عرض مشاركة واحدة
قديم 11-07-2011, 12:23 AM
المشاركة 11
روان عبد الكريم
كاتبـة مصـريّـة
  • غير موجود
افتراضي
الأمل
مضى أسبوعان على الحادث وستنتهى فترة عقابى غدا فقد لزمت غرفتى طيلة هذه المدة بشئ من الرعاية الطبية تحت رعاية طبيبة فلسطنية شابة تدعى فدوى الجارحى .. كانت تعاملنى بلطف بالغ ومودة ..وابتسامة دافئة كانت تشع فى ملامحها الطيبة الفتية ..ورغم فارق السنوات القليلة بيننا انى دائما شعرت فى مسلكها بشئ من الأمومة والحنو ..إلا أنها كانت تزورنى دائما تحت عينى جانو المتحفزة المتلصصة ..كون فدوى امرأة مسلمة محجبة .. تقيم مؤخرا فى ضيعة خورى فى أحد أطرافه فى بيت صغير يخص شقيقها نادر ... ..رئيس حراس غسان خورى...بعد انتهاء دراستها الطبيبة وفى انتظار تعينها ...ورغم محاولات فدوى المستمرة فى رفع روحى المعنوية وأخراجى من كأبة المرض والحبس فى هذه الفترة إلا أننى كثيرا ما سألت نفسى هل حطموا روحك المعذبة يا شادن ، هل تغلب العجوز على عنادك وتمردك ، هل نسيت حقيقتك ، هل صدقت كذبهم وصرت ناتالى ، هل قتلوا في الإرادة حتى بت أنسى هويتى وأتقبل كينونتى الجديدة ؛ تمتمت بهذا الكلمة بعيون دامعة وأنا أرقب القمر الخجول خلف الغيم من نافذة حجرتى ، وكان الغيم قد أخفى الضوء الفضى وصار القمر حبيساً ينتظر هطول مطر الفجر فزدات دموعى فمسحتها بألم واستدرت لأعود للنوم ، إلا أن صوتاً ضعيفا شجياً قطع سكون الليل أخذ بمسامعى صوت لم أسمعه من زمنً بعيد يرتل القرأن الكريم ، صوت أعاد إلى الأمل والحياة ، فلم أشعر إلا وأنا أقفز عبر شباك حجرتى إلى غصن الشجرة العريض ومنه إلى الأرض وقد نالنى من أذى الأغصان ما نالنى.. ولكن الترتيل الشجى كان من النوارنية ما جعلنى أنسى أى ألم.

نزلت إلى الحديقة الحالكة الظلام التى بدأت تضئ رويداً والقمر الأسير يخرج من بين الغيم الرمادى والصوت الرخيم يزداد وضوحاً وقد صرت قيد أنملة من صاحبه وهو يقرأ سورة طه ، كنت أستمع بكل جوارحى أبكى فى خشوع وأهتف يا الله ، يا الله وقد اهتز قلبى فى وتيرة متصاعدة تارة هادئة تارة أخرى وشعرت كمن يسمو فى الفضاء كطيف وقد اتحدت خلايا تكوينى مع الشجر والهواء والجبال فى كينونة واحدة ، كانت هذه هى لحظة ميلادى الجديدة ، لحظة الأمل سجلتها دموعى الماطرة الفرحة وتحالفت مع رذاذ المطر الناعم الحالم

وحينما ختم القارئ التلاوة كان بكائى قد تحول إلى نحيب بصوت مسموع متوالى

على بعد خطوات وقف هو فى حيرة ينظر إلى نظرات خاطفة ، تشجعت وأنا أقول بعد أن مسحت الأمطار المنهمرة من عينى
- معذرة
- تمتم فى حيرة أرجو أن تكونى بخير
- لا تقلق أنا بأتم حال ، هكذا أنا أبكى حينما أسمع القرأن الكريم
فابتسم ، وقال
- أرضاك الله وأسعدك بمثل .....
- بســـــــــــام أين أنت ؟
لم يكد يكمل الجملة إلا وقد ظهرت فدوى تنادى وهى ترتدى عباءة سوداء جميلة وقد غطت شعرها على عجل بغطاء حريرى أخضر أظهر خصلاته الشقراء
وقفت بجانبه وأمسكت بذراعه وهى تنظر تجاهى وقد فجأها وجودى:
- بسام هلا تعرفت على ناتالى خورى
نظر إلى فى ذهول وهو يتمتم ناتالى
كانت دموعى قد تسربت كالحلم وقد وقفت بوجهى المحمر أقول بثورة وعصبية
- أنا شادن ، شادن سميح محمود ، لست بناتالى ولن أكون ثم أنهارفى بكاء مرير
تركته فدوى وهى تقترب منى وتحيطنى بذراعها فى حنو
- ناتالى حبيبتى اهدئ ، إنك متعبة..
ثم نظرت لبسام فى توضيح تعرضت ناتالى حفيدة السيد غسان لحادث مؤخراً
صرخت فى يأس وقد شعرت أن مولدى الذى بدأ لتوه يضيع فى شرنقة الأكاذيب التى احاطت بى ،

