عرض مشاركة واحدة
قديم 08-19-2010, 10:56 AM
المشاركة 15
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
أوراق ساخنة (9): هل القداسة منتج عقلي؟
طرح الدكتور مصطفى أبو هندي، رئيس قسم الأديان في جامعة المَلِك الحسن الثاني، في المغرب، ضمن برنامج إضاءات، الذي يقدمه تركي الدخيل، وتبثه فضائية العربية، موضوعًا مهمًّا جدًّا نظرًا لما يمثله من أثر على الفكر، والحضارة، وعمل العقل، والدين، والإيمان، والاجتهاد من القضايا المرتبطة.

والمهم الذي سنأخذه في الاعتبار، ضمن هذا المقال من كلام الدكتور مصطفى أبو هندي هو رفضه للقداسة، التي تقترن ببعض الأشخاص المفسرين، والأئمة، والناس العُدول، والمؤسسات عبر التاريخ، فتتحول هذه المؤسسات والأشخاص إلى ما يُشبه الصَنَمْ الذي نُعطيه قداسة استثنائية تجعله بمنزلة صنم، فنتحول نحن إلى عبادة العباد بدلاً من عبادة رب العباد.
وهو يرى مثلاً أن عملية تفسير النص القرآني هي عملية اجتهادية، تحتمل في طياتها الصواب والخطأ، وهي بالتالي عملية نسبية، تتأثر بشخصية المفسر، وظروفه، وبيئته، وزمنه، وتراكم المعرفة لديه، وغير ذلك من ألأمور الدنيوية.
وعليه فإنه يرى ضرورة للثورة، ثورة ضد الأصنام التي تتخذها عقولنا، دون وعي منا أحيانًا، وإعادة القداسة للنص الموحى به الذي يشتمل في طياته ما يَصلُحُ لكل زمان ومكان، وعدم إعطاء القداسة للإنسان الذي يقدم تفسيره للنص ضمن محدودية قدراته، مهما ارتقى في علمه وصفاته.
ولكن الدكتور مصطفى لا يقدم، رغم عدم التقليل من شأن ما يطرح، ما يكفى من المسوغات المنطقية والعلمية، والعقلية، لدعوته هذه، حيث تَحدّثَ بعموميات تعتمد على فهم عام لتطور الحضارة، وضرورة إعادة النظر فيما قُدم من تفسيرات في أزمان سابقة، نظرًا لتغير الظروف البيئية والحضارية، إذ تُصبح تلك التفسيرات غير مُلائمة للواقع المتغير، وعليه ونظرًا لتغير المعطيات لا بد من النظر إلى النصوص الموحى بها، بمنظار الوقائع الحضارية الجديدة المتغيرة، ليتم استنباط التفسير الملائم للمجتمع، ضمن المتغيرات الموجودة في حينه، وعدم الانزلاق بالأخذ بما يقوله الشخص المفسر بشكل مطلق، وعدم منحه الولاء إلى حد تقديسه، فيكون بمنزلة الصنم لنا، ونحن لا نعي ذلك في الغالب.

لن أتطرق هنا لموضوع التفسير، ولكني سأركز حديثي على الجوانب المتعلقة بالكيفية التي يعمل بها العقل البشري، والجوانب النفسية والفكرية والتاريخية المرتبطة باتخاذ الأصنام أربابًا، والأسباب التي جعلت عبر الزمن بعض الأفراد والمؤسسات يمتلكون ويمنحون قداسة استثنائية، حولتهم في عيون مريديهم إلى مايشبه الصنم، و الولاء لهم هو أقرب إلى العبادة، رغم أنهم بشر محدودو القدرة، ومن ثم نصل إلى خلاصة هل أن الدكتور مصطفى محق في دعوته للثورة للتخلص من الأصنام؟ أصنام القرن الحادي والعشرين؟

