عرض مشاركة واحدة
قديم 12-29-2010, 09:17 PM
المشاركة 6
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تعلم كيف تنظر فى المرآة


الوقوف أمام مرآة النفس أصعب تجربة من الممكن أن يمر بها الإنسان عامة والمثقف بشكل خاص ..
لأنها تجربة تقييم الذات بالذات ومواجهة النفس بالنفس خارج حدود المكابرة المألوفة إذا جرى الوقوف أمام الغير .. لأن الوقوف أمام الغير وقوف من الممكن الهروب منه باختلاق صور ومبررات تكفل للمرء هروبا نفسيا من مواجهة قد تكشفه أمام الناس .. لكن هذا المعيار غير قابل للتواجد فى مواجهة النفس بالنفس لأن الوقوف أمام المرآة يكون وقوفا أمام صورة حقيقية بدون رتوش ..
وإذا كان لزاما على المثقفين الإنتباه والتبصر بضرورة الوقوف للحظات أمام المرآة .. فالأكثر لزوما هو ضرورة أن يكون هذا الوقوف فى الجانب الصحيح لأن معظم من يتحدث سواء باليأس أو بالدفاع عن حال الثقافة فى هذا العصر ..
تراه غالبا وقف أمام مرآة غير مناسبة فإما أنه يقف أمام مرآة محدبة تُصغّر له صورته وحجمه ودوره , فيكون الناتج الطبيعى هو اليأس والإنغلاق .. وإما تراه واقفا أمام مرآة مقعرة تُضخم له صورته بأكثر من واقعيتها وتعظم له دوره بغير أساس من المنطق .. فتتولاه عقدة العظمة التى تدفعه للإيمان الزائد بقدراته فان لم يجد المدح والثناء المطلوب ممن حوله يكون تبريره أمام نفسه أنه أكبر من الناقدين له بالسلب وأنه الوحيد والفريد وما إلى ذلك ..
وما بين الصورتين ترى المجتمع الثقافي الحالي حافلا بكثير من المتناقضات همّشت دوره بل وجعلت من مجتمع المثقفين مظهرا للإمتهان والسخرية فى مختلف الأوساط
وهذه نتيجة طبيعية للخلفية التاريخية التى درسناها عن حرب السبعينيات .. فمعظم الأجيال الجديدة من المثقفين فى الثمانينات والتسعينات وحاليا بأوائل القرن الحادى والعشرين يمكن اعتبارهم مخلفات تلك الحرب !

والمخلفات الحربية عبارة عن أسلحة جزء منها صالح للإستخدام بحالته أو بعد إصلاح بسيط وهم أولئك المثقفون الذين حافظوا على هويتهم وسط ظروف عاتية من التجاهل والتهميش وهو كـمُعوّق أشد أثرا بكثير من مواجهة الحرب على الثقافة مع السلطة أو مع غيرها وهذا طبيعى لأن التجاهل يقتل ويدمر بينما الصراع يزيد المثقف تمسكا بهويته ودوره
وجزء منها يلزم له تدخل بقطع غيار حتى يمكن أن يكون ذى فائدة وهم أولئك المثقفون الذين انهارت إرادتهم نوعا ما فى مواجهة روح العصر الجديد فيلزم لهم دفع خارجى غير متوافر فى الأعم الأغلب نتيجة لخلو الساحة من المفكرين الجادين من جيل الأساتذة الذين ابتعدوا عقب معركة السبعينيات لأسباب متباينة
والجزء الأعم من تلك المخلفات عبارة عن ركام يضر أكثر مما يفيد !! وحالهم كحال الألغام المنتشرة على أرض المعركة وتم إهمالها لأسباب مختلفة فإذا تم الاقتراب منها لأى سبب كان الإنفجار !
والصورة بتلك القتامة استمرت خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين حتى جاء القرن الحادى والعشرين بشكل جديد يدفع بعضا من حرارة الأمل داخل عروق الثقافة التى كسدت فيها الدماء وتجمدت ..

والشاهد أن القرن الجديد أتى بحراك سياسي مفاجئ وقف خلفه مجموعة من المثقفين متابينة الأجيال لكنها اتفقت على الهدف بغير ترتيب مسبق .. وكانت مظاهر تلك الصحوة متمثلة فى عدة مشاهد ..

