عرض مشاركة واحدة
قديم 02-08-2011, 01:15 AM
المشاركة 31
سحر الناجي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


** العقل بين الشرع والفلسفة
إذا أردنا مقارنة ومقاربة قضية العقل بين الفلسفة والشريعة فيجب أن نفرق بدقة بين مفهوم العقل في الشرع ومفهومه في نظرية المعرفة في المدارس الفلسفية.
والإسلام لا يرفض العقلانية بكل أنواعها ومستوياتها، إنه فقط يرفض العقلانية الجذرية (أو العقلانية الأصولية إذا جاز التعبير) والتي ترفض أي مصدر للمعرفة غير العقل. لكنه يدعو إلى التعقل المبني على برهنة محكمة كمرحلة من مراحل التفكير من أجل الوصول إلى الحقيقة. ويتجلى هذا بوضوح في دعوة القرآن الكريم للتفكر، ومخاطبته لأهل العقول. والقرآن نفسه قد سلك طريقة البرهنة المباشرة؛ إذ إن القرآن هو الرسالة وهو نفسه البرهان عليها من حيث كونه معجزا لا يمكن الإتيان بمثله، فهو برهان مباشر. كما أن القرآن يستخدم براهين جزئية على قضاياه الجزئية في كل مرة يطرح فيها قضية من هذا النوع، ويدعو المتلقي لفحص هذه البراهين على أسس عقلانية فحصا موضوعيا محايدا… لدرجة جعلت بعض المحللين يقولون بوجود تشابه بين الاستدلالات القرآنية والاستدلالات المنطقية، مثل الغزالي في كتابه "القسطاس المستقيم" الذي بيّن فيه أن أصول القياس العقلي وأشكاله مستخدمة في الاستدلال القرآني. وهناك كذلك من المحللين من يقول بوجود تشابه بين المادة القرآنية بخاصة وبين الفلسفة العقلية في انتهاج طريق البرهان. وعلى سبيل المثال يقول د.محمد عبد الله دراز: "إن أفضل ما يدل على التشابه بين المادة القرآنية بخاصة، وبين الفلسفة - أن نلحظ أن القرآن حين يعرض نظريته عن الحق، وعن الفضيلة لا يكتفي دائما بأن يذكّر بهما العقل، ويثير أمرهما باستمرار أمام التفكر والتأمل، وإنما يتولى هو بنفسه التدليل على ما يقدم، ويتولى تسويغه".
ويطرح القرآن قضايا تستند إلى حجية العقل المنطقي، مثل إثبات أن الله تعالى واحد، ولو كان له شريك لفسدت السماوات والأرض، وهنا يرتب القرآن قضية شرطية. كما دعا القرآن الكريم إلى استخدام البرهان: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ)، فالعقل حجة وسند يعجز منكر القرآن عن استخدامه بشكل محكم ضد قضايا القرآن. وقد أبطل القرآن ادعاء بعض الفلسفات والأديان التي تقول بأن الإيمان ميدان بعيد عن العقل، ولا بد لمن يريد الإيمان أن يعطل عقله أو يتبع ما عليه الآباء والأجداد.
ولقد أكد القرآن حجية العقل، وأشار إلى العقل والتدبر والتفكر بمترادفات مختلفة عشرات المرات، ومن مترادفات العقل: الحِجر، ويسمى العقل حِجْرًا لكونه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح وتضر عاقبته. وأيضا من أسماء العقل: النُهية، والجمع نهى.
وعند ابن منظور: النهى: العقل- يكون واحدا وجمعا، والنُّهية: العقل بالضم، سميت بذلك لأنها تنهى عن القبيح. وفلان ذو نهية أي ذو عقل ينتهي به عن القبائح ويدخل في المحاسن.
وقال بعض أهل اللغة: ذو النهية الذي ينتهي إلى رأيه وعقله. ومن مترادفات العقل في مختار الصحاح: القلب، وهو كذلك في الاستخدام القرآني. ومن أسماء العقل الفؤاد. وقد يعبر عن القلب بالفؤاد. ويسمى العقل لبا؛ لأنه الذي يعلم الحق فيتبعه، فلا يكون للرجل لب حتى يستجيب للحق ويتبعه.
وقد أشار السرخسي في "الأصول" إلى أن العقل عبارة عن "الاختيار الذي يبني عليه المرء ما يأتي به وما يذر مما لا ينتهي إلى إدراكه سائر الحواس، فإن الفعل أو الترك لا يعتبر إلا لحكمة وعاقبة حميدة، والعاقبة الحميدة لا تتحقق فيما يأتي به الإنسان من فعل أو ترك له إلا بعد التأمل فيه بعقله، فمتى ظهرت أفعاله على سنن أفعال العقلاء كان ذلك دليلا لنا على أنه عاقل مميز، وأن فعله وقوله ليس يخلو عن حكمة وعاقبة حميدة. وقد قيل إن العقل أصل لكل علم، وكان بعض أهل العلم يسميه أم العلم، وقد أكثر الناس الخلاف فيه قبل الشرع وبعده".
وقد سعى الفلاسفة العقلانيون من المؤمنين للتوفيق بين الدين والعقل، مثل ابن رشد الذي يقول في كتابه "فصل المقال": "وكان الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات، وحث على ذلك… فأما أن الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل، وتطلُّب معرفتها به، فذلك بَيّن في غير آية من كتاب الله تبارك وتعالى... وإذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات، واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئا أكثر من: استنباط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه.. وإذا كان الشرع قد حث على معرفة الله تعالى وسائر موجوداته بالبرهـان، كان مــن الأفضل، أو الأمر الضروري، لمن أراد أن يعلم الله تبارك وتعالى وسائر الموجودات بالبرهان، أو أن يتقدم أولاً فيعلم أنواع البراهين وشروطها…".
