الموضوع: الرصيد
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
9

المشاهدات
4124
 
عبدالأمير البكاء
من آل منابر ثقافية

عبدالأمير البكاء is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
342

+التقييم
0.07

تاريخ التسجيل
Mar 2010

الاقامة
العراق / النجف الأشرف

رقم العضوية
8844
09-20-2011, 09:46 PM
المشاركة 1
09-20-2011, 09:46 PM
المشاركة 1
افتراضي الرصيد
الرصيد

كان أحد أساتذتنا يوم كنتُ طالبا في الإعدادية ، يردد القول شاكيا، بأن المدرس هو الموظف الوحيد الذي يؤدي عمله
واقفا ، بينما مراجعوه جالسون ! فنضحك من تهكّمه ذاك ،
فيضيف لنا فرقا آخر فيقول : وهناك فرق آخر يميز المدرس
عن موظفي الدولة الآخرين ،وهو أن عمله لا ينتهي بانتهاء الدوام الرسمي ككل الموظفين ، بل يستمر معه الى البيت ،وربما يتبعه الى غرفة نومه في كثير من الأحيان ! فيبدأ يستعد في بيته لمحاضرات يوم غد ، وتصحيح دفاتر اختبارات طلابه ، ووضع الدرجات المناسبة لها ، ثم ينقلها الى سجله الخاص ، ثم يضع الأسئلة الشفوية لمواضيع يوم غد وغيرذلك كثيرجدا ! ولما صرتُ مدرسا ، صرتُ أتذكر قول أستاذنا كلما زادت محاضراتي اليومية عن ست محاضرات مرهقة ، فيأخذني الإرهاق مأخذا لا أقوى معه على المغالبة رغم شبابي وفتوتي يومذاك ، وبمرور الزمن المقرون بالخبرة والدراية ، وجدتُ أن هنالك فرقا ممتازا ومتميزا، يمتاز به المدرس عن غيره من الموظفين ، يهون معه التعب المضني والجهد المبذول من قٍبله ، ذلك هو بقاء واستمرار الود والمحبة والإحترام والتواصل بين المدرس وطلابه لسنين عديدة ، ما يجعل منه علامة فارقة يحسده عليها الموظفون كافة ، مهما عَلـَتْ مناصبهم الوظيفية في دوائرهم ، إذ لم أرَ في حياتي قط شخصا هبَّ في الشا رع باشاً للسلام على مدير الضريبة أو موظف في التسجيل العقاري أو ضابط شرطة يعمل في مديرية الجنسية والجوازات لأنه فقط قد وقـّع له معاملته في سنة من السنين ، بعد أن (تفضل) ذلك المسؤول برد السلام عليه مشكورا ! أما أنا وعند المقارنة أجدني مدللاً عند طلابي وذويهم في السلام علي ، وإبداء تقديم المساعدة لي بمحبة ومودة في الشارع وفي كل الدوائر الحكومية حين أدخلها ، إذ ليس من المعقول ولا المقبول أن أقضي يوميا نصف نهاري بينهم أزقهم العلم والمعرفة والأدب وحتى النكتة المُنبِّهة لمن شتَّ ذهنه عن سماع محاضرتي ! فينسى هؤلاء أيام (العِشرة) فيما بيننا ، فيتصرفون تصرف ناكر للجميل حين يرونني !وإذا كنتُ أنسى فلن أنسى ذلك اليوم الذي وقفتُ فيه أمام باب مدير عام في وزارة التربية في بغداد ، ليوقـّع لي معاملتي ، فأجد ذلك المدير قد خرج من غرفته ماسكا معاملتي بيده ، باحثا عني بلهفة بين المراجعين ، فيطوقني بيديه مقبلا رأسي مع وابل من كلمات الترحيب والمدح التي ترضي غرور البسطاء أمثالي حين يمدحهم أحد ! فأعرف بعدها أن هذا المدير كان أحد طلابي قبل عشر سنوات مضتْ ، ( فأنفشُ ) ريشي كالطاووس مفتخرا ومتباهيا بجودة حصاد مازرعت !