لا شك في أن الإدراك والوعي الذي يمتاز به الإنسان، وخوفه من الموت تحديدًا، وربما حاجته الفطرية هي التي دفعت البشر (ضمن المحيط والثقافة الهندو أوروبية ) لاتخاذ آلهة تُعبد وتُقدس، فكانت الآلهة الأسطورية المتعددة، حسب اختلاف البيئة، وكانت عِبادة الأصنام على تلك الشاكلة.
والتاريخ يشير إلى أن سيدنا إبراهيم الخليل، أبو الحنفية، عليه السلام قد رفع فأسه في الشرق، وحطم الأصنام، في ثورة عقلية عظيمة، حتى يُعيد الناس لعبادة رب العباد، ولكن فأس سيدنا إبراهيم عليه السلام، رغم ما فعلته من أفاعيل، لم تقض على الأصنام تمامًا، فظلت على مدار الأيام تعود لتتسلل إلى أذهاننا، ولكن بأشكال مختلفة واضحة أحيانًا ومموهة أحيانًا أخرى...وقد تأتي على شكل أفكار وقناعات تعتمل في العقل وتتحكم فيه، وليست مجسدة بأجساد كتلك التي حطمها سيدنا إبراهيم عليه السلام.

فالصنم أحيانًا يكون عبارة عن فكرة، أو أفكار تُصبح جزءًا منا، ومن قناعاتنا، ومن اللاوعي الخاص بنا، وذلك بسبب الطبيعة البشرية التي يتشكل منها العقل البشري، وإمكانية التأثير عليه وبرمجته، فتصبح هذه القناعات، وكأنها جزء من الوعي والإدراك الواعي الذي نختاره ونرتضيبه، ولا يدرك الإنسان عندها أنه على ضلال.

إن بعض الأقوام من صلب سيدنا إبراهيم الخليل، هادم الأصنام، (على الرغم أن الله بعث فيهم عدة رسل) اتخذوا العجل آلهًا في حضور النبي موسى عليه السلام، وأخيه هارون، ولكن ذلك لم يكن نهاية المطاف، فقد أخذوا لاحقًا ينظرون إلى ملوكهم على أساس أنهم أبناء الله، المسيح المخلص، الذي يحكم في مملكة الله على الأرض، وبذلك اتخذوهم أربابًا فعادوا إلى عبادة الأصنام، لكن بشكل آخر هذه المرة.

وفي محيط الثقافة (الهندو أوروبية) المقابلة للثقافة الشرقية، السامية، في التاريخ بدأ التخلص من الآلهة الأسطورية مع تطور الوعي، وولادة الفلسفة الطبيعية حوالي (600 قبل الميلاد)، ومن ثم الفلسفة العقلانية، فلم يعد العقل يؤمن بأشياء غير حسية لم تخضع للتجريب. ولكن الفلسفة نفسها عادت في مرحلة الأفلاطونية الجديدة التي تزامنت مع ولادة المسيحية لتتبنى فِكرًا مثاليًا سهلً على العقل أن ينزلق من جديد في مُتونِ القناعات المُطلقة التي لا تقوم على أساس منطقي عقلي تجريبي، وأثرت هذه الفلسفة المثالية في الدين المسيحي الذي مثل بديلا للفلسفة في تلك المرحلة، حيث انتشر في أوروبا، ومن هناك حصلت الكنيسة على سلطات مطلقة حولتها إلى مملكة الله على الأرض، حيث فاز الفكر الفلسفي المثالي على غيره، وتعززت سلطة الكنيسة، واللاهوت، على حساب العقل والمنطق العقلي والتجريب، الذي أتى به المنهج الأرسطي.

وصار للكنيسة وممثليها قداسة إلهية، ونفوذ تتحكم في كل شيء ، وصار الناس يَشترون المغفرة من خلال صكوك الغفران، ويتقربون إلى الله من خلال الكنيسة ومؤسساتها، واتخذ بعضهم من الرهبان أربابًا، وهو ما يمثل عودة لعبادة الأصنام بقوة، ولكنها طبعًا أصنام من نوع آخر، وقد شرحنا في موقع آخر، تأثير ذلك على التطورالحضاري، حيث حاربت الكنيسة في تلك الفترة العقل فغرقت أوروبا في الظلام.
وما يشير بشكل واضح إلى أن سلامة وعي البشرية، وإدراكها، وصحة فكرها، ومعتقداتها، وتقدمها مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمدى عقلانية الفكر السائد، وواقعيته وعلمانيته ومنطقيته. فكلما أوغل العقل في المثالية، انحرف وانزلق، وتم تعطيله، و تزايد الخطر في أن يقع الإنسان في الضلال، والمشكلة في أن ذلك يكون تصرفًا لا واعيًا في الغالب، فيظن من هو في الضلال أنه على حق، ويدافع عن فكره باستماتة مدفوعًا بالمنظومة الفكرية التي تكون قد فرضت سيطرتها على ذهنه، من خلال الأنا العليا، دون أن يعي ذلك ويدركه.

