عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
5

المشاهدات
14727
 
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي


رقية صالح is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
2,577

+التقييم
0.50

تاريخ التسجيل
Mar 2010

الاقامة

رقم العضوية
8808
03-12-2011, 09:53 PM
المشاركة 1
03-12-2011, 09:53 PM
المشاركة 1
افتراضي قصـة .. لمـن أشكـو كآبتـي .. لتشيخوف






لمـن أشكـو كآبتـي .. لتشيخوف



غسق المساء.. ندف الثلج الكبيرة الرطبة تدور بكسل حول مصابيح الشارع التي أضيئت لتوها، وتترسّب طبقة رقيقة ليّنة على أسطح المنازل وظهور الخيل, وعلى الأكتاف والقبعات.. والحَوذي (ايونا بوتابوف) أبيض تماماً كالشبح.. انحنى متقوساً، بقدر ما يستطيع الجسد الحي أن يتقوس وهو جالس على المقعد بلا حراك.. ويبدو أنه لو سقط عليه كوم كامل من الثلج فربما ما وجد ضرورة لنفضه … وفرسه أيضاً بيضاء تقف بلا حراك وتبدو بوقفتها الجامدة وعدم تناسق بدنها وقوائمها المستقيمة كالعصي حتى عن قرب أشبه بحصان الحلوى الرخيص، وهى على الأرجح مستغرقة في التفكير؛ فمن أُنتزع من المحراث من المشاهد الريفية المألوفة وأُلقي به هنا في هذه الدوامة المليئة بالأضواء الخرافية والصخب المتواصل والناس الراكضين لا يمكن ألا أن يفكر.


لم يتحرك ايونا وفرسه من مكانهما منذ وقت طويل. كانا قد خرجا من الدار قبل الغداء ولكنهما لم يستفتحا حتى الآن، وها هو ظلام المساء يهبط على المدينة، ويتراجع شحوب أضواء المصابيح مفسحاً مكانه للألوان الحيّة, وتعلو ضوضاء الشارع.


ويسمع ايونا: يا حوذي! إلى فيبورجسكا! يا حوذي!


يتنفض ايونا ويرى، من خلال رموشه المكللة بالثلج، رجلاً عسكرياً في معطفه بقلنسوة.

ويردد العسكري: إلى فيبورجسكايا, ماذا هل أنت نائم؟ إلى فيبورجسكايا!


ويشد أيونا اللّجام؛ علامة الموافقة، فتتساقط إثر ذلك طبقات الثلج من على ظهر الفرس ومن على كتفيه … ويجلس العسكري في الزحافة، ويطقطق الحوذي بشفتيه ويمد عنقه كالبجعة وينهض قليلاً ويلوح بالسوط بحكم العادة أكثر مما هو بدافع الحاجة وتمد الفرس أيضاً عنقها, وتعوج سيقانها وتتحرك من مكانها بتردد …


وما إن يمضي ايونا بالزحافة حتى يسمع صيحات من الحشد المظلم المتحرك جيئةً وذهاباً: إلى أين تندفع أيها الأحمق! أي شيطان ألقى بك؟ الزم يمينك! .. ويقول العسكري بانزعاج: أنت لاتجيد القيادة! الزم يمينك!



ويسبّه حوذي عربة حنطور، ويحدق أحد المارة بغضب وكان يعبر الطريق فاصطدمت كتفه بعنق الفرس وينفض الثلج عن كمه، ويتملل ايونا فوق المقعد وكأنه جالس على جمر ويضرب بمرفقيه في كلا الجانبين ويدور بنظراته كالممسوس وكأنما لا يفهم أين هو ولماذا هو هنا.




ويسخر العسكري: يا لهم جميعاَ من أوغاد! كلهم يسعون إلى الإصطدام بك أو الوقوع تحت أرجل الفرس.. إنهم متآمرون ضدك.. يتطلع ايونا إلى الراكب ويحرك شفتيه .. يبدو أنه يريد أن يقول شيئاً ما ولكن لا يخرج من حلقه سو الفحيح.



فيسأله العسكري: ماذا؟


يلوي ايونا فمه بابتسامة ويوتر حنجرته ويفح:


- أنا يا سيدي.. هذا الأسبوع ..ابني مات.

- ممم!.. مات إذن؟


يستدير ايونا بجسده كله نحو الراكب ويقول: ومن يدري؟ .. يبدو أنها الحمى .. رقد في المستشفى ثلاثة أيام ومات… مشيئة الله.



ويتردد في الظلام: - حاسب يا ملعون ! هل عَميت أيها الكلب العجوز؟ افتح عينيك!



ويقول الراكب: هيا, هيا سرّ، بهذه الطريقة لن نصل ولا غداً. عجّل! ويمد الحوذي عنقه من جديد، وينهض قليلاً ويلوح بالسوط بحركة رشيقة متثاقلة، ويلتفت إلى الراكب عدّة مرّات ولكن الأخير كان قد أغمض عينيه ويبدو غير راغب في الإنصات. وبعد أن أنزله في فيبورجسكايا توقّف عند إحدى الحانات، وانحنى متقوساً وهو جالس على مقعد الحوذي, وجَمُد بلا حراك مرة أخرى .. ومن جديد يصبغه الثلج الرطب؛ هو وفرسه باللّون الأبيض، وتمرّ ساعة وأخرى.



على الرصيف يسير ثلاثة شبـّان وهم يطرقعون بأحذيتهم في صخب ويتبادلون السباب؛ إثنان منهم طويلان نحيفان والثالث قصير أحدب .. ويصيح الأحدب بصوت مرتعش:



- يا حوذي إلى جسر الشرطة! ثلاثة ركاب …. بعشرين كوبيكا.


يشد ايونا اللّجام ويطقطق بشفتيه ليست العشرون كوبيكا بسعر مناسب ولكنه في شغل عن السعر ... فسواء لديه روبل أم خمسة كوبيات … المهم أن يكون هناك ركاب … يقترب الشبـّان من الزحافة وهم يتدافعون بألفاظ نابية ويرتمي ثلاثتهم على المقعد دفعة واحدة. وتبدأ مناقشة حادة من الإثنين اللّذين سيجلسان ومن الثالث الذي سيقف؟ وبعد سباب طويل ونزق وعتاب يصلون إلى حلّ:


الأحدب هو الذي ينبغي أن يقف باعتباره الأصغر .. فيقول الأحدب بصوته المرتعش وهو يثبت أقدامه ويتنفس في قفا ايونا: هيا عجل! اضربها بالسوط! يا لها من قبعة لديك يا أخي! لن تجد في بطرسبرج كلها أسوأ منها.


فيقهقه ايونا: هذا هو الموجود.


- اسمع أنت أيها الموجود عَجّل، هل تسير هكذا طول الطريق؟ ألا تريد صفعة على قفاك؟


ويقول أحد الطويلين: رأسي يكاد ينفجر؛ شربت بالأمس أنا وفاسكا عند آل دوكماسوف أربع زجاجات كونياك نحن الاثنين .. ويقول الطويل الآخر بغضب: لا أدري ما الداعي للكذب! يكذب كالحيوان.


- عليّ اللعنة إن لم تكن حقيقة.


- إنها حقيقة مثلما هي حقيقة أن القملة تعسل.


فيضحك ايونا: هىء هىء هىء .. سادة ظرفاء.


ـ فلتخطفك الشياطين! هل ستعجل أيها الوباء العجوز أم لا!


ـ هل هذا سير؟ ناولها بالسوط! هيا ايها الشيطان! هيا! ناولها جيداً!





هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)