الموضوع
:
"العطر" روايةً لباتريك زوسكيند..
عرض مشاركة واحدة
احصائيات
الردود
5
المشاهدات
6379
طارق الأندلسي
من آل منابر ثقافية
المشاركات
114
+
التقييم
0.02
تاريخ التسجيل
Dec 2010
الاقامة
رقم العضوية
9538
01-13-2011, 01:53 PM
المشاركة
1
01-13-2011, 01:53 PM
المشاركة
1
Tweet
"العطر" روايةً لباتريك زوسكيند..
كيف يكون حبٌّ إذا كان الحبّ سبباً للموت
مثلما تُقرأ اللغة العربية من الخارج إلى الداخل، هكذا تُقرأ رواية "العطر" للكاتب الألماني باتريك زوسكيند، التي تستحق التفاتة جديدة اليوم في مناسبة صدور الفيلم المستقى منها. رواية مشحونة بهواجس وجودية تستدعي، بأسلوب مغنطيسي، العالم الخارجي المليء بالحرمان والإجهاد البشري. تستدعيه، لكن مشبعاً بالصور الرهيبة والروائح البشعة، ليكون شاهداً ملكاً على ولادة روح الصراع الصارخ "ضد الحب ومع غريزة الحياة". روح قُذفت في صدر الوليد "شبه الميت"، كما وصف الكاتب شخصية بطله جان باتيست غرونوي.
ولد غرونوي غير مرغوب فيه وسط سوق للسمك موبوء بالروائح الكريهة. حكم بالموت على والدته العاملة في هذا السوق لأنها تركته ملقىً بين النفايات، كما فعلت من قبل بمواليدها الأربعة. نما طفلاً صامتاً، متميزاً بشرهٍ مخيف كشره مخلوق "ملبوس من الشيطان". بعد موت والدته، رفضت الاحتفاظ به جميع الحاضنات اللواتي توالين على إرضاعه لأنه لم يكن له رائحة "كسائر أطفال البشر".
في الرواية مقطع مؤثر وحقيقي جداً تصف فيه أولى مرضعاته رائحة كل طفل عادي. رائحة لم تكن لغرونوي، ولا للحظة، في طفولته الأولى، ما جعله طفلاً منفّرا. لا شك أن في ذلك تمهيداً وإرساء لأفكار عدة تدور جميعها حول أزمة الهوية التي تحولت عند جان باتيست مع مرور السنين إلى كره واحتقار للبشر و"روائحهم" الكريهة من دون استثناء. أما ولادته وتمنّعه عن "إظهار أي ردة فعل أو تعبير"، فيشكلان رفضاً قاطعاً لمبدأ الحب معتبراً إياه عدواً للحياة والخطر الوحيد المحدق بها. وستكون هذه الثنائية الملوكية بين الحياة والحب، العصب الخفي الذي سيربط، رغماً عنه، بين جميع محطات حياته. وستظهر رغبته اللاواعية والمستميتة للفصل بينهما، ما سيأخذه يداً بيد نحو هلاكه. من هنا يبدو عدم وجود ايّ رائحة لغرنوي واقعاً لا يعيشه إلا هو، ويفرضه على جميع من حوله، ليزداد بذلك توحشاً وانغلاقاً على ذاته. هكذا يكمن في صلب هذا الانغلاق على الذات، الخلط الفتّاك بين معنى الحياة الشامل ومجرد البقاء على "قيدها".
ما أن تتقدم الصفحات بقارىء الرواية حتى يكتشف كيف يتحسس غرونوي طريقه في الوجود على هوى الروائح الناشئة وأهوائها. كوحش بشري تعس، تسيّره غرائزه وحاسة الشم النافذة لديه، يسير غرونوي بين أشواك الأكفّ المبسوطة للروائح المحيطة به، غير آبهٍ لتلك الروائح، طيبة أم كريهة. فالمهم بالنسبة إليه أنها أبجدية العالم الحصرية التي يعرفها منذ لحظة ولادته.
