الموضوع: ويفيض النبـع
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
11

المشاهدات
4853
 
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي

طارق الأحمدي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
853

+التقييم
0.13

تاريخ التسجيل
Apr 2007

الاقامة

رقم العضوية
3325
11-09-2011, 09:27 PM
المشاركة 1
11-09-2011, 09:27 PM
المشاركة 1
Post ويفيض النبـع



تكوّمت فاطمة في مكانها, فبدت كقطعة بالية من أثاث البيت القليل. تحسّست خيوط النور القليلة التي تمزّق ظلام الليل الطويل. فركت عينيها لتنفض آثار النوم الثقيل, ونهضت لتبدُوَ كنخلة تأبى الانحناء للقدر والعواصف. صامدة كصمود مخيّمها وأهله. وقفت, فبانت جبهتها عريضة, متّسعة لكلّ ما خطّ عليها من سطور وما ستطبعه الأيام عليها من الأحزان وبعض لحظات فرح حين ترى ابنتها الرضيعة " جنين" تكبر مع كل طلقة مقاوم يرميها في صدر العدوّ. مع كل شهيد يسقط لتخضّب دماءه أرض الوطن. مع كل حجر ينطلق من بين أنامل تلميذ أفرغ محفظته وحشاها حجارة, ونقمة وأملا.



استوت واقفة. تقدمت بخطى ثقيلة كثقل الساعات. فتحت النافذة فاقتحم نور الصباح أجزاء كبيرة من الغرفة, فتهلّلت ملامح رضيعتها وهي تنام هادئة, مطمئنّة وكأنها تعلم أن لها أما وأخا صغيرا, وجيرانا وأهلا يحمونها ويدفعون عنها الضيم.



التفتت إلى حيث ينام ابنها فلم تجده. فزعت طيور الرعب في صدرها, انتفض قلبها الجريح دائما بين ضلوعها, امتلأت عيناها السوداوان دموعاً, انقلبت حمرة وجهها المستدير شحوباً, تزلزلت دواخلها وزحف دود الشكّ ينهش عقلها. سكنها شيطان الأمومة والضعف, فاندفعت كالتيار إلى الخارج لتصطدم بابنها الذي لم يطفىء شمعته العاشرة بعد, وهو ينتعل حذاءه الرياضي ويستعدّ للخروج.



جمعت قواها الخائرة, لملمت بقيّة شجاعة مازالت تتعلّق بتلابيب وجدانها. وسألته بصوت تسلّق جدران حنجرتها في جهد ليخرج ضعيفا مكدوداً.



- أجننت؟! أمجنون أنت؟! تكلّم..ألا تعلم أنّ حظر التجوّل يبقى ساريا حتى الثامنة؟



رفع الطفل كتفيه في براءة تدلّ على عدم الاهتمام, ثم قبّل أمه وهمّ بالخروج.



جنّ جنونها, واختطفته بقوّة من قميصه فبان قصره الواضح وضعف بنيته التي لم تصمد أمام قوّة أمه التي رفعته بعض الشيء عن الأرض وأفقدته توازنه, فجثا على ركبتيه متألما بعض الشيء, وانخرط في البكاء.



حضنته. شدت بعنف على ضلوعه, تشمّمته, بلّلت دموعها خدّه الصغير, رفعت يدها اليسرى وتركتها تعبث بشعره. واسترسلت في نحيب حزين.



- فقدت الكثير ولا أريد أن أفقدك أيضا, تعذّبت كثيرا وتعبت. أيها الرّبّ, إن كنت تسمعني فخلّصني من عذاباتي, خذني إليك, أو فجّرني في هذا البلد الحبيب, اجعلني غيمة تروي شجرة صبّار رميت وحيدة في صحرائك الواسعة, أو ناراً تدفىء طفلاً جائعاً ينتظر رجوع والده من غيبة طويلة محمّلاً بالخبز.امسخني كلباً يحرس أمّاً ساهرة أرّقها جوع أبنائها, امسخني غراباً ينعق هذا العالم المجنون الظالم..قد تعبت أيها الرّبّ, يعذّبني جسدي. سجن هو, تختنق روحي داخله.



وتسكت, تخنقها غصّة فتبكي, بحرقة تبكي. لكن الدموع لا تسعفها كثيرا حين فاجأها ابنها بسؤاله البريء الذي أعاد لها توازنها, وجعل خوفها يتقهقر إلى الداخل.



- أمي.أعيدي عليّ حكاية " علي بن السلطان".



فتحكي له. تحكي عساه ينسى فكرة الخروج وهي تتوسّل الشمس الذابلة أن تتخلّص من براثن الأفق وتتحرّر. تتلهّف أن تمرّ الدقائق سريعة حتى يرفع حظر التجوّل.



وتروي له:



- "...وكان رجلا شهماً, لا يرهب صحراء, ولا يعيقه البحر. صيده الأسود, وأسراه الغيلان...كان شجاعاً, نبيلاً, غامر وأنقذ محبوبته من "خاطف العرائس".



- ومن هو خاطف العرائس؟



تسكت لحظات, ثم تجيبه وهي تعدّل من جلستها.



- إنه غول- بنيّ- يسكن جبلاً وعراً تحرسه الوحوش. وله قصر قائم على جماجم البشر.وقد سُمّيَ بذلك الاسم لأنه يخطف كلّ عروس ذات جمال أو حظوة ليلة زفافها. وتقول الخرافة أن روحه كانت مخفيّة في قلب جمل!! وهذا الجمل يرعاه زنجيّ في وادٍ يسمّى" وادي الزنوج" يقع بين جبلين عظيمين.



يقاطعها وهو يدير ذقنها براحته لتنظر في عينيه.



- أخبريني عن الروح.



-إنها معجزة الله, يسكنها عبده كي يتحرك ويمشي ويسعى ويسرق ويقتل ويعمل ويدرس ويجاهد. وحين يشاء يأمرها فتفارقه.



- ولماذا الله هو الذي يشاء وليس نحن؟



فتنهره بشدّة, يدفعها خوف أزلي سكنها من زمن بعيد.



-استغفر ربّك, لا تكفر- ( ثم وبلهجة متوسلة ملؤها الرجاء)- إن الروح ملك للّه, وهو حرّ في ملكه يتركه إذا أراد ويأخذه إذا شاء.



- وأبي؟ هل هو ملك له كذلك.



- أجل. كلنا ملك له.



- لِمَ لَمْ يتركه لنا؟



فتبكي فاطمة في صمت. لم يكن الطفل يدري أنه ينبش جراحاً مازالت طريّة. ولكنها تجيبه من بين دموعها.



- أبوك لم يمت, إنه شهيد. لقد وهب روحه لهذا الوطن كي يكنس دمه بعض القاذورات التي دنّست فناء القدس.



استقام الطفل واقفا, وسار نحو الباب بخطى ثابتة وسط دهشة أمه وخوفها. وقبل أن يخرج خاطبها في جدّ وثبات.



- سأخلّص فلسطين من براثن خاطف العرائس.



وصفق الباب وراءه وخرج يحمل بين أنامله الصغيرة بعض الحجارة وتحت جنبيه قلباً مؤمناً ومصمّماً على تحرير أرضه.



انتظرت فاطمة. طال انتظارها.



مرّت الساعات ثقيلة, متباطئة ولم يعد ابنها.