وانهرت أرضا متكومة وفدوى تهدؤ من لوعتى وتقول:-

اهدئى حبيتى فقطاعتها بحرقة:-
أقسم لك أنى شادن ولست ناتالى هذه ، قلت هذا وأنا أمسك بيدها بلوعة
وقد وقف بسام بقامته المهيبة ووجهه الذى يحمل الكثير من ملامح فدوى بشعر أسود ناعم هزته رياح الجبال الأتية عبر المروج وقد تعبقت برائحة شجر الصندل فزفر فى حيرة وهو يهتف وقد بدأ رذاذ المطر بتكاثر والغيم يتلبد وصوته يقول فى خفوت:-


فدوى بالله عليك انهضى بالفتاة ولندخل المنزل ..نهضت بيد فدوى و شعرت ببسام الذى وقف يراقبنا فى تعاطف يبغى المساعدة ولكنه رجل يتملكه الكثير من الحياء ، وقد سار بحذاء كتف فدوى التى استندت عليها بكل ضعفى وقد بدأت اتماسك رويدا رويداً وأنا أمضى معهم

ما بدا لى بيت صغير فى أقصى الحديقة المترامية الأطراف وقد دفع بسام باب خشبى صغير فى منتصف الدار لادخل ردهة متوسطة الحجم بها طاولة صغيرة لتناول الطعام وأثاث بسيط مكون من كرسى و أريكة يبدو أن أحدهم ينام عليها فهناك فراش تدلى فى اهمال من فوقها ولم يغب عن بسام الذى أحمر وجهه لمعرفتى مدى اهماله ونظرة عاتبة مرحة من فدوى فأسرع لحمل الغطاء خلف الأريكة لنجلس أنا وفدوى وهى تقول :-
معذرة يا صغيرتى بيتنا بسيط ثم تنحنحت فى الواقع هو منزل أخى نادر ونحن ضيوف عليه إلى أن يتم زفافنا بعد عدة أشهر ، وقد علمت مسبقاً أن فدوى معقود قرانها على بسام - وقد أوضحت ، بسام يعمل مهندس تقنى فى أحدى الشركات الشهيرة ولكنه يزرونا فى نهاية كل أسبوع

كانت فدوى التى تكبرنى بأعوام بسيطة تلعب مع دور الأم الحنون مرة آخرى لتشعرنى بالأمان ولم يفتنى كلمة صغيرتى وقد ابتسمت لها فى دفء لأن ركن بها بدا متحيرا فى هويتى ولم يكن لدى بسام هذا التردد على الاطلاق وهو يقول :-
لك اسم جميل شادن ثم أردف دون أن يرفع بصره إلى وهو يجلس على الآريكة

ولك لهجة مصرية محببة افتقدتها كثيرا ، فقد درست فى القاهرة منذ عدة أعوام

نظرت له بامتنان بينما زوت فدوى حاجبيها وكان اعتراف بسام بهويتى قد أرعبها ,ولم تكد تقول كلمة و إلا بإحدى الغرف تفتح ويخرج منها نادر بملابس النوم وهو يهتف بصوت ساخط فدوى هل اعددت الشاى ثم ينتبه إلى وجودى ، وبسام يضحك قائلا
- لدينا بعض الضيوف
وقد اعترى ابن عمه االذهول وقد ألقى إليه بسام بالغطاء ولكنى أقف فى انتشاء وأصر على الإنصراف فشعرت بتنهدة حارة من فدوى ولم أنظر لوجه بسام ، خجلت أن أنظر لوجه بسام

خديجة
تغيرت بى الحياة هذا الصباح , وقد اشتعلت بى جذوة الأمل ويا لها من جذوة ، اشاعت الدفء فى جوانحى التى اشتاقت للقاهرة حينما تراءت لى فوق طيف الخيال وديعة ساكنة من فوق حديقة الأزهر بمأذنها المضيئة الفضية وشواهد القبور المظلمة وحركة السيارات الدائبة فى صلاح سالم وفنادق النيل المشعة من بعيد والبيوت الساكنة الدافئة وصوت جدتى الحنون وهى تحمل لى فى مودة كوب الحليب كل مساء وصورة أبى وهو منهمك فى رسم هندسى ما فوق مكتبه ، كل هذه الصور اجتاحت خلايا عقلى وغمرتنى فى بحر من الدفء والحنين , كنت كالغريق الذى وجد مرساة نجاته ، لذا شرعت يدى فى نشاط وأنا أكاد أعدو فى الحديقة وقد تنفست أشجارها وزهورها فى الصباح الباكر الغارق فى رذاذ مطير حبيب لأول مرة أحب الطبيعة هذا الصباح .. صار المطر رفيق سعادتى بدلا من مستودع بكائى ، وقد حمل معه الكثير من الحلم لفتاة بائسة ضعيفة مثلى ، فطرت كعصفور صغير عبر الباب الحديدى الشامخ ، أدور صاخبة وأتنهد فى راحة مغمضة العين ملتفة الذراعين حول جسدى النحيل وقدماى تحتكان فى همس عبر الفناء الأملس فى اهتزاز غير عابئة بألم السقوط ثم أخطو بقدم واحد السلم الجرانتيى العتيق بينما تندفع قدمى الآخرى عبر الدرجة الأخيرة فى قفزات سريعة لأقع فى الحضن الدافئ لخديجة ، طباخة القصر السمينة القصيرة القامة الحنون ذات الخمسين خريفاً فوق خريف قضت منها الكثيروالكثير فى قصر ملك الطغاة غسان خورى .