لقد جاء الإسلام في القرن السادس الميلادي بمنهجيته، وعقلانيته، وعلميته، ليقود ثورة عارمة ضد الأصنام على مختلف أشكالها، فحطم الأصنام التي كان يتقرب بها الناس إلى الله، ومنهم من كان يعبدها، ولكنه جاء أيضًا ليخلص البشرية مما تمثله الأصنام في الأذهان، ومن أجل التخلص من عبادة العباد، وتحويل الناس إلى عبادة رب العباد، وهو ما يشير إلى أن الإسلام جاء ليحارب الأصنام على كافة أشكالها، ومن أهم ما قدم لتحقيق ذلك تفعيل العقل وإعطاؤه شأنًا عظيمًا وجعل التفكير فريضة.

وقد امتاز الدين الإسلامي عما سبقه بتعظيمه للعقل الإنساني، وحث على التدبر في منهجية واضحة، فلذلك كان للإسلام دور مهم في إعادة البعث للفكر الفلسفي العقلي الإغريقي، وزاد عليه علماء المسلمين كثيرًا من فكرهم، فكانت النتيجة نهضة غير مسبوقة على جميع الأصعدة.
ولكن الأهم هو تلك المنهجية، التي أكدت على رفض الأصنام ومحاربتها، حتى أن الخليفة الثاني، مثلًا، قطع شجرة حتى لا يكون لها قدسية مع مرور الزمن، فتعبد كما الأصنام. وأكد وهو يقبل الحجر الأسود على قناعته العقلية بأن ذلك حجر لا يضر ولا ينفع، وبهدف إزالة القدسية عنه، لكي لا يتحول إلى ما يمثله الصنم من قداسة.

وظَلَّ حال الإسلام مُشرقًا يشعُ نورًا،إلى أن انزلقت عقول بعض المفكرين الإسلاميين الذين كان لهم أثر عظيم على الفكر والتفكير والفلسفة في اجتهاداتهم، فانزلقت العقول من جديد في متون المثالية والقناعات المطلقة، فسهل انزلاق الناس في مثالية عميقة، فعادت الناس تعبد شكلاً جديدًا من الأصنام الهلامية التي تمثلت هذه المرة من ناحية في قناعات وأفكار حدت من نشاط العقل وقيدته، ومن ناحية أخرى، منح وإعطاء قدسية استثنائية لبعض أصحاب هذه الأفكار والأطروحات والاجتهادات، ومن بينهم الأئمة والناس العدول الذين تحدث عنهم الدكتور مصطفى، فانزلقت الأمة في جاهلية جديدة أثرت سلبًا على التطور الحضاري، وانزلقت الأمة الإسلامية في ظلام.

والمهم في الموضوع، هو أن الناس كانوا وما يزالوا يجهلون الأسباب الكامنة وراء منح هؤلاء العلماء والمجتهدين والأئمة، تلك القداسة التي حولتهم إلى أصحاب كرامات، أو ما يشبه الملائكة، أو حتى ما يشبه الآلهة عند البعض فاخذوا بفكرهم واجتهاداتهم على أساس أنها نصوص مُقدسة، تمثل بحد ذاتها المرجعية النهائية المطلقة، ومن هنا تشكلت الديانات الأرضية والمذاهب الدينية والسياسية أيضا.

ولا شك في أن بعض الأشخاص عبر التاريخ امتلكوا طاقات وقدرات وصفات ومميزات إبداعية وقيادية مهولة، استثنائية ، عجيبة، تفوق استيعاب عقول العامة، وكانوا دائمًا يبدون على أنهم متقدمين على عصرهم، أصحاب شخصيات قيادية، كرزمية، مؤثرة وطاقات سحرية جعلتهم أصحاب قول فصل ونفوذ، رغم أنهم بشر، فِكرهم، وطروحاتهم، واجتهاداتهم، بشرية تَحتمل الخطأ والصواب.

والسركما سبق وأن تحدثنا في المقالات السابقة، من هذه السلسة، يكمن في اليتم الذي يولد عند بعضهم طاقات مهولة، ويعطي بعضهم مواصفات وصفات استثنائية، تجعلهم محط إعجاب وانبهار عند بعض الآخر الذي ينسج حولهم الأساطير، ويؤلههم كما هي الحال في بعض الديانات الأرضية.

