عرض مشاركة واحدة
قديم 01-29-2011, 04:13 PM
المشاركة 26
رشيد الميموني
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
--------------------------------------------------------------------------------

(7)


مع أفول آخر شعاع من شمس ذاك المساء البهي كانت الأوراق تصدر حفيفا متواصلا يقوى مع مرور الوقت .. وكان شرودي يمنعني من الانتباه إلى ما يحدث حولي .. بينما واصلت العصفورة النط من غصن إلى غصن و كأن شيئا ما يقلقها .. هل هو غياب رفيقها الذي طال أكثر من اللزوم ؟ أم أنها استشعرت شيئا أفزعها ؟ .. ابتسمت لها و أنا أهمس : لاعليك يا صغيرتي .. أنا أيضا أفتقد عصفورتي التي تاهت عني بمحض إرادتها .. عسى أن يأتي بهما القدر كليهما .. لا تخافي والزمي عشك واستريحي ، فالظلام وشيك و الليل قد اقبل بالاعتكار ..
حفيف الأوراق كان يقوى و تمايل الأغصان يتزايد حتى أحسست بالأرض تميد من تحتي .. نظرت إلى الأفق عبر الفجوة الصغيرة بين الأوراق فهالني اسوداد الأفق .. هو عارض ممطر ولا شك .. هل تكون عاصفة ؟ .. ربما تكون العصفورة قد أحست بدنوها .. هاهي أولى قطرات الغيث تنزل على أنفي و يدي .. علي بالنزول و الاختباء في مكان ما حتى لا تداهمني العاصفة ..
نهضت و أنا أنفض ما علق بثيابي من عيدان صغيرة ، وأخذت في النزول بطريقة خلفية .. نظرت إلى أعلى لأجد العصفورة تطل علي بفضولها المعتاد وقد نفشت الريح ريشها .. هل أتركها لمصيرها ؟ .. مستحيل .. المطر زادت حدته ووقعه على الأوراق صار واضحا .. فعدت إلى الصعود من جديد ومددت يدي نحو العصفورة الحائرة .. لاحت مني التفاتة نحو عشها لأجده يكاد يتطاير من شدة الريح ، فلملمته .. لم تهرب العصفورة و استكانت إلى راحتي بكل طمأنينة . أحسست بارتعاش جسمها الصغير المبتل و أسرعت إلى أقرب كهف بالجوار .. وكأن الليل قد هبط فجأة .. فساد الظلام و صارت الرؤية صعبة للغاية و أنا أتلمس طريقي إلى الكهف .. ولولا البرق الخاطف بين الفينة و الأخرى لتهت عبر الربى الغارقة في الظلام و الأمطار .
وصلت أخيرا إلى الكهف و أسرعت بوضع العش و العصفورة في مكان آمن وعدت إلى مدخل الغار أتملى بالطبيعة و هي في أوج ثورتها .. كان البرق يريد أن يريني هذه الثورة فتبدو لي زخات المطر كأنه سيل عارم .. ثم يتلوه هزيم الرعد ليتردد دويه عبر الجبال المحيطة بي .. الكل ثائر .. الريح .. البرق .. الرعد .. النهر وهو يرغي ويزبد جارفا معه كل ما اعترض سبيله من أحجار و فروع الأشجار اليابسة .. نفسي أيضا كانت تتجاوب مع هذه الثورة الجنونية .. وبين الفينة و الأخرى كنت ألتفت نحو العصفورة لأجدها قد استكانت إلى عشها و أتوجه نحوها لألمس ريشها فأطمئن إلا جفافه و أحس بلهفتها الخفية و قلقها المبطن على مصير رفيقها الغائب ، وأعود إلى مخرج الكهف .. لكن تأجج نفسي و ثورتها كانت تشعل جسمي نارا تلظى .. فصرت أتقدم خارج الكهف بخطى و ئيدة غير عابئ بالمطر الغزير وهو يبللني من قمة رأسي حتى أخمص قدمي فيطفئ شيئا من اللهيب المستعر في كياني.. و استمر في السير حتى أقف على صخرة مطلة على الوادي وهديره يصم الآذان ..
" أين أنت الآن يا عصفورتي ؟ .. الم يئن الأوان لتعودي إلى رشدك و تضعي حدا لهذا الفراق المضني ؟.. ألم يكفك ما نخره الحزن في جسمي حتى لم يبق منه إلا الخيال ؟ .. هل جربت حبك لي ؟ .. تعالي وانظري إلى ما يحدث الآن .. كل شيء ينطق بحبي الذي تريدين أن تجربيه .. انظري إلى ما حوالي من هيجان .. هو الحب .. في أوج قوته و عنفوانه .. زخات المطر حب .. وهبوب الريح العاتية حب .. ولمعان البرق حب .. وهزيم الرعد حب .. حتى هدير ذاك النهر و هو ينهمر كالسيل العظيم حب .. كل شيء ينطق .. يصرخ .. يهذي بهذا الحب الذي لم تستشفيه من قبل فاخترت الرحيل ..
كل ما يهدر حوالي ما هو إلا رجع لصدى ما يعتلج في نفسي من هيجان .
تعالي وكفاك تدللا .. وضعي حدا لهذا الرحيل الذي لا معنى له .. فلربما طال الزمان و صدقت مقولة "البعيد عن العين بعيد عن القلب " .. تعالي إلى عشي الذي بنيته بكل نبضة من قلبي و رويته بكل الدموع و الآهات .."
عدت أدراجي و جسمي يقطر ماء .. كنت أحس بثيابي ملتصقة بجلدي فيكسبني هذا متعة و انتعاشا ، حتى وصلت إلى باب الكهف و ألقيت نظرة على العصفورة الغافية .. ترى بماذا تحلم و أين ذهب بها خيالها الصغير ؟ .. هل هي مثلي تترقب اليوم الذي يهل عليها رفيقها وتناجيه كما ناجيت أنا عصفورتي ؟
على باب الغار استلقيت مستندا ظهري على مدخله . كانت العاصفة قد خفت حدتها وهدأت الريح قليلا .. لبثت أتأمل الأفق والنعاس يغشيني ويتسلل شيئا فشيئا إلى جفوني المثقلة سهادا ..
بزغ الفجر و أنا لا زلت على وضعيتي .. أفقت لأجد كل شيء هدأ .. وبدا لي كأن الطبيعة لا تزال تلهث بعد هيجان وثورة لم أعهدها فيها منذ مدة ليست بالقصيرة .. لكن جفوني ظلت مثقلة بالنوم الذي لم أذقه إلا في السحر .. فعدت إلى إغفاءتي .
لم أشعر إلا و أشعة الشمس تلفح وجهي في الصباح .. فتحت عيني منبهرا بضيائها ووضعت يدي عليهما لأحجب ذاك الضياء .. وهنا انتفض جسدي بعنف وخفق قلبي حتى أحسست أنه يكاد ينخلع من صدري ..
على باب الكهف ..كانت جدائل شعر أعرفها حق المعرفة تتطاير من فوقي بينما تمثلت لي عينان نجلاوان تحدقان في وجهي .. وقد علت المحيا ابتسامة مشرقة ..