عرض مشاركة واحدة
قديم 01-13-2011, 11:40 PM
المشاركة 3
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
منطلقات الإبداعية وملامحها العامة




الحساسية الجديدة واكتشاف الذات: كتب الناقد سينانكور Senancour عام 1804 «إن الأديب الإبداعي قمين، وحده، بأن ينفض الحساسية الجديدة في الأدب» معبراً بهذه الكلمة عما يمكن أن تفصح عنه طبيعة الإبداعية ومنطلقاتها وتوقها إلى إعطاء الخيال حقه من السمو، قبل أن تضحي مدرسة جمالية في الأدب. ذلك أن الإبداعية تستمد قوتها وتسترفد إمكاناتها غير المحدودة من اكتشافها لمفهوم الذات النفسانية Subjectivité ويفسر هذا التصعيد للذات، في التجربة الإبداعية، ازدهار أدب السيرة الذاتية (أدب المذكرات واليوميات والاعترافات، والرسائل الحميمية الزاخرة بالمشاعر) ويمكن أن يفسر بروز هذه الأنا الذاتية بالأوضاع التي جعلت من مرحلة ما بعد الثورة مرحلة أزمات وجدانية، حملت معها حساسيات مستجدة وتغيرات عميقة في علاقات الناس جميعاً. هكذا تمتاز إذن الحساسية العاطفية بأهميتها، ضمن السيكولوجية الإبداعية، فالحب، مثلاً ليس عملية عقلية منطقية، ولانزوة شهوانية عارضة، بل هو إلهام رباني مقدس ـ كما كان يحلو لموسيه أن يردد ـ آخذاً بمدرسة الإبداعيين الألمان، الذين يرون أن الحب هو دين السعادة الأرضية، وعلى الرغم من أن الحب يجتلب بذور الألم الذي يبتلى به العشاق المعاميد، فإن لأحزان الحب ومواجده جانبها الإيجابي المؤثر، الفاعل. هكذا وجد موسيه وأضرابه من الشعراء الإبداعيين، أن الألم العظيم يخلق الرجل العظيم، فنضح بدموعه السخينة الرطيبة شعره الشجي.



المرأة والطبيعة، مجلىً للإبداعية: لاريب أن المرأة هي مصدرٌ رئيسٌ أساسيٌ لإلهام الشاعر، تثير فيه أعمق ما يمور في جوانحه من مشاعر، بيد أن السعادة التي ترفض المرأةُ أن تهبها له، أحياناً تحملُه على أن ينشدها في الطبيعة نفسها، ولربما بدت المرأة والطبيعة متماثلتين، في إثارة مواجع الحزن والأسى لديه على نحو ما عبر عنه جيداً هوغو في قصيدته «حزن أولامبيو» Tristesse d'Olympio التي يفصح فيها البطل عن خيبته المريرة من المرأة والطبيعة معاً، فلاعجب إذن أن تخلق الإبداعية نموذجاً جديداً للبطل، مخالفاً لنموذج البطل في الاتباعية، إذ يتراءى في الإبداعية فيما هو يجتر آلامه، منفرداً وحيداً، كما يتراءى وجوده سلسلة من التمرد والنضال، لأن نهاية هذا الوجود واشيةٌ بالإخفاق، الذي تفرضه لعنة قاسية شرسة، وتظل الطبيعة بعد هذا كله، الملاذ الأخير الذي يفزع إليه الشاعر الحزين، ويجد فيه سلواناً عما ألفاه في الحياة من إحباط، وما لقيه من المرأة من صد وهجران، ها هي ذي الطبيعة إذن تناديه وتخلص له، على النحو الذي عبر عنه لامارتين بقوله: «ها هي ذي الطبيعة ماثلة أمامك، إنها تحبك وتدعوك» وحين تأخذ الأرض زخرفها مُمْرعة زاهيةً، فإنها تعلِّم الشاعر أيضاً وتلهمه: «إن نبضة واحدة من غابة ربيعية - كما يقول وردزورث - كفيلة بأن تعلمنا عن الإنسان، وعن الخير والشر، أضعاف ما يعلمنا إياه الحكماء كافة».



نشدان الاغتراب: إن في ميسور المرء أن يتساءل عما إذا كان النموذج الصادق الأمثل للبطل الإبداعي هو الأديب نفسه، عاكساً طيفه المهوم في صقال مرآة كلماته، إنه طيف الصدى أو المجوسي الذي يمثل في بعض قصائد هوغو، أو طيف رسول الآلهة الذي وصفه هولدرلين، إنه الطيف المزود برسالة سلمية إنسانية اجتماعية، والداعي إلى نشدان آفاق موحية خلابة، هذا هو ما يمكن أن يدعى بنشدان الاغتراب في المكان والزمان والحنين إليهما، فاغتراب المكان يتجلى في وصف الأراضي البكْر القصية (أمريكة أو الشرق البعيد)، أما اغتراب الزمان فيتجلى في الانكفاء، إلى آداب القرون الوسطى خاصة، ينسرح إليها الخيال، ويستمد من أحداثها وأساطيرها صوره وتهاويله الآسرة الساحرة.


وكان من الطبيعي أن يرفض الإبداعيون، فيما هم يفزعون إلى هذا المنهل الزاخر من الإلهام، جميع الأُطُر الجامدة الاتباعية، المنافية لروح العصر، ساخرين من الأسلوب المصقول المستحصد، والقوالب الجاهزة المعدَّة، والكلمات والألفاظ المتأنقة الجوفاء، مؤثرين على ذلك كلِّه أسلوباً طيِّعاً سهلاً، يترقرق عذوبة وسلاسةً وتعابيرَ شعبيةً تعانق نبضات القلب.




يتبع
.
.
.

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)