عرض مشاركة واحدة
قديم 11-27-2011, 08:15 PM
المشاركة 53
منى شوقى غنيم
انتقلت إلى أرحم الراحمين إن شاء الله
  • غير موجود
افتراضي
وسبحانه يمتد عطاؤه من الخَلْق إلى شَرْبة الماء،إلى وجبة الطعام،وإلى الملابس،وإلى المَسْكن،وكل عطاء له عُمْر،ويسمو العطاء عند الإنسان بسُمو عمر العطاء،فكل عطاء يمتدُّ عمره يكون هو العطاء السعيد.
فإذا كان عطاء الربوبية يتعلَّق بمُعْطيات المادة وقوام الحياة؛ فإن عطاءات القرآن تشمل الدنيا والآخرة؛ وإذا كان ما يُنغِّص أيَّ عطاء في الدنيا أن الإنسانَ يُفارقه بالموت،أو أن يذوي هذا العطاء في ذاته؛ فعطاء القرآن لا ينفد في الدنيا والآخرة.
ونعلم أن الآخرة لا نهايةَ لها على عكس الدنيا التي لا يطول عمرك فيها بعمرها،بل بالأجل المُحدَّد لك فيها.
وإذا كانت عطاءاتُ القرآن تحرس القيم التي تهبُك عطاءات الحياة التي لا تفنَى وهي الحياة الآخرة؛ فهذا هو أَسْمى عطاء،وإياك أن تتطلعَ إلى نعمة موقوتة عند أحد منهم من نِعَم الدنيا الفانية؛ لأن مَنْ أُعطِي القرآن وظنَّ أن غيره قد أُعْطِي خيراً منه؛ فقد حقر ما عَظَّم الله.
وبالبركة: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (29) سورة ص
وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى إلَيْكَ،يَا مُحَمَّدُ،هَذَا القُرْآنِ،وَفِيهِ خَيرٌ وَبَرَكَةٌ،وَنَفْعٌ وَهُدىً لِلنَّاسِ،لِيُرْشدَهُمْ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ،وَلِيَتَدَبَّرَهُ أُولُو الأَفْهَامِ والعُقُولِ والأَلْبَابِ.وَتَدَبُّرُ القُرْآنِ لاَ يَكُونُ بِحُسْنِ تِلاَوَتِهِ،وَإِنَّما يَكُونَ بِالعَمَلِ بِمَا فِيهِ،واتِّبَاعِ مَا جَاءَ فِيهِ مِنْ أَوَامِرَ،وَالانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ .
وبالتذكير:{ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} ص.
أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى بِالقُرْآنِ ذِي الشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ،المُشْتَمِلِ عَلَى مَا فِيهِ ذِكْرٌ لِلعِبَادِ،وَنَفْعٌ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ وَمَعَادِهِمْ .
وبالوضوح والتبيين:{ حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)} الدخان.
يُقْسِمُ اللهُ تَعَالَى،جَلَّتْ قُدْرَتُهُ،بِكِتَابِهِ المَجِيدِ،المُبَيِّنِ للنَّاسِ مَا يُصْلِحُ حَالَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ .
وبين آثاره في الهداية والبشرى {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9)} الإسراء.
هل عند نزول هذه الآية كان القرآن كله قد نزل،ليقول: إن هذا القرآن؟
نقول: لم يكن القرآن كله قد نزل،ولكن كل آية في القرآن تُسمّى قرآناً،كما قال تعالى:{ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ }[القيامة: 18]
فليس المراد القرآن كله،بل الآية من القرآن قرآن. ثم لما اكتمل نزول القرآن،واكتملتْ كل المسائل التي تضمن لنا استقامة الحياة،قال تعالى:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً.. }[المائدة: 3]
فإن استشرف مُسْتشرف أنْ يستزيد على كتاب الله،أو يأتي بجديد فليعلم أن منهج الله مُنزَّه عن النقص،وفي غِنىً عن زيادتك،وما عليك إلا أن تبحث في كتاب الله،وسوف تجد فيه ما تصبو إليه من الخير.