وقد شممت من مريلتها رائحة الطحين المميزة ، فلبثت فى حضنها فينة أرتعش وهى تؤنبنى فى ضعف

- يا لك من طفلة كبيرة ، إنظرى لشعرك المبلل من رذاذ المطر
- بل أنها روحى التى بللها ورواها ندى الصبح

هتفت بها وأنا أدور حولها فى شقاوة تحبها هى وتفرج قليلا شرنقة الظلمة المحيطة بحياتى

- أحب المطر ، أحبك جوجى
وجوجى هو الاسم الذى أحببت دائماً منادة هذه السيدة الطيبة التى كثيراً ما رقت لحالى ولمحت فى عينيها العطوفة إلتماعة الدموع التى تخفيها بمهارة بعيداً عن الأعين

وكثيراً ما تسللت ليلاً إليها وهى تقف وحيدة فوق طناجرها العامرة دوماً لأنها المسئولة عن إطعام القصر وعمال الضيعة ، وكنت أسترق السمع إليها تدندن بشئ من أغانى فيروز ، أو تدعو خيفة لابن ضل عنها عله يعود يوماً وحين تلمحنى تزجرنى فى مودة خائفة ، لأعود لمأسرى ، ولا تنسى أبداً أن تخرج لى شيئا من الحلى الغارق بالفسدق والعسل تعده خصيصاً وتحفظه فى حالة مجيئ ثم تربت على يدى فى حزم وهى تضمها ضمة أم حانية وتدير وجهى حتى أستدير وأعود وأسمع دائماً صوتها خافتا يتمتم بالدعاء
وها هى تداعبنى
- يا كتلة العظام النحيلة ، علينا أن نكسوها بشئ من اللحم و......
وما لبثت أن توقف حديثها لدى الدخول الطاغى لغسان خورى وقد استيقظ مبكراً عن موعده
وتكسرت أشرعة الأمل التى ملأتنى على صخرة الواقع الرمادى الكئيب وهو يهتف بصوته العميق وقد ألم بحديثنا ويوجه كلامه للمرأة المسكينة

- لا أعتقد أن اسم جوجى يليق بك خديجة
فتحفزت فى عناد ووجه خديجة يستحيل تغضنا وأحمراراً وهى تومئ برأسها وتستأذن من غسان خورى للإنصراف
فأمسك بذراعها غير عابئة بالنتائج
بل يليق تماما وأردف فى لهجة الواثق لأكمل حديثنا المبتور

- جوجى ماذا لديك من طعام الإفطار
فنظرت لى بعتاب وضعف وقد أنكسر شيئاً فى روحها المرحة
وقد راق الأمر للعجوزالخبيث وهو يستعرض قوته الطاغية وتراقصت ابتسامة عابثة عبر وجهه وهو يقول
أيتها الصغيرة العنيدة فلتكن جوجى مادام جدك سيحظى برفتقك للإفطار ، ولم أكن أعنى هذا مطلقا ، أجلس مع الطاغية المستفز على مائدة واحدة وننعم بتلك الرفقة الصباحية الأسرية المبهجة أمر خارج تمامً عن محبط أفكارى ، فلم يحدث أبداً خلال العام الذى قضيته هنا بين هذه الجدران المهيمنة على روحى قبل جسدى أن تبادلت معه حديثاً مهذباً أو كلمة ودية فما بالك بالطعام وجهاً لوجه معه وقد تخيلت مئات المطارق تنهال على معدتى وتدكها دكاً مريعاً ، لكنى تذكرت جوجى وتذكرت فدوى وبسام وشيئا فى أعماقى ينبأنى بأن أستكين قليلاً وأنتظر فمن يعرف .. من يعرف
قلت
- لا بأس
وأنا أهمس لجوجى بشئ ما ، وهى تختلس نظرة سريعة مؤنبة لم تفت الرجل الواقف ممسكا ً بعصاه يدقها فى رتابة بصوت خفيض وتنصرف جوجى فى سرعة وقد ضاقت عينى العجوز وهو يرمقها فى شك
وقد وقفت أمامه فى أعتداد بالنفس لم يهزنى صوته الرنينى العميق يزفر فى وجهى

- ماذا تدبرين ؟
ويشير بأصبعه فى وجهى
حذار ناتالى فأنا أعشق عقابك
فعضتت على شفتى وقد أثارنى قلقه ببهجة

- لا تقلق مسيو خورى لاتقلق أبداً
قلتها وأنا أتجه لحجرة الطعام
من قال أن الإنسان لا يملك عينين خلف رأسه كاذب لأنى أحسست بسياط تلهب ظهرى وتحرقه