وقد تنبه أهل السنة لمدى مخالفة فهم الفلاسفة اليونان لفهم الإسلام للعقل، ولا سيما ابن تيمية، حيث بيّن فساد آرائهم وفساد منطقهم، وقام بتفنيد هذا المنطق. والملفت للنظر أن المناطقة الغربيين المحدثين ساروا على طريق ابن تيمية نفسه في رفض المنطق الأرسطي. وقد بيّن ابن تيمية أنهم يصيبون في الحساب والطبيعة وكثير من علم الفلك، لكن فلاسفة المسلمين كما وصفهم "خير وأدق، وقلوبهم أعرف، وألسنتهم أنطق، وذلك لما عندهم من نور الإسلام".
ومع هذا الموقف الناقد بشدة للعقلانية اليونانية، فإن ابن تيمية بيّن أن الفلسفة ليست كلها ضلالا؛ فالفلاسفة الذين استناروا بنور النبوات، واستقلوا بالنظر العقلي دون تقليد أعمى للفلسفة اليونانية، أصوب رأيا وأدق قيلا، مثل أبي البركات البغدادي في كتابه "المعتبر في الحكمة"؛ حيث إنه كما وصف ابن تيمية: "أثبت علم الرب بالجزئيات ورد على سلفه ردا جيدا، وكذلك أثبت صفات الرب وأفعاله".
نقد وتقويم
لعل أبرز نقد يمكن تقديمه هو أن العقلانية كتيار في نظرية المعرفة لم تنتبه إلى أهمية التجربة في تكوين المعرفة إلا مع الفيلسوف الألماني كانط. وقد بالغت في البحث عن اليقين خارج التجربة، وأغلب العقلانيين، لا سيما غير المعاصرين، نظروا إلى العقل باعتباره كيانا نهائيا ثابتا ومغلقا. ولا شك أن انغلاق العقل على ذاته يؤدي إلى الوقوع في الأوهام؛ إذ لا بد من مصادر أخرى للمعرفة مثل الواقع، والطبيعة، والوحي، والعلم التجريبي والرياضي، والبصيرة (وفيها كلام كثير في الفكرين الغربي والإسلامي).
والثغرة الأساسية في موقف كثير من العقلانيين هي الاعتقاد في ثبات العقل وواحديته أيضاً. وقد وقع أفلاطون وأرسطو وديكارت وسبينوزا وليبنتز وكانط في هذه الثغرة بإضفائهم الثبات المطلق على صورة العقل ومقولاته ومبادئه. وهذا التصور أثبتت نظرية المعرفة الحديثة قصوره؛ لأن العقل كأي ظاهرة تاريخية قابل للتغير والتطور، وفى كل مرحلة تاريخية جديدة يتجاوز ذاته حيث يعيد بناءها بشكل جديد.
أيضاً من التسرع إصدار حكم واحد على جميع العقلانيين في موقفهم من الدين كأنهم زمرة واحدة؛ فالعقلانية تيار واسع ومتشعب، والمنتمون إليها لم ينتهوا إلى نتائج واحدة بشأن الدين؛ لأن العقلانية تيار ليس بالضرورة ضد الدين، فهي تركيبة متنوعة تضم المؤمن وغير المؤمن؛ لأن العقل بطبيعته نسبي فيما ينتهي إليه من نتائج. وبعض العقلانيين لا يجوّز الإيمان بخوارق الطبيعة مثل هيوم وكنت، لكن بعضهم يقبلها ويسوغها عقلانيا مثل ليبنتز. وكذلك بعضهم يقبل الدين وعقائده لكنه يفهمها في ضوء العقل ويبرهن عليها بأدلة عقلانية. وعلى سبيل المثال اعتقد لوك أن المبادئ الإلهية والأخلاقية قابلة لإقامة البرهان العقلي عليها، أما هيوم فأنكر ذلك، أي رفض أنها قابلة للبرهنة.
وقد أثبت بعض العلماء المسلمين موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول مثل ابن تيمية، بينما انحرف بعضهم بالعقل في موقفه من النبوة مثل أبي بكر الرازي. ولا شك أن كثيرا من العقلانيين يتخذون من الدين موقفا نقديا جزئيا أو شاملا، لكن بعضهم يقبله كله كما جاء في نصوصه الأصلية. ومن ثم ينبغي الحكم عليهم فردا فردا وليس كلهم جملة واحدة. وإجمالا نقول: إن الإسلام يرفض العقلانية المتعصبة للعلمانيين والملحدين وغيرهم من الذين جعلوا العقل معصوما لا يخطئ، والذين أنكروا الوحي والمصادر المعرفية الأخرى. كما يرفض الإسلام موقف الذين يتسرعون برفض العقائد الدينية استنادا إلى عقل نسبي، أو الذين يتسرعون بتأويل العقيدة لتوافق آراء غير يقينية، أو الذين يعتبرون العقل هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة الحقيقة المطلقة. وفي الوقت نفسه يرفض موقف الذين لا يستخدمون عقولهم بل ويشبههم القرآن بالأنعام، أي أن العقل هو مناط الاستخلاف وميزة الإنسانية وسمة البشرية وبه يتحقق الاستخلاف.مراجع مقترحة للباحثين
المرجع السابق