عرض مشاركة واحدة
قديم 04-14-2012, 09:48 AM
المشاركة 415
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
صنعاء مدينة مفتوحة – منازلات فكرية واحتساب
المصدر : مجلة نزوى

لقد وقعت في حرج لا أحسد عليه, عندما انقطعت بي السبل في الحصول على رواية القاص اليمني المبدع محمد عبد الولي؛صنعاء مدينة مفتوحة«, ذلك أن هذه الرواية قد أشعلت حرائق كبيرة في فضاء الساحةالثقافية اليمنية لا لتميزها وإبداعها عند النزر اليسير من المعترضين, وإنما لوجودبعض الفلتات اللفظية على لسان بطل الرواية (نعمان), والذي أدى إلى تلاسنات لفظيةومنازلات فكرية وعراكات مريرة امتدت إلى إشهار سيوف الحسبة والتكفير والدخول إلىدهاليز المحاكم. واستخدمت الرواية في مناورات سياسية, ومناكفات وتقاطعات شديدة, وحمل النص وبعض الملافظ, أكثر مما تحتمل التأويلات للنصوص الأدبية والفكرية, وكأنكاتب الرواية الذي مات في حادث درامي عام 1973م, كان يهدف من وراء الرواية الفسادلا الصلاح, واختلط الحابل بالنابل عند ثلة من المثقفين, وعجزوا عن تلمس طريقهمالسوي وسط زحام شديد وتراشقات لا معنى لها, أرهقت المتصارعين, وأبعدت فصيلا منهمعن جادة الصواب.

2- الغربة والتمرد:

لقد عاش القاص اليمني محمد عبدالولي في القسط الأكبر من حياته تعيسا , كان يجد متعته في الكتابة, فالكتابة على حدتعبير كاترين أن بوتر:-

ليست قضاء وقت فراغ جميل, هي ليست شيئا يحدث بلاألم, إنها مهنة مرهقة وجادة(1).

لقد أرهقته الحياة, وأرهقته الكتابة فيحياته, ومن وراء كتاباته تطارده التهم والرذيلة وهو تحت الثرى, يقول أرنستهمنغواي:-

إن الكتابة, هي الرذيلة الكبرى, واللذة الكبرى, لا فكاك منها سوىالموت (2) فالموت لم يرح الروائي اليمني محمد عبد الولي الراحة الأبدية, بسببالتعاجم في التأويل للنص الأدبي, ولقد قال أحد المفكرين:

لا يمكن أن تتذوقالفن, إن لم تمتلك ثقافة فنية.

فالمبدعون: ليسوا ملزمين بالإيضاح المسطح, أوالبساطة, أو العفوية المسكينة, أو بوضع الملعقة في فم القارئ (3).

إنالقراءة الحصيفة للرواية وسعة الإدراك, تجنبان القارئ الوقوع في التسطيحات وتساعدهعلى تكوين ذائقة فنية وجمالية, وعلى الغوص في أعماق الواقع, بعيدا عن البهرجاتاللفظية والفسيفسات الشكلية.

إن القاص محمد عبد الولي قاص وروائي على قدركبير من الموهبة, وصاحب قدرة عالية في عكس الواقع بلغة شعرية شفافة. ولقد تأثركثيرا باللغة والتكنيك القصصي للقاص الروسي تشيكوف, وبحنا مينا, ويوسفادريس.

فلم يكن مترعا بالرومانتيكية, بل كان واقعيا ينتمي إلى المدرسةالواقعية, وهو ليس كمن:- (يمسك ورقة وقلما ويرسم إلها وبرتقالة).