ولو نعود إلى الكنفوشية مثلاً، لوجدنا أن كنفوشيوس اليتيم، امتلك مثل ذلك السحر الكرزمي، وهو لم يدع النبوة، وكان طرحه فلسفيًّا، فكريًّا، حاول من خلاله تقديم تفسير منطقي عقلي للوجود، وما إلى ذلك من ظواهر طبيعية، حيث تزامن عهده مع ولادة الفلسفة الطبيعية، لكن العامة جنحوا إلى اتخاذه نبيًّا، وقد بهروا بفكره، وما قدمه من أطروحات تطغى عليها الحكمة والموعظة.

ويتضح أن الناس قد أحاطت ولادته وحياته المبكرة بأوهام وأفكار خيالية، تتناقلها القصص في التراث الصيني، منها أن الأشباح أبلغت أمه الشابة مولده غيرالشرعي، وكيف كانت الأرواح الإناث تعطر لها الهواء وهي تلده في أحد الكهوف، وقد عاش كونفوشيوس يتيمًا، إذ توفي والده وهو ابن ثلاث سنوات، وقد مالَ إلى دراسة الفلسفة، وظلت أفكاره تتحكم في سلوك الناس أكثر من ألف عام، واكتسبت قداسة عظيمة، حيث صار يلقب بنبي الصين.

وفي زمن مقارب جاء بوذا، وكان يتيمًا أيضًا، ولم يدع النبوة، ولا الألوهية، ولكن الناس حوله، أعطوه القداسة، وجعلوه إلهًا. و قد توفيت أمّه في اليوم السابع من ولادته، كما هو مدون في الكتب التي تتحدث عن سيرته الذاتية. وقد نسجوا حوله قصصًا خيالية أيضًا، ومنها قصة إنجابه تحت شجرة المالبيني، كما جاء في إنجيل بوذا «انتشر نوره، وملأ العالـم، ففتحت عيون المكفوفين، وشاهدوا المجد الآتي من العلاء، وحلّت عقدة ألسنة الخرس، وسمعت آذان الصم». ومن جملة ما نسج الخيال الهندي حول مولد بوذا قصة ولادته الخيالية، وكيف أنه تحدث ومشى فور ولادته. وأعطى البوذيون لبوذا ـ كماجاء في إنجيل بوذا ـ موقعًا فيه حال التأليه، وأصبح بوذا هو الرسالة عندهم، وتقليده والأخذ بسلوكه ومنهجه هو المطلب.

ولو تم التدقيق في سيرة حياة الشخصيات العظيمة، التاريخية، الأفذاذ، أصحاب النظريات الفكرية والفلسفة الوضعية، والتي تركت بصمتها على التاريخ لوجدنا أن معظمهم كان قد مر بتجربة اليتم بشكل أو بأخر، في سن مبكرة، وامتلك صفات استثنائية، وشخصية كرزمية، وقدرات فذة أذهلت من حوله، وأثرت فيهم أيما تأثير، فجاءت القداسة من مجموع تلك الصفات والقدرات الشخصية .

ويمكن الآن، وبفضل ما يتوافر لدينا من معلومات إرجاع تلك الصفات الاستثنائية لأسباب موضوعية، ربما نفسية أو غير ذلك، لم تكن مفهومة من قبل، ويمكن اعتبار أنذلك هو الذي منحهم هالة، ومع مرور الأيام قداسة ميزتهم عن غيرهم، فصاروا هم بذاتهم المرجعية، رغم أنهم بشر محدودو القدرات، وعليه نقول إن أتباعهم ومريديهم الذين يأخذون بفكرهم بشكل مطلق، قد تحولوا إلى عبادة الأصنام، وهم في هذه الحالة الأئمة والمفسرون الذين صار يؤخذ بفكرهم على أساس أنه المرجعية المطلقة ألمعصومة، والتي تصلح لكل زمان ومكان، وليس النص المقدس بذاته.