يصل غرونوي، بعد محطات شاقة في حياته، إلى محترفات صانعي العطور كمتمرس ورع بدأ للتو اكتشاف معنى وجوده. هناك يغوص شيئاً فشيئاً في تقنيات فصل جواهر العطور عن الزهور والنباتات النادرة، ويلقّن معلميه أسرارها وسحرها بفطرية لافتة. لكن غرونوي لن يبلغ أوج انغلاقه على ذاته، ومن ثم انفتاحه المطلق عليها، إلا بعد أن يصاب بالحب، ولكن في أسلوب خاص جداً، وعلى النحو الذي تكلم عنه الكاتب باسكال كيغنارد حين قال "الحب يعني أولا أن تحب بجنون رائحة الآخر". وجنوناً كان. جنون مرضي لم يود به إلى دهاليز الأزمة الوجودية سوى عندما دخل على وجوده عطر "إنساني رائع" أشتمّه من بعد لشابة مجهولة، هوالذي لم يكن لوجوده قبل إحساسه بهذه الرائحة، وباعترافه، سوى "وجود حيواني لا قيمة له".
لذلك يقرر غرونوي في لحظة حاسمة، الحصول على رائحة هذه الفتاة من دون تأخير، وإن بطريقة مروعة، أي عبر قتلها. تستدعي هذه الصورة الفجائية، صورة شبيهة جداً لها من رواية "باستيل" للكاتب أوليفييه بيوس حيث، في ليلة مقمرة وفي كنيسة مهجورة، يعثر سيمون (الشاب الذي احترف أباً عن جد صبغ الأقمشة حصريا باللون الأحمر)، على فتنة اللون الأزرق عند رؤيته تمثالاً خشبياً للسيدة مريم. يكرس حياته، بعد رؤية ردائها المصبوغ بالأزرق، لابتكار لون أزرق بروعة لون ردائها. لا يختلف جان باتيست غرونوي كثيراً عن بطل رواية "باستيل"، اذ هو أيضا ينذر حياته للحصول على العطر المطلق الذي "يولّد الحب في نفس كل من تنشقه". وكما اتهم سيمون بأنه يملك قوى سحرية لا يستهان بها، اتهم غرونوي بالشعوذة. ومثلما خطّ عطر الشابة حد الانقشاع بين الرائحة الطيبة والبشعة في نفس غرونوي المساوي بين كل الروائح، كانت زرقة الرداء بالنسبة إلى سيمون هي معنى حياته. معنى البحث والتضرع إلى سيدته الزرقاء كي تهبه سر اللون في ردائها.
غير أن رواية "العطر" مرعبة وليست كرواية "باستيل". إذ أن غرونوي، بعد اعتماد تقنية توصل إليها في نهاية بحث طويل، يقتل أربعاً وعشرين فتاة بهدف فصل رائحتهن عن أجسادهن، ليصنع من هذا "الانفصال" عطره الشخصي الذي سيجعل منه، بحسب رأيه، إنساناً حراً ومحبوباً، رغم أنه يرى الموت المحتوم في أدنى تواصل عاطفي. لفعل غرونوي هذا صدى يكاد أن يكون صوتاً لشارل بودلير القائل: "طالما الرغبة في المطلق موجودة في الإنسان، ستبقى تحثّه على حلّ ما يربط الروح بالجسد". غير أن غرونوي، الذي لم يكن في حاجة إلى مواد مخدرة لينتشي (إذا استثنينا عطر المرأة)، عاش نشوة التلاعب بالحدود الفاصلة ما بين الروح والجسد حتى الهذيان، حتى الحرية المطلقة، وحتى الجريمة.