فهويمسك ورقة وقلما ليرسم واقعا حيا بتفاعلاته, وديناميكيته وبتقاطعاته وبألوانهالطيفية الحياتية, إنه كاتب متمرد على الواقع, واقع الفساد والرذيلة, والسكونوالجمود, يمسك القلم لتصوير الواقع بفن وإبداع, ويشير بسبابته إلى موطن الضعف والجبن في المجتمع, يكره العادات الرتيبة والتقوقع, وتمرده ليس موضة, أو عبارة عنعنفوان شباب, وإنما هو التمرد الواقعي والسليم, ليخلق مجتمعا أكثر إنسانيةواستقامة.

لقد أدرك عبد الولي ضرورة تغيير الواقع, والخروج عن الجمودوالرتابة, فبطل الرواية نعمان يقول:-

- أنا.. شاب مندفع لا يحب مطلقا أنتعيش بلا عجل.. بلا حركة.. بلا خفة.. وشعرت بالسأم بعد أيام من وجودي فيها (القرية)...

- الناس يا صديقي هم ناس بلادي.. بدون تفكير بدون أمل فيالمستقبل.. بدون شيء.. يأكلون القات.. مرتاحون ولا حديث لهم إلا عن (فلان).. وعن (فلانة).. أحاديث تصيبني بالغثيان كلما استمع إليها. فأهرب من الناس.. ومننفسي..(4)

فمحمد عبد الولي في رواياته وقصصه, لا يريد من الجمهور أنيتعاطفوا مع أبطاله, ولا يقصد إلى إثارة المشاعر والأحاسيس العاطفية الشكلية, يريدمنهم أن يشاركوا في الحدث, أن يتحولوا إلى عمليين, يدفعهم إلى التغيير والثورة علىالظلم والأوضاع البائسة.

لم يقع كغيره من الناشئين في شبكة التقليدوالمحاكاة. وظل يكتب على سجيته, دون التفات إلى حصيلته الثقافية.. فلقد كانتمرارة التجربة التي عاشها والصبا هي المسيطر الأول على إنتاجه...(5).

شهدتالقصة اليمنية في حياة محمد عبد الولي ازدهارا لم يسبق له مثيل. ويعود في ذلك إلىتنوع تجربته الثقافية وموهبته الفنية التي صقلها بدراسته فن القصة (6).

فشخصية القصة والرواية عند محمد عبد الولي, اتسعت رؤيتها وانتقلت منالحالة الفردية إلى ؛النموذج« أي اليمن وأيا ماكان إزاء ظروف لا تشبه المأساةالكونية التي يتعرض لها البطل القديم, بل هي ظروف إنسانية وفي متناول يدنا, وفيمقدورنا تغييرها, أو ينبغي ذلك, من هنا لم تعد القصة تثير العطف أو الإشفاق أوالإعجاب, بقدر ما تثير روح التغيير للظروف الخارجية وإنقاذ الضحايا, ولم يعدالمجهود الفردي كافيا , فلن يغير من الأمر شيئا (7).

- لا تنسوا أنتم.. أنهذه الأرض. لن تنفصل عنكم مهما هربتم. إنها جزء منكم. تطاردكم. ولا تستطيعونمنها فكاكا . أنتم يمنيون. في كل أرض.. وتحت كل سماء..

- أريد: عملاأشعر فيه بأنني إنسان كبير.. إنسان يتضامن مع الجميع. الحب.. الحب هو ماأريده.. إنني أؤمن أن بلادنا, لا يفرقها استعمار أو استبداد..

إننا لانستطيع عمل شيء لأنفسنا.. ولا أرضنا.. ولا حتى لهؤلاء العساكر.. إذا لم نخلق منجديد.. نخلق كل شيء.. الناس.. الأرض.. الوادي.. حتى أنفسنا. أننا لا نستطيع أننعيش مع الحمير في حظيرة واحدة. لا أن نعامل معاملة الحمير. يجب أن نجد لأنفسنامفهوما .. وأن نعرف حقيقتنا(8).