كما لم أنسَ ذلك المدرس القدير الذي طرده النظام السابق من التدريس لأنه لم ينتمِ الى حزب البعث وعنده أخ معدوم ، فيجتمع في بيته العشراتُ من طلابه القدامى وقد صاروا تجارا ومقاولين ، كلٌ يمسك في يده دفتر شيكاته ليضع ذلك المدرس المبلغ الذي به يستطيع فتح متجر أو مصنع يعوضه خسارته وظيفته ! وحين سألته عن سرِّ بكائه بينهم ، قال لي:هذه دموع الفرح ، لأني الآن عرفتُ مقدار رصيدي عند هؤلاء النجباء الذين درستهم في سنة من السنين !...قد يرى البعض أني في قولي هذا كنتُ متفائلا أكثر من اللازم ، فأرى الدنيا بخيرمادمتُ لم أصادف الأشرار خلال خدمتي في التدريس ! وقد يقول قائل : أنت يا أستاذ لم ترَ النصف الفارغ في القدح ، لذا فأنت فرحان ومكتفٍ بمن صادفتَ ، من دون أن تدري أنْ ليس كل الطلاب ملائكة وأبرياء ! فأجيب عن ذلك قائلا : سألني عضو اللجنة التي تختبرني للتعاقد كمدرس مع وزارة التربية في الجمهورية اليمنية : ما الفرق بين طلاب العراق وطلاب اليمن ؟ فأجبته : أنه بالرغم من عدم معرفتي بطلاب اليمن لعدم تدريسي لهم ، لكنني أقول أن الطالب هو نفس الطالب ، لايختلف باختلاف المكان أوالزمان ، لكن الفرق قد يقع بين مدرس ومدرس ، وإن كانا في مدرسة واحدة ،فيصبح مقياس سلوك الطلبة مرهون بشخصية المدرس وعِلميته ، فلو كان فاقدا لهما ، فليس من حقي أن ألوم الطالب الذي يسيء الأدب مع أستاذه بل ألوم الأستاذ نفسه لأنه أقحم نفسه في التدريس ، وهو منزوع سلاح الشخصية والعلمية المطلوبة جدا في مجال التربية والتعليم ، فيصبح للأسف الشديد موضع استهزاء وتمرد حتى الطالب الهادىء المعروف باتزانه وأدبه ، فكم من مدرس معي جاء للإدارة يشكو سلوك طالب أعرفه ، فأعرف فورا أن هذا الطالب الهادىء في درسي قد انقلب الى طالب مشاكس متمرد في حصة ذلك الأستاذ ،لأن الفراغ في قاعة الدرس كان كبيرا جدا فشغله ذلك الطالب بالمشاكسة والأذى والتمرد ! إذن فالطالب في كل مكان وزمان يحمل مع حقيبته فجوره وتقواه ، فيستعملهما بحسب ( نوعية ) المدرس الواقف أمامه دون النظر الى الإعتبارات الأخرى كالعقوبات مثلا . وحينها تبقى فقط قدرة المدرس على إماتة نوازع الشر في دواخل طلابه ، وإحياء مواطن الخير فيهم مادام بينهم . أتذكر أني حين دخلتُ قاعة الدرس في اليمن لأول مرة ، وجدت من بين الطلاب طالبا قد تبرأتْ سمات الجمال والصالحين منه كبراءة الذئب من دم يوسف عليه السلام ! يجلس وقد أدار وجهه عني ،وهو يلعب بيدٍ بشاربيه وباليد الأخرى بمسبحة تنمُّ عن رداءة ذوقه باختيار لونها ! ينظرلي بين الفينة والأخرى شزرا يتوعدني كأني قتلتُ أباه غدرا! تجاهلته وأكملت حديثي مع الطلبة ، فقام وخرج من القاعة من دون أن يستأذنني ! فلم أبدِ انفعالي للجميع بل سألتُ عن اسمه مبتسما ، فقال لي الطلبة أن اسمه شمسان ، لكنهم يلقبونه بالثور العنيد ! لأنه أقوى من الجميع، ولا يتوانى عن ضرب من يواجهه من الطلبة والمدرسين ! لذا فإن المدرسين يخافونه فينجح عندهم بالتمادي والتخويف ! بعد شهر من وجودي في المدرسة ، وبعد عشر جلسات انفرادية معه ، إنقلب شمسان الثور الى حمل وديع يحمل لي صباح كل يوم فطوري من بيته معتذرا ، وسط اندهاش الطلبة والمدرسين الذين طلبوا مني نص الآية الكريمة التي قرأتُها عليه فانقلب الى هكذا بشر ! قد تكون هذه الحالة ضربا من الخيال في ترويض هذا النوع من البشر ، لكن التحدي المسلح بالإيمان بالله عزوجل وبالدربة الواثقة في مواجهة الخيار الأصعب هي التي جعلتني أن أضيف شمسان الى رصيدي الذي أفتخر بنمائه كلما تقدم بي العمرالذي أراه ليس بالمديد !