طبعًا يمكن فهم ما كان يجري قبل الإسلام، من الأخذ بأفكار الناس على أساس أنها أفكار مطلقة، لها قدسية، كما في الفكر الكنفوشي والبوذي. ويمكن فهم ما حصل بعد أن تمكنت الكنسية، وبتأثير الأفلاطونية الجديدة من تعطيل العقل، والتفكير العقلي، وبالتالي انزلاق العقل في متاهات بما في ذلك عبادة العباد أو المؤسسات التي جعلت نفسها ممثلة الله على الأرض.
ولكن ما لا يمكن فهمه وقبوله، هو انزلاق الناس بعد الإسلام في مثل ذلك الانزلاق، لأن الإسلام أعطى العقل منزلة عالية، وجاء بمنهج عقلي متكامل، أوضح للناس فيه طريق الحق، وطالبهم بالتوقف عن عبادة العباد، ورفض الأصنام على كافة أشكالها...وللأسف ذلك ما يحصل حينما نتخذ قناعات مطلقة، ونؤمن بعصمة بعض الناس، وعدلهم، وصحة منهجهم، ومذهبهم إلى حد التقديس، واعتباره أنه المرجعية المطلقة الصالحة لكل زمان ومكان.
ولو أخذنا مثلاً مؤسسي المذاهب، وأئمة السنة الإمام أحمد ، والإمام الشافعي، والإمام مالك وأبي حنيفة، وأئمة الشيعة، وكذلك المفسرين أمثال ابن كثير، وكتًاب الحديث، أمثال أبي هريرة، والبخاري ومعظم الفلاسفة أمثال الأمام الغزالي، وابن تيمية وكثيرا غيرهم، لوجدنا أنهم في أغلبهم أيتام، ولو تم التدقيق في السيرة الذاتية لكل مفكر ترك أثرًا مهمًّا خالدًا عبقريًّا لوجدناهم في معظمهم إن لم يكونوا جميعا أيتام اتصفوا بصفات استثنائية مهولة.

وكتب السيرة توضح في أحيان كثيرة كيف كانت تمنح تلك القداسة من قبل العموم لمثل هؤلاء الأفاضل، حيث لم يدع أحد من هؤلاء الأئمة بالعصمة المطلقة، ولا بالقدسية، وهم حتمًا منزهون عن الادعاء بمثل تلك القدسية، ولكن مريديهم ومحبيهم هم الذين نسجوا حولهم هالة أسطورية.
ففي سيرة الإمام أحمد بن حنبل مثلاً، نجد من يقول بأن الإمام توفي يوم الجمعة، سنة إحدى وأربعين ومائتين للهجرة، وله من العمرسبع وسبعون سنة. وأنه كانت له كرامات كثيرة وواضحة، فعن ابنه عبدالله، قال: رأيت أبي حرّج على النمل أن تخرج من داره، ثم رأيت النمل قد خرجت نملاً أسود، فلم أرها بعد ذلك. وعن الإمام أبي الفرج الجوزي، قال: لما وقع الغريق ببغداد سنة أربع وخمسين وخمسمائة وغرقت كتبي ، سلم لي مجلد فيه ورقات من خط الإمام أحمد بن حنبل".
أما الإمام البخاري الذي ولد ببخارى سنة (194 هـ)، ونشأ يتيمًا، أخذ يحفظ الحديث قبل أن يصل العاشرة، فقد لقب بأمير المؤمنين في الحديث، كما لقّبه بذلك غير واحد من أئمة السلف، ويقال إنه ظهرت عليه في طفولته علامات النبوغ والنجابة، ووهبه الله سبحانه وتعالى ذاكرةً قويّة تفوّق بها على أقرانه، وقد اشتمله الله برعايته منذ طفولته، وابتلاه بفقدان بصره في صباه، فرأت والدته في المنام إبراهيم عليه السلام فقال لها: "يا هذه قد رد الله على ابنك بصره لكثرة بكائك، أو كثرة دعائك" فأصبحت وقد ردّ الله عليه بصره ببركة دعاء أمه له .