لقد حبك الكاتب خيوط نصه بمهارة الصانعالملم بأسرار صناعة السرد, وترك للقارئ مناسبة ملاحقة بناء النص وتتبع عوامله, وهودائم التساؤل عن سر الحكي الذي ضبط مساره, ويحدد وجهته, إذ لا يمكن تكوين فكرة عامةعن هذا النص إلا بعد الانتهاء منه.. إن كل ذلك يجعلنا أمام نص متكامل العناصروالبناء, فهو كتلة واحدة, متراصة العناصر والأجزاء, وأي إهمال لأي منها لا يمكن إلاأن يسهم في تشويش الرؤية, كما أن أي إغفال لأبسط علاقة فيه لا يتولد عنه إلا اختزالالنص, عدم النفاذ إلى جوهره, أو الكشف عن باطنه, والوقوف عند أهم ملامحه وخصائصه (9).

3- الرواية والإحتساب:

الرواية لوحة فنية وأدبية لمجتمع ما قبلالثورة اليمنية, فالظلم هو الظلم في الشمال (الإمامة), والجنوب (الاستعمار). فالرواية تعبير عن الإرهاصات الأولى لقيام الثورة اليمنية (26 سبتمبر في الشمال, 14أكتوبر في الجنوب).

فالميزة الرئيسية لأبطال الرواية الغ ربة, تتقاطعأنفاسهم وأرواحهم مع الواقع, وتدخل في تناقضات رهيبة للخلاص من الواقعالكئيب.

فشخوص الرواية (أبطالها), (نعمان - محمد مقبل - الصنعاني - البحار (علي الصغير..), قد احترقت أناملهم بالواقع, واكتووا بنيران الظلم والعذاب, ولم يبقأمامهم من مفر سوى مواجهة الواقع بموضوعية وحذر, وإحداث انقلاب حياتي في المجتمع, لأن الظلم واحد في اليمن وأن تعددت أطيافه, ولابد من لحظة خلاص منه.

إن بطلالرواية (نعمان), عاش في غ ربة ومكابدات نفسية وروحية وضياع افتقد فيها الهدفلحياته وفي أحايين كثيرة كسر الواقع أجنحة أحلامه, وظل أسيرا لحياة الغ ربةوالانهزام حينا من الزمن حاول نسيان الواقع ومداواة جراح الغ ربة الروحيةوالنفسية, ولكن دون جدوى, فالضبابية والضياع صارت عنوانا لحياتهالسقيمة:-

- يا صديقي إني تائه لا أدري ما الذي أعمله.. (10).

وفيلحظة التأمل يأتيه صوت صديقه محمد مقبل, ليحدث هزات في عقله وضميره:-

- عديا نعمان ولا تهرب. سواء كنت في عدن أو في القرية.. فأنت تمارسالمأساة.(11)

وفي نهاية المطاف تستيقظ روح التمرد في نفوس أبطال الرواية, ويقتنعون من أن لا سبيل لإصلاح المجتمع إلا بمواجهة الذات, والابتعاد عن حياة الزيفومواجهة الفساد والظلم وتغيير الواقع إلى الأفضل, وقبل قليل من تكشف الحقيقةومعرفة الهدف, تموت زوجة نعمان (هند) وطفلها لع سر في الولادة:-

- كم كانتصموتة.. لا تتحدث كثيرا ولكنها تبتسم.. ولا تتألم ولا تشكو.. كانت في المنزلوكأنها ليست موجودة.. دون صوت.. دون ضجة.. حتى عندما نخلو.. كانت هادئة دائما .

هل أنت سعيدة.. فتهز رأسها.. كلا.

هل تشكين من شيء.. فتهزرأسها.. كلا.

هل تريدين شيئا .. فتهز رأسها.. كلا (...)

