الثالث أما المشهد الثالث فيمكن اختصاره فى اسم واحد " محمد حسنين هيكل " .. والذى خرج من صومعته التى شهدت درر كتاباته فى الفترة من بداية الثمانينات وحتى بداية القرن الجديد .. خرج بوجه آخر زادت خبرته وحنكته عشرات المرات عما كانت عليه فى آخر مشهد أطل فيه على الناس من خلال معركة السبعينات خرج مراجعا للعشرات من سابق مواقفه وأفكاره ومحللا العديد والعديد من ظواهر العصر الحالي ملتفتا فى كل لحظة إلى واقع العصر حتى وهو يتحدث عن الماضي وزادت إسقاطاته من الماضي على الحاضر بشكل مكثف .. ويعد هو المفكر الأول من جيل العمالقة الذى خرج من صراعه القديم لشباب اليوم محدثا ومعلما مرتفعا عن صراع الأيديولجية القديم . محاولا ـ فيما أظن ـ تصحيح المسار لذنبه القديم فى حق الثقافة والمثقفين وهو ذنب غير متعمد على أية حال وتعد أحاديثه على قناة الجزيرة والتى تنوعت بين معالجة الماضي والحاضر والتعرض للمستقبل .. تعد نافذة لا غنى عنها لتصحيح توجهات أجيال الثائرين من المثقفين وعمل هيكل الآن معهم أشبه بعمل ضابط المدفعية الذى يصحح ضربات الواقفين خلف المدافع من خلال موقعه القريب من الهدف وتكمن عبقرية هيكل فى انتقائه لتوقيت خروجه وإدراكه وتوقعه لما يمكن أن يواجهه به النظام أو خصومه القدامى لمنعه من أداء رسالته الجديدة ولهذا فقد سحب البساط من تحت أقدامهم ببراعته المعهودة فابتدر الحديث باعترافه المسبق بوجود الهوى الناصري فى دمه وأقر فى ذات الوقت أن هذا الهوى لن يكون له تأثير فى تحليلاته أو سيكون له تأثير ضعيف .. إضافة إلى أنه سحب البساط مرة أخرى بإعلانه فى أشد حلقاته تميزا أنه لا يعنيه الدفاع عن جمال عبد الناصر فمن شاء أن يشرحه على مائدة النقد فليتفضل إنما فى موضوع مستقل لكنه الآن بصدد معالجات تخص واقعا مؤسفا ووقائع أكثر مدعاة للأسف فمن شاء أن يتحدث فيها وفى موضوعها فهو معه ومن شاء العودة إلى الماضي فلديه كتبه القديمة ليصارع فيها كيفما شاء وهو بهذه المبادرة سحب مقدما من خصومه ومن النظام أى مدخل إلى النقد خارج الموضوع عن طريق اتهامه بميله القديم لعبد الناصر وكبت الحريات فى عصره والذى لا يقارن بكبت الحريات الذى ينتقده هيكل فى العصر الحالي ولم يقتصر دور هيكل الجديد على حلقاته بشاشة الجزيرة بل تمكن من إثبات رغبته العارمة فى التغيير عندما صنع تواصلا طال انتظاره بينه كعميد للصحافة العربية وبين شباب المهنة الذين لم يروه ولم ويحتكوا به لأسباب مختلفة .. وكانت تجربته الأولى بهذا الشأن فى نقابة الصحفيين ثم ترسخت ممارسته الجديدة بإنشاء مؤسسة هيكل للصحافة العربية والتى تتولى تدريب الوجوه الشابة فى الصحافة المصرية بترشيح من مختلف المؤسسات الصحفية ويخضع الشباب لأصول المهنة والتزاماتها ودافع وجودها وحقيقة دورها عبر الإحتكاك المباشر بهيكل وبغيره من عمالقة الصحافة والسياسة فى العالم أجمع والذين تكفل هيكل بدعوتهم عن طريق علاقاته واتصالاته الشاسعة ومنذ فترة بسيطة احتفل هيكل بتخريج الدفعة الأولى من مؤسسته والتى مثلت تجربتها إعادة تأهيل وتأصيل معنى ودور الثقافة والصحافة فى قيادة الرأى العام وكانت كلمات هيكل التى ينثرها فى خلال فترات حضوره تمثل قيادة حقيقية لتغيير المفاهيم المغلوطة التى تربي عليها شباب المهنة .. ومنها كلمته التى قالها فى وجود الصحفي البريطانى العملاق أندرو نايت ردا على سؤال لأحد الشباب عن مفهوم السبق الصحفي فرد هيكل سريعا " أنا أعلم أن رؤساءكم الذين تعملون معهم يطالبون بالسبق الصحفي باعتباره هو مقياس القدرة الصحفية ولكن دعونى أصحح لكم مفهوم القياس لقدرات الصحفي فالصحفي الحقيقي هو الذى يملك مصادرا لا من يحقق سبقا " ومثال ذلك من العبارات التى تؤسس معارفا وترسي دعائما قادرة على خلق عبقريات إذا أتقن الشباب استيعابها وخلف هيكل برزت عدد من الوجوه القديمة لأبطال معركة السبعينات تنتهج نفس نهجه وترتفع فوق الخلافات القديمة وتؤدى دورها فى تأسيس طريق الجيل الثالث ولو بالمشاركة المادية معهم كما حدث من المفكر الكبير الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري عملاق الدراسة الصهيونية العتيد .. والذى لم يمنعه كبر سنه إلى درجة الكهولة من النزول فى المظاهرات الأخيرة بمصر جنبا إلى جنب مع كتل الشباب قبل وفاته رحمه الله هذا المزيج الرائع بين جيل العمالقة وبين الجيل الحالي يمثل الفرصة الأخيرة أمام تلك البلد لاستعادة بعضا مما ضاع قبل الانهيار الكامل ومما يحسب للجيل الحالي تمكنه من الظهور والإنتفاض إلى الدرجة التى لفتت إليه نظر الكبار من الأجيال السابقة فساندوه وأيدوه .. وتمكنوا من تصحيح مسار الوعى الفكرى عن طريق تصحيح هدف دراسة التاريخ المعاصر ودراسة أحواله وأخطائه بغرض البحث عن تجارب للإستفادة منها لا بغرض الدفاع عن قناعات شخصية واعتقادات مذهبية عفا عليها الزمن وهو الهدف الذى دعا إليه الكثيرون من العمالقة فى كتابات مختلفة منها كتاب " معركة بين الدولة والمثقفين " للروائي الشهير فتحى غانم والذى تعرض فيه للعهدين السابقين بنظرة تأمل داعيا لتركيز الإستفادة من أخطاء الماضي بدراسة موضوعية لا بأغراض تصفية الحسابات !