قوله: { يَِهْدِي.. } [الإسراء: 9] الهداية هي الطريق الموصِّل للغاية من أقرب وَجْه،وبأقل تكلفة وهي الطريق المستقيم الذي لا التواءَ فيه،وقلنا: إن الحق سبحانه يهدي الجميع ويرسم لهم الطريق،فمن اهتدى زاده هُدى،كما قال سبحانه:{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ }[محمد: 17]
ومعنى: { أَقْوَمُ.. } [الإسراء: 9] أي: أكثر استقامة وسلاماً. هذه الصيغة تُسمّى أفعل التفضيل،إذن: فعندنا (أقوم) وعندنا أقل منه منزلة (قَيّم) كأن نقول: عالم وأعلم. فقوله سبحانه: { إِنَّ هَـاذَا الْقُرْآنَ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ.. } [الإسراء: 9] يدل على وجود (القيّم) في نُظم الناس وقوانينهم الوضعية،فالحق سبحانه لا يحرم البشر من أن يكون لهم قوانين وشرائع حينما تعضُّهم المظالم ويشْقُون بها،فيُقنّنون تقنيات تمنع هذا الظلم.
ولا مانع من ذلك إذا لم ينزل لهم منهج من السماء،فما وضعوه وإنْ كان قَيّماً فما وضعه الله أقوم،وأنت لا تضع القيم إلا بعد أن تُعضَّ بشيء مُعوج غير قيّم،وإلا فماذا يلفتُك للقيم؟
أما منهج السماء فإنه يضع الوقاية،ويمنع المرض من أساسه،فهناك فَرْق بين الوقاية من المرض وبين العلاج للمرض،فأصحاب القوانين الوضعية يُعدّلون نُظمهم لعلاج الأمراض التي يَشْقَون بها.
أما الإسلام فيضع لنا الوقاية،فإن حَدثْت غفلة من المسلمين،وأصابتهم بعض الداءات نتيجة انصرافهم عن منهج ربهم نقول لهم: عودوا إلى المنهج: { إِنَّ هَـاذَا الْقُرْآنَ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ.. } [الإسراء: 9]
فنظام الطلاق في الإسلام الذي كثيراً ما هاجموه وانتقدوه،ورأوا فيه ما لا يليق بالعلاقة الزوجية،ولكن بمرور الزمن تكشفت لهم حقائق مؤلمة،وشقي الكثيرون منهم لعدم وجود هذا الحل في قوانينهم،وهكذا ألجاتهم مشاكل الحياة الزوجية لأنْ يُقنِّنوا للطلاق.
ومعلوم أن تقنينهم للطلاق ليس حُباً في الإسلام أو اقتناعاً به،بل لأن لديهم مشاكل لا حََّل لها إلا بالطلاق،وهذا هو الظهور المراد في الآيتين الكريمتين،وهو ظهور بشهادتكم أنتم؛ لأنكم ستلجأون في حل قضاياكم لقوانين الإسلام،أو قريباً منها.
ومن هذه القضايا أيضاً قضية تحريم الربا في الإسلام،فعارضوه وأنكروا هذا التحريم،إلى أن جاء " كِنز " وهو زعيم اقتصادي عندهم،يقول لهم: انتبهوا،لأن المال لا يؤدي وظيفته كاملة في الحياة إلا إذا انخفضتْ الفائدة إلى صفر.
سبحان الله،ما أعجب لجَجَ هؤلاء في خصومتهم مع الإسلام،وهل تحريم الربا يعني أكثر من أن تنخفض الفائدة إلى صفر؟ إنهم يعودون لمنهج الله تعالى رَغْماً عنهم،ومع ذلك لا يعترفون به.
ولا يخفى ما في التعامل الربوي من سلبيات،وهل رأينا دولة اقترضت من أخرى،واستطاعت على مَرّ الزمن أنْ تُسدد حتى أقساط الفائدة؟ ثم نراهم يغالطوننا يقولون: ألمانيا واليابان أخذت قروضاً بعد الحروب العالمية الثانية،ومع ذلك تقدمت ونهضت.
نقول لهم: كفاكم خداعاً،فألمانيا واليابان لم تأخذ قروضاً،وإنما أخذت معونة لا فائدة عليها،تسمى معونة (مارشال).
وأيضاً من هذه القضايا التي ألجأتهم إليها مشاكل الحياة قضية ميراث المرأة،فلما عَضَّتهم قَنَّنُوا لها.
فظهور دين الله هنا يعني ظهورَ نُظم وقوانين ستضطرهم ظروف الحياة إلى الأخذ بها،وليس المقصود به ظهور اتّباع.