قد يعتبر البعض أن الرغبة في العثور على المثالية المطلقة، أوصلت غرونوي إلى الجريمة وهذا ما لم يقصده بودلير، لكن هل يبقى الموضوع كذلك إذا سمعنا كلمات بودلير المدوية هذه: "أريد أن أثبت أن الباحثين عن الجنة يصنعون جحيمهم بأيديهم. يحفرونها ببراعة قد تخيفهم"؟
لعل القسم الذي يصف قصر جان باتيست غرونوي الداخلي هو الأكثر أهمية. إذ نقرأ فيه غرونوي ونرى قصره المتخايل الذي عاش فيه لمدة سبع سنوات بعيداً عن الحضرية، مثلما يفعل متصوف باحث عن المعرفة. هناك رأى نفسه سيد قصر أرجواني يشرب فيه من قوارير "العطر الكامل" بعيداً من روائح البشر. قسم بالغ الأهمية لأنه يكشف لنا غرونوي كشفاً كلياً ويعرّيه أيضاً أمام ذاته، إذ يدرك حقيقة أن لا رائحة له (أي أنه من دون هوية). وهو أيضاً قسم يكتنز رموزاً وصوراً غزيرة. كلما تتالت الصفحات، أدرك القارىء إن قصر غرونوي هذا ما هو إلا قلبه. غرونوي يسكن ذاته.
حينما تكون الحال على هذين التعقيد والأفصاح في آن واحد، تولد شاعرية عنيفة رغماً عن أنفها لتستمد توهجها من التناقضات. وعندما نقول تناقضات، نقصد المشاعر المتناقضة، من شفقة أو نفور، كره أو استلطاف، التي يشعر بها القارىء حيال غرونوي. ثمة تناقض آخر ناشىء من مشهد القصر وتوابعه في عيني غرونوي. فبطل الرواية يرى قصره رائعاً يطيب العيش فيه لكنه في الحقيقة قصر تسنده قشة. قصر بل ملاذ، شامخ يطرده خارج ذاته نحو جرائم باردة ومبررة عند نهاية السبع سنوات. قصر يشهد تارة على رغبته في ان يكون إلهاً وسيداً على الخلق، وتارةً أخرى يشهد على كرهه العظيم لخالقه. قصر كهذا، يستحيل أن يكون بالروعة الموصوفة لأنه يستجلب أجواء قصر "بارب بلو"، القصة الخرافية التي تحكي عن غرفة سرية تسيل فيها دماء النساء اللواتي قتلهن صاحب اللحية الزرقاء. ويستحضر قصر غرونوي أيضاً عوالم إدغار آلِن بو الرمزية بمياهها الداكنة والدامية.
عندما يكون القلب، ومن دون أي لجوء إلى المجاز، المسكن المنطلق، تتدفق الرموز تدفقاً تلقائياً منه ولا يعود العالم موجوداً إلا من خلال نظرة صاحب هذا القلب. هكذا هي الحال مع جان باتيست غرونوي. هكذا هي الحال معه حتى النهاية. ولعل شارل بودلير في كتابه "الفراديس الاصطناعية" هو الأفصح تعبيراً عن هذه الحال في قوله: "أتنقل وفق إرادتي في محيط طيع. ربما هذه هي حال طواف الأرواح في عطر الحياة ما بعد الموت". سلام اذاً، وحرية مطلقة، لا تحركهما إلا إرادة مطلقة. وفي حين يلتقي في رواية "باستيل" اللون الأحمر باللون الأزرق، وإن بشكل حريق هائل تنبثق منه روعة الزرقة المحلومة ومعها الأمل بالخلاص، ليس في نهاية مطاف غرونوي أي هدنة أو سلام بين الحب والحياة. إذ كيف يمكن وجود هدنة أو سلام عندما يكون الحب عند غرونوي سبباً مباشراً للموت؟ تماماً كما هي الحال مع إدغار آلِن بو في روايته "وادي الماء" حيث لا مصير آخر للوادي المرح والنضر إلا تحوله مسرحاً للموت.
ميموزا العراوي
نقلاً عن جريدة "النهار"
فوق عرش الرب
تشتعل المحبة
كالأنجم الزهر
وتحت قناطر السماء
يتمايل شعاع من نور
رد مع الإقتباس