لقد كانت (الدينامو) الذي يسير كل شيء فيه.. إن المنزل يشكو الألم.. وكل ركن فيه يردد.. لمسات يدها.. الحانية.. لقد كانت أما .. حتى للأحجار.(12)

فبموت ؛هند« تتملك بطل الرواية (نعمان), كآبة وهوس وتشنجات لا حدود لها, فيقع فريسة للمرضوالهذيان, ويكاد لا يصدق أنها ماتت, ولماذا ماتت?!! وكيف ماتت?!! لقد شعر بالذنبوالمأساة, لأنه أحبها دون اكتراث وبعبثية. أما في لحظة الصاعقة, الموت أنبجستمشاعر الحب الحقيقية من كل مسامات جسمه, وتحول قلبه إلى كتلة من اللهب والتشوقلهند... وتقوده الكآبة والاضطرابات والتشنجات إلى حالة من الهيستيريا والانفعالاتاللاشعورية, وتتساقط من لسانه بعصبية غير مألوفة كلمات ليست مستساغة, لقد فقدتوازنه وغابت أحاسيسه الحية إلى حالة من الهذيان مخاطبا المولى عزوجل:-

لماذا أخذت يا رب (هند) ما الذي عملته?

لماذا لا يدعنا الله (الله) نتمتع بشبابنا? (13).

لقد وقع بطل الرواية (نعمان) في حالة غيرطبيعية, وتساقطت من لسانه ألفاظ تعبر عن حالة الغيبوبة واللاوعي التي وقع فيها, وهذه فلتات تحدث وقت الشدة والغصب في غير مكان وغير زمان.. فالصوفيون مثلا فيحالة الغيبوبة واللاوعي تصدر عنهم تخيلات وتوهمات وشطحات لا يؤخذون عليها لأنهم لايقصدون التطاول على الذات الإلهية أو التعالي عليها, وإنما يدخلون في حالات منالغيبوبة والحلول والتوحد والزهد والمشاهدة, معها يصعب تكفيرهم ووصمهم بالكفروالزندقة. وقد وضعت الصوفية مبدأ التغير في الثبات باعتباره القوة السارية لتنقيةالقلب في ثلاثية المعرفة والمحبة والمشاهدة أو ثلاثية القلب والروح والسر, وطابقتبينها بالشكل الذي جعل من وحدتها (الثلاثية) أسلوب وحدة السر (أو الحقيقة). فالقلبهو المعرفة والروح هي المحبة, والسر هو المشاهدة. في تقلبه يتدرج إلى الروح, وفيارتقائه يرتقي إلى السر. أو أن تقلب القلب بين أصابع الرحمن يؤدي به إلى معرفةالوجود ومحبة كل ما فيه على أنه تجل للحق. ويكشف بدوره عن مشاهدة السر أو المعنىفي جزئياته اللامتناهية (14).

لقد وقف الإمام محمد الغزالي (1059-1111م), ضدتكفير الصوفية, وهذا هو عبد الرحمن بن خلدون (1332-1406م) في المقدمة يقولعنهم:-

الألفاظ الموهمة التي يعبرون عنها بالشطحات ويؤاخذهم بها أهل الشرع, فأعلم أن الأنصاف في شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس والواردات تملكهم حتى ينطقواعنها مالا يقصدونه. وصاحب الغيبة غير المخاطب والمجبور معذور.. (15).

إنالإسلاميين مدعوون إلى عدم المسارعة في إشهار سلاح التكفير والتهويل والتفسيق ناهيكعن التحريض على العنف, وليذكروا ما نقل عن الإمام مالك إمام دار الهجرة من كراهيتهالرد على أهل البدع, حتى لا يعين ذلك على إشاعة بدعتهم. وكم من كويتب أو شويعرنكرة متروك جعل منه التشهير رمزا للعبقرية والإبداع تتسابق المطابع وأدوار الترجمةعلى نشره ويتخطفه القراء (16).