الأول ..
ظهور عدد من الجرائد المستقلة أعادت عهدا مجيدا فى الصحافة المصرية واكتسبت شعبية حقيقية بين جموع الشباب الذين أقبلوا عليها مشاركين هاتفين وغاضبين فى أغلب الأحيان .. وحفلت تلك الجرائد والمطبوعات بحقائق وانتقادات طال انتظارها .. ومما ينبئ عن ايجابية تلك الصحوة أن هذه الجرائد فى معظمها لا تحتوى على الأساليب التافهة المألوفة فى الإثارة سعيا للربح.. بل انها لم تعتمد على صورة السبق الصحفي المألوف بقدر ما اعتمدت على المقالات والدراسات الفكرية البحتة لمختلف الأوضاع فى المجتمع ولم يكن المقال الصحفي خلال العقدين الأخيرين بمشجع على المطالعة من جموع القراء مهما بلغت قيمته , فأصبح أساسيا اليوم
وظهرت الأقلام التى تقف خلف هذه الصحف فإذا بها شابة فتية بارعة فى التعبير قادرة على استخدام اللغة الصحفية الراقية وكانت بنزولها إلى الأسواق وارتفاع نسبة التوزيع لبعضها فوق ربع مليون نسخة إيذانا بفتح جديد فى نشاط الثقافة والمثقفين وتغير عنيف وجذرى فى عقلية القراء الذين أقبلوا بشكل مكثف على الخدمة الصحفية الحقة المتمثلة فى التحليلات والدراسات والتحقيقات التى تتناول حق الشعب فى التغيير وهى كلها أشياء نسيتها مصر من عهود طويلة
هذا بالإضافة إلى ظهور المعارك الفكرية الجادة من جديد بين الرأى والرأى الآخر وهى الأمور التى ذكرتنا بنجوم تلك المواجهات قديما
وتلك الظاهرة الجديدة حمل لواءها الجيل الثالث ـ إن صح هذا التعبير ـ وهم مجموعة الصحفيين والكتاب والمفكرين الشبان من الجيل الذى استقل بوعى سياسي غير خاضع فى توجهاته لنزعات تيار سياسي معين بقدر ما نزع إلى الحقيقة فى وجهها العارى من أى رتوش
وهذا الجيل هو أمل المثقفين فى مصر والعالم العربي بدون مبالغة لأنهم من ناحية ثبتوا فى مواجهة التغريب والإهمال وعدم وضوح الهوية عندما اشتقوا لأنفسهم طريقا يتحدث عن العالم الديمقراطى وفقط .. بغض النظر عن أى قناعات حكمت النخبة المتسلطة على مقدرات المجتمع , وذلك عندما رفضوا قبول المقارنة بين مبارك وبين من سبقه ومحاولة مناصري النظام إظهاره فى صورة النظام الأكفأ بالمقارنة بمن سبقه .. واكتفي الجيل الجديد بالمطالبة بدور المجتمع بالمقارنة إلى المجتمعات الديمقراطية الحقيقية وأهملوا ما دون ذلك
وظهر التيار الجديد مُوظِفا لكل مجالات الفكر والثقافة فى خدمة هذا الغرض النبيل فى الارتفاع بمستوى الأعمال الأدبية شعرا ونثرا والكتابات السياسية تحليلا وتأريخا على نحو عـمـَـق الألوان وزاداها ظهورا بعد طول شحوب
وتتزعم هذا التيار صحف الدستور [1] وصوت الأمة والكرامة والمصري اليوم وبعض الصحف الحزبية التى جددت شبابها مثل العربي الناصري والوفد وجريدة الشعب الاليكترونية التى تحدت قرار الإيقاف لنسختها المطبوعة
إضافة إلى ثورة المدونات والمواقع الثقافية على شبكة الانترنت التى أصبحت انقلابا فى تاريخ الإعلام بما يمارسه الشباب من تعبير عن أفكارهم كان الانترنت هو مجال تفريغها الطبيعى وكلها حفلت بعشرات المواهب الجادة من شباب فى عمر الزهور يرتكزون إلى خلفية ثقافية متينة ومبشرة قياسا إلى الظروف التى نشئوا فيها وكانت كفيلة بقتل معنى الثقافة فيهم
ومن نجوم هذا الجيل الفريد إبراهيم عيسي الروائي والصحفي النابغ والذى يعد نسيج وحده وسط أبناء جيله بما تمرس عليه من قدرات فذة فى التناول الصحفي والأفكار يعاونه فى ذلك خلفيته الثقافية الجبارة بالتاريخ قديمه وحديثه ويعد إبراهيم عيسي النسخة الروائية من الشعراء أحمد مطر ومظفر النواب لأنه اتبع سبيل هؤلاء المتفردين فى قصر نشاطه الروائي والفكرى على قضايا الوطن وإليه يرجع الفضل فى سيطرة جريدة الدستور على الشعبية بين مختلف الصحف بأسلوبها الجديد الذى تبدو معه أقرب إلى الكتاب منها إلى الجريدة
كما يبرز مجدى مهنا الصحفي الهادئ حتى فى ثورته والكاتب القدير فى التعرض لمختلف الموضوعات وبقلم شديد التمسك باستقلاليته فى مواجهة الظروف وقد لفت النظر إليه بعموده الشهير " فى الممنوع " عندما استمر لفترة فى إدارة تحرير جريدة الوفد ثم انتقل إلى المصري اليوم ليحمل لواء أول صحيفة مستقلة ترفع سقف النقد وتطول به الخط الأحمر عند مؤسسة الرياسة , وهو ما لم يكن معهودا أو مألوفا طيلة عهد مبارك فقبل المصري اليوم لم تخرج جريدة إلى وعى الجماهير بتلك الدرجة من الصراحة والتناول ,
كما يحسب لمجدى مهنا قدرته على انتهاج خط شديد الاستقلال عن كل التيارات فعلى صفحات الجريدة تجد كل طرف يدافع عن توجهه بما شاء دون تحيز من إدارة التحرير لطرف ضد طرف آخر على الرغم من قرب الجريدة إلى خط المعارضة إلا أن معارضتها لا تعتبر كسرا لحياديتها بل هى تعارض وتنتقد دون الإرتكان لهدف حزبي أو غرض فى تسليط النقد على الحزب الحاكم ورجاله لصالح حزب أو مجموعة أخرى ..
وأيضا يحتل وائل الإبراشي المذيع والصحفي اللامع مكانا متميزا بين أبناء هذا الجيل من خلال صوت الأمة التى يتولى رياسة تحريرها ويعد برنامجه على إحدى القنوات الفضائية المنتشرة هو خير معوض لبرنامج الإعلامى القدير حمدى قنديل الذى ترك التليفزيون المصري إلى برنامج آخر ودول أخرى
وعشرات من هؤلاء المثقفين البارزين منهم بلال فضل وعبد الحليم قنديل وإبراهيم منصور وغيرهم

