عرض مشاركة واحدة
قديم 11-18-2017, 06:36 PM
المشاركة 4
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
طه حسين يكتب: الحرب والحضارة الثلاثاء 16/مايو/2017 - 02:07 م
طه حسين


لم يخطئ القدماء من فلاسفة اليونان حين زعموا أن ليس فى هذا العالم خير محض ولا شر محض ولكنه كائن لا يعتدل مزاجه إلا بالتئام هذين الضدين.
فى الحرب إثم كبير ولكنها تسع نفعا كثيرا، ولئن كان ضررها شاملا وشرا مستطيرا، فإن نفعها أشمل وخيرها أجزل وآثارها الصالحة أعظم من البقاء نصيبا وأوفى من الخلود قسطا وأشد فى حضارة الإنسان وحياته المعنوية والمادية ظهورا، وسل التاريخ يصدقك الخير ويحدثك بالقين.
التمس لذلك ما شئت من علة وابحث له عما أحببت من مصدر فليس يعنينى ذلك الآن، لأنى لست بسبيل القول فى فلسفة الاجتماع وتعليل ظواهره، وإنما أنا مؤرخ بأبسط ما يفهم الناس من معانى هذا اللفظ simple choniqueur أحصى الحوادث وأسجلها وأترك لساداتنا الفلاسفة والأساتذة حق البحث والاستنباط ليس من الميسور أن تبحث عن حضارة أمة من أمم التاريخ القديم والحديث كيف نشأت وكيف ارتقت من غير أن تجد للحرب الأثر الأول فى نشأتها ورقيها، فحضارة اليونان والرومان والفرس والعرب والفرنج ليست إلا بنات الحرب تشتعل نارها ويضطرم أوارها حتى يوشك أن يأتى على كل شيء، ولكن تلك النار المشتعلة وهذا الأوار المضطرم لا يكاد لظاهما يخبو حتى يتكشفا عن عقول ناضجة وقلوب حية ونفوس صالحة للعمل والبقاء.
ليس من شك فى أن الحرب فى أبانها تقف حركة الحضارة وتعترض رقى الآداب ولكن مثلها فى ذلك مثل الديمة الغزيرة ترسلها السماء من غير حساب فتتفرق لها الجموع المحتشدة ويأوى كل فرد إلى ركن يقيه شر المطر فيستتبع ذلك كثيرا من المضار ولكن السماء لا تكاد تقلع والماء لا يكاد يغيض حتى تكتسى الأرض حلة خضراء بهجة فيها للحياة العقلية والجسمية مادة صالحة موفورة النفع.
ذلك مثل الحرب تصيب الناس بما نشهد الآن من ضرر وتروى الأرض بما تقشعر له أبداننا من دماء، ولكن لا تكاد هذه الدماء تجف حتى يهب الإنسان من وقفته الحائرة التى الجئ إليها وإذا قوة حياته المادية والعقلية قد ضوعفت وأصبحت أقدر على الجهاد وأصلح للبقاء، فليس الحرب كما يظن المتطيرون نذيرا يؤذن بكساد المدنية وإفلاس الحضارة، وإنما هى آية تغير فى الحياة الإنسانية ودليل انتقال من حال إلى حال، وقد علمنا التاريخ أن هذا الانتقال لا يكون إلا من حال سيئة إلى حال أظهر منها نفعا وأقرب منها إلى الكمال.
الآداب أشد مظاهر الحضارة تأثرا بالحرب وأوفرها نصيبا من منافعها [COLOR="rgb(255, 0, 255)"]وقلما تحدث حرب تصلح للتأثير فى الحياة الاجتماعية من غير أن تورث الآداب فنا جديدا أو تحدث فيها رونقا طريفا[/COLOR]. نعم لا نستطيع أن نعرف حقيقة الفنون الأدبية الجديدة التى ستتركها هذه الحرب العامة فى آداب الشرق والغرب
[COLOR="rgb(255, 0, 255)"]ولكنا نعلم أنه لولا الحرب لما أورثنا هومير وفرجيل والفردوسى ورولان أشعارهم القصصية التى لا تزال باقية طريفة على وجه الدهر[/COLOR]
، ولولا أن الأدباء العرب ارستوقراطية اشتركت فى تكوينها الحياة الدينية والاقتصادية ونظام الحكم القديم لما كرهنا أن نضم إلى آدابنا عن طيب نفس وقوة عين هذه الكتب الرائعة التى تركتها لنا حروب الروم والصليبيين والتتار وغارات العرب على إفريقيا كقصة عنتر وأخبار الزنانية والهلالية وقصة ذات الهمة وسيرة الظاهر بيبرس وأمثالها فإن لها من الآداب خصالا لم تظفر بها آداب الخاصة وحسبك أنها أصدق مثال لمزاج الأمم الإسلامية فى كثير من العصور والأطوار.