فرواية »صنعاء مدينة مفتوحة« صدرت قبل مايربو على عشرين سنة ومن الصعب على القارئ أن يجد اليوم نسخة في المكتبة أو الأسواق, ود رست في الجامعات, وم ثلت في مسلسل إذاعي, وقراء الرواية نزر يسير من المثقفين, لم تلفت انتباههم الفلتات اللفظية, بل كانوا يركزون على مضمون العملالروائي:-

إن الرواية تبدو نقدا اجتماعيا للواقع, من خلال تصوير مأساته, وتبدو محاولة لإعادة ترتيب الماضي, ومحاكمته, وتبدو تبريرا للحاضر معا . إنهاتبدو كل الأشياء, وتبدو ضباب الأشياء من خلال الدموع والمآسي, وتبدو لاشيء غيرغيبوبة واهية تحملنا إلى أول الطريق كي نموت مرتين. أو نزهر من خلال الموت ورداءحمراء هي الحياة. لذا كان الموت ليس دلالة اجتماعية وسياسية فحسب, ولكن قضيةوجودية ونفسية أيضا , هذا ما يختاره المؤلف منذ لحظة الولادة (17).

وقبلسنوات جرى تكفير العدد العديد من المثقفين اليمنيين والعرب في اليمن, ولقد وقفالمفكر الإسلامي أمين هويدي مندهشا للتحشيد والتثوير والمغالاة في التصنيف, ففيصنعاء:-

جرت محاكمة علنية في مساجد صنعاء وشوارعها للشاعر نزار قباني. كانتتهمته أنه (يسخط) الذات الإلهية, ويستخفف في أشعاره بسبحانه وتعالى.. لقد قلت لمنأعرف في (مقايل) صنعاء, أن المساس بالعقائد أو بالغيب مفسدة ما في ذلك شك, لكنانشغال كل الناس بهذه القضية مفسدة أكبر. إذ أزعجني حقا كثرة ما سمعت من تصنيفاتتضع البعض في دائرة الكفار, والبعض الآخر في دائرة الفاسقين, بينما يضم آخرين إلىقائمة المرتدين.

وقلت إذا انشغلت الأمة بمثل هذه الأمور, فمن ذا الذي يبنيويعمر ويصحح, خصوصا في بلد كاليمن هو أحوج ما يكون إلى كل عقل ويد, وكل لحظةوساعة, ليختصر الزمن وينتشل الناس من التخلف الذي يعانون منه? (18).

إن فضاءالحياة الثقافية يحتاج إلى مزيد من الانفتاح الواعي والمثاقفة وإلى روح التسامحوالإخاء, واحترام الرأي والرأي الآخر, ولقد قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي:- رأيي عندي صواب يحتمل الخطأ, ورأي غيري عندي خطأ يحتمل الصواب.

فالحريةضرورية في حياتنا ولا نستطيع أن نتنفس بدونها: فحرية التفكير والكلام والكتابةدعامة لكل حكم صالح. وحرمان المواطنين من هذه الحريات بحجة أنهم قد يسيئوااستعمالها, أمر لا يقل سخافة وحماقة من منعهم من استخدام الشموع تخوفا من الحرائق (19).

ويتراءى لي, إن نشر »الثقافية« لرواية القاص محمد عبد الولي »صنعاءمدينة مفتوحة«, كان بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس عند نزر من الناس, والذينيضيقون ذرعا بآراء الآخرين. فثمة أناس من هذا الفصيل قد ج بلوا على فرض اللونالواحد وعلى الغلبة في أوضاع غير عادية, ويريدون إعادة سابق مجدها, في أوضاع عصيةالرجوع إلى زمن فارط. ونحن نعيش في كنف الحاضر, من الصعوبة بمكان إدعاءالديمقراطية والحرية الفكرية للذات دون الآخرين:-

إن عقلا متنورا ويمارسالاستبداد هي معادلة لا يقبلها المنطق والواقع. والإنسان الذي يقرر اعتقال عقلغيره يكون في الوقت ذاته قد قرر اعتقال عقله ومن يريد الديموقراطية, ويكون منسجمامع ذاته, عليه أن يريدها للآخرين. أما من يريد الديموقراطية لنفسه ومصلحته فقط, وحجبها عن الآخرين ومصالحهم, فهو كمن يتزوج من جثة لا إنسان. والفرق بين ممارسةالديموقراطية وممارسة الاستبداد هو الفرق بين ممارسة الحب وممارسةالعنف(20).

