على يده بخشونة وقال وهو يحبك جبّته... .
ووردت على ذهنه فكرة غريبة وهي أن يعمل ترابيًا. وهي مهنة رابحة فيما يظن، ولن يُسأل –فيما يظن أيضًا- إذا تقدم لها عن ماضيه، ولن يجد صعوبة في زيادة دخله بتجارة الكيف وما أروجه بين القبور! ومضى يحلم من جديد مستعينًا بذلك على قتل الوقت حتى رأى الحاج عبد الصمد راجعًا، ثم تبعه حتى رآه يدخل الوكالة بالمبيضة ، فمال إلى قهوة عند رأس الطريق وجلس. احتسى الشاي ودخن أكثر من جوزة ، وأكل عددًا من قطع اللحم، وهو يراقب مدخل الوكالة دون انقطاع تقريبًا. ورأى شخصًا يغادرها فلم يصدق عينيه. المعلم الدهل محمود نفسه! الرجل الرهيب الذي لحسابه سيقتل عبد الصمد. بل رأى الحاج عبد الصمد وهو يودعه خارج الوكالة، رآهما يتبادلان الضحكات، وتواصل ذلك حتى استقر المعلم الرهيب في عربته وانطلقت به." (11 )

واللغة وعاء الأدب ومعرض الفكر يستخدمها محفوظ غالبًا – بعين الخبير أو الشاعر الذي تأتيه كلماته طواعية. ورغم أن الحديث عن تلاحم الشكل والمضمون واتجاهات المدارس البنيوية في بعض المغالاة في الدور الوظيفي للألفاظ وصيغ الاستفهام والتكرار والجمل الفعلية وقصر الجمل واستعمال العامية والتركيز على السخرية أولاً وقبلاً، إلا أن محفوظًا في نتاجه كان يعمد إلى لغة ملائمة للحدث. وهذه الملاءمة تبدت لنا في استخدامه التعابير الصوفية في سرده الروائي ، خاصة في رواية اللص والكلاب "وقصة" (زعبلاوي) .
وقد بين العناني في دراسة له لرواية "حضرة المحترم" أن محفوظًا يستعمل في موضوع الطموح لغة دينية المصطلح لسرد تجربة ذات طبيعة تسلطية، وهذا الاستخدام له أثر ساخر يشبه المفارقة الدرامية. (12)
وأسلوب السخرية عنصر فعال في نتاج محفوظ وذلك على طريقة (القفشات)، وسأسوق بعض الأمثلة من (زقاق المدق):
يقول زيطة لمن جاء يطلب عاهة وهو سليم معافى: "أنت بغل بلا زيادة ولا نقصان، فلماذا
تروم احتراف الشحادة؟."
ثم يرد زيطة عليه بعد أن قال إنه لم يكن يصلح لشيء:
إذن كان يجب أن تكون غنيًا. ( 13 )

وقد ركز سوميخ على استعمال فعل المضارع في "حكايات حارتنا" –في دراسة له- وأن غرضه هو خلق التلاحم التام بين الماضي والحاضر، فمثل هذا الأسلوب يثير انتباه القارئ إلى المفهوم الخاص للزمن في الأثر الأدبي عن طريق الإظهار أو الإبراز (foregrounding) ( 14 ) .
وتيار الشعور أو المونولوج الداخلي من وسائل كشف الشخصية، وعبر التداخل اللغوي في الحوار والسرد نجد المؤلف/ الراوي ، ونجد الصوت الثنائي الموحد، وقد سمى شارل بلي الفرنسي هذا الأسلوب "الحديث المنقول بتصرف"- style indirecte libre، ذلك لأن تيار الشعور كما عرف عند جيمس جويس أو فرجينيا وولف يجعل الشخصية في هيمان أو متاهة مظلمة شاسعة، وفي تفكك خواطر لا منطقي، وفي ترحال بلا عائق عبد حدود الزمان والمكان، وأحيانًا بتركيز على الخبرات الحسية وانطباعها على الذهن(15) .
وهذا الأسلوب يكثر عند محفوظ، فيأتي الحديث وكأنه سرد على لسان الروائي لما يدور في ذهن البطل ، فيخرج من كونه في الواقع سردًا، حتى يصبح واقعًا للبطل نفسه . وسأسوق لقطة من "زقاق المدق" حيث تقف حميدة تستعرض الزقاق:
" مرحبًا بك يا زقاق الهنا والسعادة... دمت ودام أهلك الأجلاء... يا لحسن هذا المنظر، ويا لجمال هؤلاء الناس ! ماذا أرى؟! هذه حسنية الفرانة جالسة على عتبة الفرن كالزكيبة عينًا على الأرغفة وعينًا على جعدة زوجها، والرجل يشتغل مخافة أن تنهال عليه كلماتها وركلاتها. وهذا المعلم كرشة القهوجي متطامن الرأس كالنائم وما هو بالنائم. وعم كامل... وهذا عباس الحلو يسترق النظر إلى النافذة في جمال دلال ، ولعله لا يشك في أن هذه النظرة سترميني عند قدميه أسيرة لهواه، أدركوني يا هوه قبل التلف ! أما هذا فالسيد سليم علوان صاحب الوكالة، رفع عينيه، يا أماه وغضهما، ثم رفعهما ثانية، قلنا الأولى مصادفة، والثانية يا سليم بك؟! رباه هذه نظرة ثالثة! ماذا تريد يا رجل يا عجوز يا قليل الحياء؟!"(16).

