عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2011, 12:06 PM
المشاركة 21
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع ،،،

في الذكرى الأربعين لميلاد الخوف

وفي يوم من عام 1975 تجمع الناس في حشد كبير. جرفني سيل الناس الهائج، المائج مثل البحر
هتفوا فهتفت
وصرخوا فصرخت
وعرقوا فتصببت عرقا، واعتقلوا
فاعتقلت، وضربوا بالعصي والكرابيج ومعهم ضربت وما استثنيت...

جروني وحيدا إلى السراي الشرقي واتهمت بالتآمر على أمن الدولة وسلامة المواطنين، ولم يغفر لي أنني أخبرتهم بكل ما أعرف وما لا أعرف، وخرجت من ضيافة الحكومة الرشيدة بملف سوابق فيه جملة واحدة فقط. وتوحدت يومها مع الخوف في وحدة كونية وتكويني عجيبة، فاعتقدت أن الخوف هو جوهر الأشياء، وبدأت أخاف من الناس والأشياء لأنهم أناس ولأنها أشياء ومن غير أن يصدر عنهم أو عنها أي نشاط.

ضرت أخاف من الشرطي لأنه شرطي.
ومن الجندي لأنه جندي
ومن سائق الباص لأنه سائق الباص.
ومن أستاذ المدرسة لأنه أستاذ المدرسة.
ومن الأنثى لأنها أنثى.
ومن الحاكم الإداري ومدير الناحية، لأنهما الحاكم الإداري ومدير الناحية
ومن الوطن العربي الواحد لأنه عدة أوطان غير عربية.
ومن الحشد لأنه مظاهرة
ومن الشخص الواحد لأنه متآمر
ومن المدينة لأنني من الريف.
ومن المخيم بسبب الصفيح والفقر والبطولة.
ومن البدو بسبب الخناجر
ومن الخيل العربية الأصيلة بسبب الفرسان.
وانعكس خوفي على العلم والعلماء
والأسباب والمسببات فصرت أخاف:
من الكيمياء بسبب المعادلات.
ومن الشعر بسبب القوافي والبحور.
ومن الفيزياء بسبب قوانين الحركة والسكون.
ومن الرياضيات بسبب مسائل الحنفيات والقطارات.
ومن التاريخ بسبب الهنود الحمر وأيام العرب.
ومن الجغرافيا بسبب الكرمل والمستوطنات
ومن المنطق بسبب القياس والاستقراء
ومن اللغة الانكليزية بسبب بلفور
والتقسيم ومستر براون.
ومن الصحف بسبب المانشيتات
والراديو بسبب نشرة الأخبار واحمد سعيد.
والتلفزيون بسبب المسلسلات والنشيد الوطني
ومن الحكومات بسبب المباحث
ومن المباحث بسبب المحققين
ومن المحققين بسبب الضرب والطرح والقسمة والجمع:
الضرب بسبب الألم
والطرح بسبب قسوة بلاط غرف التعذيب
ورطوبة الزنزانات
والقسمة بسبب تخصيص ثلاث محققين لمجاهد واحد.
ومن الجمع بسبب أنه ضرب بطيء.
ومن السفر بسبب الحدود
ومن الجامعة العربية بسبب كثرة الدول المشتركة فيها.
ومن هيئة الأمم المتحدة بسبب كثرة قراراتها.
وجاء عام 1967
وعام 1970
وعام 1973
وعام 1982 ...وأعوام أخرى
وسافرت سرا من نابلس إلى طرابلس، وسرا كالعلن من القطاع إلى البقاع، وخوفا من عمان إلى بيروت، ومن بيروت إلى تونس عن طريق البحر واليونان، والى الجزائر عن طريق ألاسكا، ومن الجزائر إلى عدن عن طريق رأس الرجاء الصالح، ومن عدن إلى الكويت عن طريق اليابان، ومن الكويت إلى الرياض عن طريق هونغ كونغ/ ومن الرياض إلى دمشق عن طريق نيويورك، ومن دمشق إلى دبي فبغداد عن طريق فرانكفورت، وكنت احمل خوفي وقصائدي ووطني وأطفالي...
ووقفت أخيرا أقرأ أسماء طلاب وطالبات الصف الذي أحاضر أمامه عن تجربة الليل الفلسطيني وأبعاد الخوف...في الجامعة.

نقر عصفور ملون زجاج الشباك، نقرة بإصرار مدهش وبدون خوف، عيناه كانتا حادتين كعيني نسر، اندفع قبل أن فتحت له. ورف بجناحيه الشجاعين، وحط على الطاولة بطمأنينة، قرأت اسم الطالب الغائب، فضرب العصفور بجناحيه عدة مرات، وقفز إلى كتفي ، ومد منقاره إلى داخلي بحرص وثبات ونقر بالون الخوف المنتفخ في ذاتي، فانفجر محدثا دويا صامتا جدا، ثم غنى غناء شجيا وكأنه ينفخ في ناي مقدس. ابتسم الشباب ، وابتسمت الصبايا، وابتسمت وقال العصفور:

إن الشاب الغائب ، أكثر حضورا من الحضور


تلمست الخوف كان قد تبخر، تبخر تماما، ضحكت وقد تحسنت صحتي، وبدأت المحاضرة الأولى، وكتبت على اللوح " العصفور الملون الذي هزم جيشا من الحديد والخوف"



نابلس 5 حزيران 1984