الموضوع: رحلة العمر - 1 -
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
7

المشاهدات
3667
 
رشيد الميموني
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


رشيد الميموني is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
597

+التقييم
0.12

تاريخ التسجيل
Dec 2010

الاقامة
تطوان / شمال المغرب

رقم العضوية
9563
02-19-2011, 07:48 PM
المشاركة 1
02-19-2011, 07:48 PM
المشاركة 1
افتراضي رحلة العمر - 1 / 2
رحلة العمر (1)



لحد الآن لا زلت أتساءل :" هل يمكن للإنسان أن يعيش طفولته ويعود إلى أحضان الصبا في مدة زمنية قصيرة ؟ " أقول هذا وأنا لا زلت تحت تأثير رحلة كثيرا ما هممت بالقيام بها ثم لا أدري كيف كنت أعرض عنها لأظل أيام أتحسر على إفلات الفرصة بعد أن تكون الإجازة قد انتهت .
يومان كانا كافيين لأن أعيش لحظات كنت أختطفها في الخيال لأعيشها بين السطور .. أو في الأحلام .. في لحظة لا وعي ، وجدت نفسي أمتطي سيارة أجرة لأصل عند المغرب إلى هناك .
كل شيء كان يوحي بالجمال .. الأمطار الغزيرة جعلت الأرض تهتز وتربو .. لكن شيئا ما كان يجد صدى له في نفسي .. كنت أحس و أنا أصعد التلال إلى حيث أحد أقربائي بأن هناك في الأسفل .. ينبعث صوت ، بل أصوات ونداءات تلاحقني .. و حين كنت أتوقف قليلا لألتفت ورائي نحو النهر ، كنت أحس بأن كل شيء يهتز ويومئ إلي .. "الدار اللي هناك" التي لم يتبق منها إلا الأطلال .. المدرسة .. النهر .. الشط ( هكذا كنا نسمي الشلال ) .
في تلك الليلة ولحسن حظي ، ظلت أنوار القرية مطفأة لعطب ما .. فكانت فرصة لأعيش نفس الزمان ونفس المكان اللذين عشتهما هنا ..
بعد العشاء ،قام قريبي إلى المنبع ليسقي الماء فنهضت لتوي أتبعه وهو يرمقني باستغراب .. كان البرد قارسا في الخارج .. لكنه لم يمنعني من الخروج .. دلفنا إلى المنبع .. والظلام دامس .. خرير الماء يصم الآذان .. سرت في نفسي فشعريرة .. وأوغلت بين الأشجار الكثيفة أنط من صخرة إلى صخرة .. كل شيء حولي يصرخ ، ينادي ، يتوسل أن أبقى كل صخرة .. كل شجرة .. كل زاوية من المنبع كان يرجوني البقاء و يذكرني به .. ثم عدنا إلى الداخل لتناول العشاء .
بزغ القمر بعد لحظات ، فاستأذنت قريبي وخرجت وحيدا .. اتجهت من جديد إلى المنبع .. كان نسيم رخاء بارد يهب من الشرق .. وكان تمايل بعض الأغصان رقصا .. وخرير المياه عزفا .. وقفت أتملى بهذه التحفة الطبيعية التي لم أعشها منذ مدة طويلة ثم عدت أدراجي ناويا على استكمال الرحلة في الغد .. أوصاني قريبي بأن أوقظه باكرا حتى يصحبني .. لكنني كنت أعلم بأنه يعمل أياما ويرتاح أخرى ، فلم أشأ إزعاجه ..
شيء آخر جعلني أعزف عن إيقاظه . ولم أشعر به إلا وأنا على مشارف الشط وقبالة الدار .. وعلى ضفة النهر.. كان الشط هناك مبستما – أي و الله – وكأنه كان يريد أن يظهر لي جبروته و قوته ، فبدت لي مياهه المنحدرة إلى أسفل ضاربة في العنف و القوة .. وغضت الدار طرفها فلم أدر هل هو هو حياء أم عتاب .. لكنني شعرت بالرضا من جانبها لكوني جئت وحيدا ، حتى يمكننا البوح والمكاشفة بعيدا عن الأعين .. قرميدها تلألأ وكأنه يحييني .. بل وكان صوت الريح التي صارت قوية ذاك الصباح يحمل إلي صوته .. رجعت بي الذكرى إلى قصة "الشيء الصغير" للكاتب الفرنسي ألفونص ضوضي ، وهو يطلب من بستانه أن يناوله وردة من ووروده ، مودعا إياه بعد أن بيع المعمل و الحديقة .. لكن حديثي ومناجاتي مع الأشياء المحيطة بين كانت لها نكهة خاصة .. كنت ألتحم مع أشيائي وأنصهر وإياها .. الدار تفتح ذراعيها لتستقبلني .. والشط يرغي ويزبد نشوة وطربا .. والنهر يدعوني للجلوس على ضفته .. هنا أدركت لماذا كان غياب قريبي ضروريا .. لم أشعر إلا وأنا أركض بين الشط والدار و أعلى النهر.. كما كنت أفعل في الصبا وأمر بمحاذاة مدرستي .. تلاحقني ضحكات الأماكن في صفاء و براءة ..ثم انطلق صوب طريق آخر لي معه حكاية طريفة .. هل أذكرها ؟ .. طيب ..
ذاك الطريق يمتد إلى حيث بتفرع عنه طريق آخر .. طريق منحدر و آخر مرتفع .. هنا كانت لإحدى مسرحيات فيروز أثرا بالغا في لهفتي للمشي على هذا الطريق .. في أحد فصول المسرحية تقول كلمات الأغنية :
يا حراس .. فيه مفرق طريق بين ثلاث طرقات
الطريق اللي نازل .. نازل
الطريق اللي عالسهل . عالسهل
والطريق اللي طالع ..
بيودي على درج اللوز
بتمشو شوي .. و تمشو شوي
وترجعو تمشو تمشو شوي
هالبيت العتيق عاجنب الطريق
هو خمارة جورية
و عم يسكر فيها بيي
جيبو جورية وجيبو بيي.

كم كان ترنمي بهذه التحفة يشعرني بمتعة ما بعدها متعة وأنا أصعد الطريق الموغل في الغابة .. السكون مطبق على المكان إلا من ثغاء أو خوار أو نباح .. وأجلس عند جذع شجرة لأحس بأغصانها تنحني لتضمني إليه في حنو و حدب .
كم يلزمني من الوقت و الصفحات لأذكر كل لحظة عشتها هناك .. لكن الأكيد أن لحظة الانصراف ... كانت مؤثرة .. نفسي تدعوني للبقاء مدة اطول .. الأشياء من حولي تناشدني عدم الرحيل .. لكن ، ما خفف علينا ، أنا وأشيائي العزيزة ، وطأ الفراق هو نيتي الصادقة في العودة من جديد لأرتمي بين أحضانها . لن أذكر كيف انصرفت .. لأنني لا زلت هناك قلبا وعقلا و روحا .