ذنب هذه الكتب أنها إلى لغة الشعب أدنى منها إلى لغة العداء، وأن علماءنا يترفعون عن أن ينزلوا إلى حيث الشعب ويكسلون أو يعجزون عن أن يرفعوا الشعب إلى حيث هم.
[COLOR="rgb(255, 0, 255)"]إن صح أن هريدوت أبو التاريخ وما نشك فى أن ذلك صحيح فإن ابن الحروب الميدية التى اضطرمت نارها بين اليونان والفرس إبان القرن الخامس قبل المسيح، فإذا قدرنا أثر التاريخ فى الحضارة ونصيبه من السيطرة على الحياة العقلية، عرفنا كم تركت هذه الحرب للإنسان من نفع[/COLOR].
نخشى أن يتهمنا الناس بالغلو والإغراق إن قلنا إن فلسفة سقراط وافلاطون هما بنتا هذه الحرب أيضا وإن كنا لا نرتاب فى صحة ذلك ومن المحقق أن هاتين الفلسفتين هما اللتان أنشأتا فلسفة اليونان وبعثتا فى العالم من الضياء ما يمثل تاريخ الحياة العقلية للعرب والرومان والفرنج وضاء ناصعا كما نراه الآن.
ليس أثر الحرب فى الأخلاق بأقل من أثرها فى الآداب والفسفة فما الآداب والفلسفة فى أمة من الأمم إلا صورة عقلها وعواطفها ومثال مشاعرها وأخلاقها.
والحرب مظهر طائفة من الفضائل وكرام الأخلاق هى ما يتخذه الفلاسفة مثلا أعلى لكمال الإنسان، فبينما تزهق النفوس وتراق الدماء بنيران المدافع وعلى ظباة السيوف تتمثل عواطف الشعب ورحمته بالضعفاء والبائسين وعطفه على المحروبين والمكروبين واضحة جلية قتلى هم المحزون وتعزى أنصار السلم عما يشهدون من مشاهد الوحشية ومظاهر القسوة.
لم يخطئ مصر والحمد لله حظ من منافع الحرب وآثارها الصالحة كما أخطأها حظها من كثير من الأشياء النافعة.
ذلك لأن هذه الحرب أشد هولا وأصعب على النفس وقعا من أن تعجز عن استلانة القلوب القاسية وتنبيه النفوس الغافلة وترقيق الأكباد الغليظة فلم تبق أمة من أمم العالم إلا مستها الرحمة بالمحاربين وأخذها البر بمنكوبيها وضحاياها، ومهما أخطأنا الانتفاع بالحرب فلم يخطئنا أننا ربحنا جمعية الهلال الأحمر وميلنا إلى معونة الصليب الأحمر بما ملكت أيدينا من مال وما أحرزت عقولنا من حظ علمى فاستطعنا أن نجد لأنفسنا مكانا بين الأمم الحساسة الشاعرة ذات القلوب اللينة والعواطف الحية.
ليس عهدنا بهذا الرقى حديثا فإنه قد بدأ فى نفوسنا منذ بدأت سلسلة الحروب الجديدة فى هذا العصر أى منذ اضطرمت نار الحرب بين تركيا وإيطاليا، ولكن اتصال الحرب وتتابع مصائبها على الناس وتضافر أهوالها على توفير حظ العالم من الشقاء، لم تزل بهذه الفضيلة الناشئة تصقلها وتجلوها وتزيد ظلها امتدادا وسلطانها انبساطا حتى أصبحت فضيلة خالصة لا بقصد بها إلا الخير محضا والبر صرفا حتى تغلغلت فى جميع طبقات الأمة فرغب فيها الشعب بحذافيره سواء منه المتعلم والجاهل وسواء العالم الدينى وابن النهضة الحديثة.

نقلا عن جريدة السفور عام 1915