وقد حاول بعض النقاد التركيز على وظيفة عبارة عامية هنا وهناك بشيء من الإقحام ضاربين صفحًا أو متجاهلين منطلق محفوظ ورؤيته اللغوية.
يسأل فؤاد دوارة في حوار له مع نجيب محفوظ: "يقول الأديب الإنجليزي دزموند ستيورات في مقال نشر له بعدد ديسمبر (1964) من مجلة المجلة:
" إن التزام نجيب محفوظ للفصحى في كتابة الحوار مخل بمطلب الواقعية الذي يطمع فيه القراء الأجانب، ويصفه بأنه عناد طارئ - أي أنه لا يؤدي وظيفة فنية في الرواية" وقرأت على لسانك مرة " أن اللغة العامية من جملة الأمراض التي يعاني منها الشعب والتي سيتخلص منها حتمًا حينما يرتقى، وأنا أعتبر العامية من عيوب مجتمعنا مثل الجهل والفقر والمرض تمامًا" . ألا ترى أن هذا الموقف المتزمت من العامية يدفعك إلى رفض معظم كتابات أدبائنا الشبان الذي يصرون –مثل إصرارك- على استعمال العامية في الحوار...

يجيب نجيب:...
أما أني اعتبر العامية مرضًا فهذا صحيح، وهو مرض أساسه عدم الدراسة، والذي وسع الهوة بين الفصحى والعامية عندنا هو عدم انتشار التعليم في البلاد العربية... ويوم ينشر سيزول هذا الفارق أو سيقل كثيرًا...."( 17 )
ومع أن بعض النقاد يرون أن لا ضرورة لاستشارة الكاتب في موقفه للبت في عمله الأدبي إلا أنني أرى في التزامه للفصحى بصورة بارزة إثراء لأدبنا وإحياء للغتنا، وهو موقف يدعو للإعجاب.
ويبقى في لغته الأسلوب الشعري المكثف، ولا تكاد تخلو صفحة من نتاجه من هذا الأسلوب الذي هو مفعم بالصور ، وسأختار لكم وصفًا –ما زال أثره في ذاكرتي رغم بعد الشقة بيني وبينه- وهذا الوصف من (بداية ونهاية) قبيل انتحار نفيسة، وكانت برفقة حسنين متجهين إلى النيل:
"وكانت المصابيح، المقامة على جانبي الجسر تشع نورًا قويًا أحال ظلمته نورًا، بينما أطبق على ضفاف النيل بطول امتداده شمالاً وجنوبًا –رغم المصابيح المتباعدة الخافتة- فبدت الأشجار المتراصة على جانبيه كأشباح عمالقة، وكان المكان مقفرًا إلا من مارّ مسرع هنا أو هناك، وقد تناوحت الغصون بأنين ريح باردة كلما كف هبوبها تعالى هسيس النبات كالهمس. لازما موقفهما في جمود كالذهول ، ثم استرق إليها نظرة فرآها..."(18) .

وثقافة نجيب محفوظ شمولية، فهو يذكر لنا عشرات الأسماء الغربية ممن قرأ لهم روائعهم وتأثر بمجموعها. (19) وقد اعترف أنه قد قرأ بالإنجليزية لديستويفسكي وتشيكوف وبروست وتوماس مان وكافكا وغيرهم، كما قرأ بالفرنسية لأناتول فرانس. وثقافته المصرية –الفرعونية- استمدها أولا من ترجمته لكتاب "مصر القديمة" لجيمس بيكي (الصادر سنة 1932)، فانعكست في رواياته التاريخية الثلاث.(20)
ولا شك أن التكنيك الروائي قد تأثر بكثير من أساليبه بالأدب الأوروبي، وقد عرضت سيزا قاسم إلى مقارنة الرواية (الثلاثية) بالمدرسة الواقعية الفرنسية، فاختارت سيزا (مدام بوفاري) لفلوبير و (المطرقة) و(الفريسة) لزولا - كنماذج تمثل المدرسة الطبيعية، واستغلت الكاتبة اعتراف محفوظ بأنه أفاد من Glasworthy في ثلاثيته Forestyle saga فأضافتها إلى الموازنة ، مذكّرة القارئ أن فكرة (الثلاثية) في الأدب العربي إنما هي فكرة مستحدثة، وقد استخدمت المقارنات في بحثها حتى تستعين بفهم العمل الذي تناوله بالتحليل، فالمقارنات –في رأيها- تمثل حجر الزاوية للتحليل النصي، حيث أن العناصر تظهر بجلاء عندما توضع سلسلة من العناصر المشابهة خاصة من حيث وظيفتها في العمل الأدبي، ذلك لأن النص الأدبي ينتمي إلى مجموعة هائلة من النصوص المشابهة تربطه بها خيوط متشابكة واكتشاف هذه الخيوط يساعد في الوصول إلى طبيعته الخاصة. ( 21 )

