الموضوع: رحلة العمر - 1 -
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-19-2011, 08:20 PM
المشاركة 2
رشيد الميموني
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رحلة العمر - 1 / 2
رحلة العمــــــــر - 2 -

منذ الوهلة الأولى ، كانت أصوات تتناهى إلى مسامعي من بعيد وأنا أعد حقيبتي .. كانت أصواتا مألوفة عندي ، وكنت أجيبها في سري و كأنني أحادث أشخاصا أمامي .. واستمرت هذه الأصوات تدوي في أذني مجتمعة ، بل وازدادت حدة و أنا على مشارف قريتي الودود .. هناك أخذت أميزها جيدا .. بل وأحدد مكانها وأنا أوغل في الغابة المشرفة على الدور القليلة المنتشرة على الربوة الكبيرة ..
أول من لقيته كان الجدول الصغير و مياهه تنحدر شادية أعذب الألحان .. ثم توالت أشيائي العزيزة وكأنني أمر أمامها في موكب .. كل شيء يشير .. ينتفض .. يتمايل .. يترنم .. الشجر .. المنبع .. الربوة .. الجبل .. الكل يفتح ذراعيه .. يبتسم .. يضحك .. و أنا سائر في طريقي وقد أسكرتني نشوة اللقاء .. ولم أفطن إلا و أنا أتمتم :" أهلا .. ها أنذا .. طيب ..طيب .. سوف ألمسك أيها الغصن الطيب.. و أنت أيتها الصخرة .. لا تغضب أيها المنبع .. سوف أشرب منك .. و أغتسل بمياهك .. تعالي أيتها الزهرة الجميلة .. لن أقطفك .. سأنحني عليك وأقبلك .. مهلا .. مهلا .. سوف أقبل الجميع .. سلاما أيتها اليمامة العائدة إلى وكرها .."
هكذا سرت نحو منزل قريبي و أنا تحت تأثير ما سمعته من حفيف وخرير وهديل وخوار و نباح ..
يسدل الليل ستاره فلا أعود أرى شيئا سوى النجوم المتلألئة وهي تبدو قريبة جدا مني .. جلست على عتبة الباب ، مسندا ظهري إلى وسادة قدمها لي قريبي احتفاء بمقدمي .. تتعالى أصوات الصراصير وكأن دورها قد جاء لترحب بي .. عن يميني ينزوي المنبع في خرير متواصل وكأنه ينبهني قائلا :"إنني هنا .. لا تبتعد عني .." .. ولكني ورغم شعوري بالسعادة لهذه الحفاوة ، فإني كنت أحس بشيء ما يخترق هذه السعادة و يسبب لي توجسا .. كان هناك شبة همس يأتيني من كل جانب .. عاتبا .. لائما .. وكنت أحدق في الظلام و ألتفت حولي فلا أرى سوى أشباح الأشجار و فوقها الجبل جاثما بكل عظمته و جبروته .. ولا أردي كم من الوقت مرعلي هكذا حين أحسست برغبتي في النوم فدلفت إلى الداخل .
في الصباح .. تجددت معانقتي لأشيائي و هي تعترض طريقي .. لكني كنت شارد الذهن ، مشتت الفكر، وما زلت أمشي حتى وقفت على جرف سحيق وقد امتد أمامي الوادي .. هنا شعرت بشيء من الرهبة .. نهر طويل عريض يتناهي إلي هدير مياهه .. بل ويزيد هديره كلما أمعنت النظر فيه .. نعم .. هو ذاك الهمس الذي راودني وأنا جالس قرب المنزل أحدق في النجوم .. ابتسمت وعلمت أنني قصرت في حق النهر الكبير ، إذ لم أزره في المرة السابقة فأعلن تمرده و استياءه .. فلم أملك إلا و أنا أنحدر صوبه غير آبه بما يعترضني من صخور ناتئة و جذوع شجر يابس .. حتى وصلت إلى ضفته و جلست .. أي ابتسام هذا و أية فرحة تلك التي افتر ثغره عنها ؟ تمثل لي غادة و هي تتمنع دلالا و غنجا .. نهضت على الفور و نزلت إلى أقرب صخرة أملأ كفي بمائه و اسكبها فتترقرق تحت أشعة شمس الصباح الزاهية ..
هل انتهى الهمس ؟ .. كلا .. إذن من الذي لم أزره بعد ؟ .. نظرت إلى أعلى حيث القرية .. وجلت بنظري عبر أرجائها حتى توقفت عند آخر منزل عند ناحية الشلال .. هناك خفق قلبي بعنف .. الكهف ..
لو كنت في مكان غير هذا وتراءى لي فم الكهف الفاغر ، لملئت رعبا و هلعا .. لكن هذا الفم وذاك السواد الذي يلوح لي من بعيد داخل الكهف لم يزدني إلا نشوة و ابتهاجا بلقاء شيء جديد ..
ودعت النهر وأخذت في الصعود .. تهب ريح رخاء فتتمايل الأشجار و العشب و الأزهار .. بعض شقائق النعمان أبت إلا أن تجد لها مكانا قرب الكهف .. بحيث أخذت تتصنت إلى همسي و أنا أقف على الباب .. عن يساري كان الشلال يهدر بعنف ويطالني رذاذه فينعش الجسد والنفس .. وقفت على صخرة و فتحت ذراعي استقبل نسمات مشبعة برائحة التراب و العشب و الشجر..أغمضت عيني ثم فتحتهما متطلعا إلى الأفق حيث بدت أعلى قمة في المنطقة.. كان علي أن أشير إلى القمة المكللة بالثلوج ليكون بذلك وداعي قد بدأ .. مشيت طويلا قبل أن أقف أمام الدار .. تأملتها طويلا .. قلنا كلاما وكلاما .. تعاتبنا .. ابتسمنا و ضحكنا ثم وليت وجهي شطر النهر الصغير .. أخذت حفنة من مائه المنساب في رقة و شربت حفنات منه فانبعثت منه ضحكة خافتة كأنني أدغدغه ..
الموكب يتهيأ للرحيل .. و الحشد قد ملأ الطريق و الربوة .. لم أكن أرى موطئ قدمي لكثرة التفاتي يمينا ويسارا وإلى الخلف ثم إلى الأعلى.. وقبل آخر منعرج .. توقفت لألقي نظرة أخيرة على أشيائي وهي تودعني في بكاء صامت .. ولحن حزين .. "إلى اللقاء .. نحن هنا دائما في انتظارك .." فأجيب في همس :
- وأنا أيضا سأكون في الموعد .."