إذن: فمنهج الله أقوم،وقانون الحق سبحانه أعظم من قوانين البشر وأَهْدى،وفي القرآن الكريم ما يُوضّح أن حكم الله وقانونه أقوم حتى من حكم رسوله r.
وهذا في قصة مولاه " زيد بن حارثة "،وزيد لم يكن عبداً إلى أن خطفه بعض تجار الرقيق وباعوه،وانتهى به المطاف إلى السيدة خديجة ـ رضي الله عنها ـ التي وهبتْه بدورها لخدمة رسول الله r.فكان زيد في خدمة رسول الله rإلى أن علم أهله بوجوده في مكة فأتوا ليأخذوه،فما كان من رسول الله r،إلا أن خَيَّره بين البقاء معه وبين الذهاب إلى أهله،فاختار زيد البقاء في خدمة رسول الله وآثره على أهله. فقال r: " فما كنت لأختار على مَنِ اختارني شيئاً ".
وفي هذه القصة دليل على أن الرقَّ كان مباحاً في هذا العصر،وكان الرقّ حضانةَ حنانٍ ورحمة،يعيش فيها العبد كما يعيش سيده،يأكل من طعامه،ويشرب من شرابه،يكسوه إذا اكتسى،ولا يُكلّفه ما لا يطيق،وإنْ كلّفه أعانه،فكانت يده بيده.
وهكذا كانت العلاقة بين محمد rوبين زيد؛ لذلك آثره على أهله،وأحب البقاء في خدمته،فرأى رسول الله أن يُكافئ زيداً على إخلاصه له وتفضيله له على أهله،فقال:" لا تقولوا زيد بن حارثة،قولوا زيد بن محمد ".
وكان التبني شائعاً في ذلك الوقت. فلما أراد الحق سبحانه أنْ يُحرِّم التبني،وأنْ يُحرِّم نسبة الولد إلى غير أبيه بدأ برسول الله r،فقال:{ ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ }[الأحزاب: 5]
والشاهد هنا:{ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ }[الأحزاب: 5] فكأن الحكم الذي أنهى التبني،وأعاد زيداً إلى زيد بن حارثة هو الأقسط والأعدل،إذن: حكم الرسول rلم يكن جَوْراً،بل كان قِسْطاً وعدلاً،لكنه قسط بشري يَفْضُله ما كان من عند الحق سبحانه وتعالى.
وهكذا عاد زيد إلى نسبه الأصلي،وأصبح الناس يقولون " زيد بن حارثة "،فحزن لذلك زيد،لأنه حُرِم من شرف الانتساب لرسول الله rفعوَّضه الله تعالى عن ذلك وساماً لم يَنَلْه صحابي غيره،هذا الوسام هو أن ذُكِر اسمه في القرآن الكريم،وجعل الناس يتلونه،ويتعبدون به في قوله تعالى:{ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا.. }[الأحزاب: 37]
إذن: عمل الرسول قسط،وعمل الله أقسط.
قوله تعالى: { يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ.. } [الإسراء: 9] لأن المتتبع للمنهج القرآني يجده يُقدّم لنا الأقوم والأعدل والأوسط في كل شيء.في العقائد،وفي الأحكام،وفي القصص.
ففي العقائد مثلاً،جاء الإسلام ليجابه مجتمعاً متناقضاً بين مَنْ ينكر وجود إله في الكون،وبين مَنْ يقول بتعدُّد الآلهة،فجاء الإسلام وَسَطاً بين الطرفين،جاء بالأقوم في هذه المسألة،جاء ليقول بإله واحد لا شريك له.
فإذا ما تحدّث عن صفات هذا الإله سبحانه اختار أيضاً ما هو أقوم وأوسط،فللحق سبحانه صفات تشبه صفات البشر،فَلَه يَدٌ وسمع وبصر،لكن ليست يده كيدنا،وليس سمعه كسمعنا،وليس بصره كبصرنا:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.. }[الشورى: 11]
وبهذا المنهج الحكيم خرجنا مما وقع فيه المشبِّهة الذين شبّهوا صفات الله بصفات البشر،وخرجنا مما وقع فيه المعطّلة الذين أنكروا أن يكون لله تعالى هذه الصفات وأوّلوها على غير حقيقتها.





هنا بين الحروف أسكن
http://monaaya7.blogspot.com/
من القلب سلامًٌ لمن زارني