وحتى أن قائدًا إسلاميًّا وهو مؤسس الدولة الأموية في الأندلس ما بين عام (731 – 788 هجري)، عَبْدالرَّحْمَن الدَّاخِل، قد نسجت العقول حوله هالة عجيبة، فأسموه الأمير الفَذ، ولد في دمشق حيث مات أبوه، وهو صغير، فتربي في بيت الخلافة...لقب بصقر قريش، وقيل عنه "لولا عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل لانتهى الإسلام من الأندلس بالكلية، وإنا لتعلونا الدهشة ويتملّكنا العجب حين نعلم أن عمره حينذاك لم يتجاوز الخامسة والعشرين عامًا، أي في سنّ خريج الجامعة في العصر الحديث، وقيل عنه "ملَك من السماء، أم ماذا هو؟! لن نذهب بعيدًا، وسنترك الحديث عنه إلى ابن حيّان الأندلسي، ولنعي ما يقوله عنه، يقول ابن حيان مستعرضًا بعضًا من صفات عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل، "كان عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل راجح العقل، راسخ الحلم، واسع العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئًا من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، بعيد الغور، شديد الحدّة، قليل الطمأنينة، بليغًا مفوّهًا، شاعرًا محسنًا، سمحًا سخيًّا، طلق اللسان، وكان قد أعطي هيبة منوليّه وعدوّه، وكان يحضر الجنائز، ويصلي عليها، ويصلي بالناس الجمع والأعياد إذا كان حاضرًا، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى. وقيل إنها شخصية تُشخِص الأبصار، وتبهر العقول، فمع رجاحة عقله، وسعة علمه كان لا ينفرد برأيه، فإذا اجتمعت الشورى على رأي كان نافذ العزم في تطبيقه -رحمه الله-، ومع شدته وحزمه وجهاده وقوته كان -رحمه الله- شاعرًا محسنًا رقيقًا مرهف المشاعر.

ويظهر أن أصحاب المذهب الشيعي يقدسون مريديهم وأئمتهم بشكل أعظم بكثير، فللفقيه عندهم منزلة عظيمة، وهم يقلدونهم ويؤمنون بعصمتهم في ولاء يصل أحيانًا إلي اعتبارهم في مقام الأنبياء، وقد يصل إلى ما هو أبعد من ذلك...كما أنهم يمارسون طقوسًا لا يتقبلها العقل كنتيجة لطبيعتها وقساوتها أيضا. ولو دققنا في سيرة أئمة الشيعة لوجدناهم أيتامًا في معظمهم.

والمدقق في سيرة الأيتام الأفذاذ، والعباقرة جميعهم، يجد أن كثيرمن هذه الصفات والقدرات قد اتصف بها عبد الرحمن الداخل، والإمام أحمد بن حنبل، اللذين تم ذكرهما كأمثلة فقط هنا، والأئمة جميعهم، وحتى كثير من القادة الأفذاذ المعاصرين مع اختلاف نسبي بين واحد وآخر.

وهذه الصفات الكرزمية المهولة هي تحديدًا ما جعلهم بعيون مريديهم، وكنتيجة لعجزهم عن فهم طبيعتها التي ظلت غامضة حتى الآن، ذوي قداسة وعصمة، فانزلقت العقول بدون وعي إلى تقديسهم، وتأليههم والأخذ بفكرهم، ليصبح قناعات مطلقة، رغم أنهم بشر مجتهدون ليس إلا، يحتمل فكرهم الخطأ والصواب ولا يمكن النظر إلى طروحاتهم على أنها صالحة لكل زمان ومكان.

من هنا نعود لنقول:نعم، نحن بحاجة لثورة حتمًا، نحن بحاجة لتشغيل عقولنا، واعتماد المنهج العقلي، وعدم الانزلاق في متاهات المثالية المظلمة،
نحن بحاجة لفهم أعمق لآليات عمل العقل، وإدراك أن العقل قد يؤدي بنا إلى المهالك أحيانًا حيث يبرمجنا، ويخدعنا، فنعتقد أننا على صواب بَيّنْ، ونتطرف في مواقفنا غير المستندة في الغالب إلى المنطق العقلي، والمنبثقة من برمجة ذاتية خادعة. نحن بحاجة لأن نتوقف عن الانبهار ببعض الأشخاص، ومنحهم قداسة، لأننا نعرف سر ملكاتهم الآن، وهي بشرية حتمًا ناتجة عن ظروف صنعتهم، وأعطتهم عبقريتهم وقدراتهم الفذة، فهي ملكات موضوعية يمكن فهمها وربطها بتجارب اليتم التي مروا بها. نحن بحاجة لهدم الأصنام، أصنام القرن الحادي والعشرين المتمثلة في اعتبار بعض الأئمة والأفراد ذوي قدسية استثنائية، ولا بد من الرجوع للنص الذي يصلح لكل زمان ومكان.

وحتى نكون موضوعيين، عقلانيين، وعلميين لا بد من التأكيد هنا على، أن هذا هو مجرد تصور تم بناؤه اعتمادًا على ملاحظة تلك الظاهرة المهمة المتمثلة في اليتم ونتائجه، وهي قضية تحتاج لمزيد من الدراسة العلمية المتعمقة حتى يتم الأخذ بها أو نفيها.