وبالمقابل فإن التراث العربي له وجوده ووجوهه في أعمال محفوظ. ففي "ليالي ألف ليلة" تطوير لحكايات شهرزاد والسندباد وعلاء الدين وطاقية الإخفاء والعفاريت والأرواح والجو السحري بما فيه من سحر ودهشة وطرفة وغرابة، فينقل الكاتب هذه الصور إلى الواقع المعيش، وكأن الشخصيات عاشت قديمًا.. بأسطوريتها ورائحتها ، ولنقرأ نموذجًا:
"رفعت القضية بحذافيرها إلى السلطان شهريار، فأمر بعزل يوسف الطاهر لفقدان الأهلية وعزل حسام الفقي لتستره على رئيسه.. وجلد حسن العطار وجليل البزاز وفاضل صنعان للسكر والعربدة، ومصادرة أموال عجر الحلاق وإطلاق سراحه.. وخلا دندان إلى ابنته شهرزاد فقال لها:
- لقد تغير السلطان وتخلق منه شخص جديد مليء بالتقوى والعدل.. ولكن شهرزاد قالت: -ما زال جانب منه غير مأمون، وما زالت يداه ملوثتين بدماء الأبرياء.. أما عجر فقد تناسى خسارته في فرحة النجاة.. وسرعان ما فسخ العقد بينه وبين قمر، ومضى إلى النخلة غير بعيد من اللسان الأخضر، فانحنى أمام المجنون المتربع تحتها وقال بامتنان:
- إني مدين لله بحياتي أيها الولي الطيب.."‑(22)
وفي رواية "رحلة ابن فطومة" –وزان (ابن بطوطة)- يتأمل البطل عذابات الإنسان في هذه الحياة، فيخرج من "دار الإسلام" حاملاً همومه، ويتنقل من مكان إلى آخر ليحدثنا عن طبائع المجتمعات البشرية، حتى يصل بالتالي إلى ضرورة تبني العلم على المنهج الغربي.

أجمل القول إن معالم الإبداع عند محفوظ تمثلت لنا في أكثر من لون أدبي ، وفي أكثر من مستوى، فكان قادرًا على رسم الشخصية المصرية بشكل تفصيلي معبّر وموح، وكانت الشخصية في كثير من إنتاجه محفورة في الوجدان المعايش (23). كما كان يجسم المكان، وينتقل في الزمان على مسرح أحداث يقتضيه مفيدًا من تكنيك الرواية الغربية ومن تراث عربي زاخر.
وبالتالي –ولعل هذا لا يقل أهمية - فقد كانت لغته تؤدي المضمون الذي يرمي إليه، وكأن المعنى شعلة النار التي يتحدد شكلها تلقائيًا، [1] فيصير الشكل والمضمون كلاً واحدًا لا انفصام فيه.

==
بقلم أ.د مصطـفى جــوده
البشرية كلها عطشى لكل كلمات العظماء في جميع مراحلهم ومحفوظ أحد هؤلاء لأنه ليس كاتبا مصرياً أو عربياً ولكنه عالمي. وعليه فلابد من بحث وتنقيب واستخراج واستخلاص لكل كتاباته وإتاحتها للباحثين والقراء في مصر والخارج.

الكتابات التي نحن بصددها في هذا الجزء الأول من الكتابات الأولية لمحفوظ هي انفعالات الشباب وأفكاره البكر. ومن خلال قراءتها ندرك أن محفوظ دخل حديقة الأدب من باب الحكمة مسلحاً بأساسيات الفلسفة التي درسها وتفوق في دراستها، ومتأثراً بأفكار الفلاسفة العظماء وطريقة حياتهم ملتزماً بالمنطق ودقة التعبير وآخذاً بالمنهج العلمي فيما يكتب بفاعلية شديدة. القارئ لمحفوظ يحس بفنان مسئول تجاه وطنه وثقافته وإحداثيات مكانه وزمانه.


عن الموقع الرسمي لنجيب محفوظ:

http://naguibmahfouz.shorouk.com//