إن أقوم سبيل لتسوية الإعوجاجات والهفوات إن وجدت, هو النقدالهادف ومقارعة الحجة بالحجة والرأي بالرأي, وعدم تسفيه الآخرين, وإثارة النعراتوتحشيد الناس لصب الزيت على النار, وإشعال حرائق لسنا بحاجة إليها. إن ما نحتاجههو أن نغرس في القلوب حب الآخرين واحترام أفكارهم واتجاهاتهم الفكرية والإبداعيةحتى في حالة الاختلاف معهم.

إننا نحتاج إلى تفتيق العقول وتنوير النفوس, وأننجعل هذه القلوب والنفوس عامرة بالحب والإيمان فلا يمكن أن تتطور الأنظمة والعلوموالفنون والبشر دون الحرية, فهي المدماك الذي يشكل قاعدة للتطور والازدهاروالنماء.

ولا يجب استخدام القوة والعنف في كتم أنفاس الآخرين, لإن ذلك يعدتشويها لروح المدنية: فالناس متساوون: في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقلوالوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء (21).

إننا في زمننحتاج فيه إلى مزيد من العلم والثقافة وسعة الصدر وانفتاح العقل, إننا لازلنا نتلمسطريقنا صوب الديموقراطية, وعليه لابد أن نتعلم فن الاختلاف, وفن الاتفاق, لابد أننتعلم النقد الهادف ونتقبل نقد الآخرين وقناعاتهم.

فلقد سقطت كل الأصناموالهياكل التي ادعت امتلاك الحقيقة لوحدها, وألحقت أضرارا فادحة بالثقافة والحريةوالانفتاح.

لقد مضى زمن محاكم التفتيش عندما كان المفكرون والمتنورونيصلبون, وتقطع رؤوسهم وأناملهم وألسنتهم وتفتش قلوبهم وضمائرهم.

إننا معالثقافة المنفتحة والعصرية مع ثقافة النقد ضد ثقافة الكبت والإلغاء والاحتواء: إننامع التنوير: وحرية تبادل الأفكار والآراء هي أثمن حق من حقوق الإنسان لذلك يحق لكلمواطن أن يتكلم ويكتب ويطبع بحرية على أن يكون مسؤولا عن إساءة هذاالحق...(22).

إن كل العقلاء والطيبين يسعون باتجاه توطيد مدماك الديموقراطيةفي المجتمع, وحتى يتوطد هذا المدماك سيحدث هرج ومرج, وقد يتخالط أحيانا الصلاحبالطلاح, إلا أنه لابد من دفع ثمن لنمو شجرة الديموقراطية والحرية: فينبغي ألا نكفربالديموقراطية ذاتها, فالأم التي ترغب في مولود يخرج من رحمها محكوم عليها أن تتحملغثيان الوحم, وضربات الجنين وتقلباته, وأيضا كل ما يلزم من الحيطة والحمية, ثم مايتلو ذلك كله من عسر في الوضع, وأحيانا ولربما هذه حالنا, ما قد يتطلبه ذلك منعملية قيصرية. إذا فالديموقراطية في مجتمعاتنا العربية ليست قضية سهلة, ليستانتقالا من مرحلة إلى مرحلة, بل هي ميلاد جديد, وبالتأكيدعسير.(23)

وأخيرا »أما الزبد فيذهب جفاء, وأما ما ينفع الناس فيمكث فيالأرض«.(24)

سمير عبدالرحمن الشميري كاتب واكاديمي من اليمن