الثانى
أما المشهد الثانى من شاهد الصحوة فيتمثل فى ظاهرة جديدة على المجتمع المصري وهى حركة جماهيرية بلا حزب معين كما هو مألوف وتمثلت فى حركة " كفاية " والتى أشرف عليها عدد من المثقفين البارزين وأعطوها هذا الاسم المعبأ بالإيحاءات وهى حركة سياسية بثوب ثقافي حقيقي ولذلك حققت نجاحا وتواجدا رهيبا خلال فترة قياسية وبلغت من الجرأة حدا عجزت عنه الأحزاب المعارضة التقليدية كما عجزت عنه جماعة الإخوان المسلمين بالرغم من تمرسها فى النضال وامتلائها بالكوادر الفكرية والسياسية ويكفي أن تلك الحركة على رأسها مفكر عملاق مثل الدكتور عبد الوهاب المسيري ومناضل كفء مثل جورج اسحاق
وقد تبعت حركة كفاية عد حركات تحررية مشتقة منها تمثلت فى صحوة النقابات النائمة وزيادة نشاط النقابات التى كانت تحركت من قبل بشكل ضيق لا سيما فى مجموعة أساتذة الجامعات الذين استيقظت همتهم وتضامنوا مع الطلبة فى مختلف توجهاتهم وهو مشهد لم يدر بخلد أشد الناس تفاؤلا أن يراه بعصرنا الحالى مثل الدكتور محمد أبو الغار والدكتور أسامه الغزالى حرب قطب الحزب الوطنى سابقا مع عدد من أبرز نجوم الحياة السياسية فيما مضي مثل الدكتور عزيز صدقي رائد الصناعة المصرية والدكتور يحيي الجمل الفقيه القانونى الشهير
كما تحركت جموع القضاة واجتمعت كلمتهم على قلب رجل واحد ويلاحظ فيهم أنهم جميعا من الكوادر المثقفة القادرة والتى مارست نشاطها من خلال ناديهم العريق ومن خلال الصحف ووسائل الإعلام وهم رجال فقدهم ميدان الفكر بحق .. مثل المستشار زكريا عبد العزيز أول مستشاري الاستئناف الذين غيروا قاعدة رياسة نادى القضاة من محكمة النقض وتحت رعاية النظام وكذلك المستشار الجليل محمود الخضيري رئيس نادى قضاة الاسكندرية وصاحب الطلقة الكبري فى رفض الوصاية الحكومية على الشأن القضائي وغيرهم من شيوخ القضاة الذين تركوا صوامع اليأس وهبوا على قلب رجل واحد من مختلف الدوائر القضائية معيدين انتفاضات العهود السابقة فى عام 1969 م وانتفاضة عصر السادات فى نهاية السبعينيات
هذا بالطبع إلى جوار انتفاضة أهل القلم والأدب الذين عانوا ـ ربما أكثر من غيرهم ـ من جرائم هذا الجمود فخرج بالمثل أهل الشعر والزجل والرواية القدامى معيدين عهودهم الماضية فى عصري عبد الناصر والسادات ليقودوا انتفاضة جديدة بعصر مبارك وتحت لوائهم أباطرة المواهب الشابة من الجيل الثالث فى تاريخ مصر بعد يوليو وبرز من نجوم الجيل القديم أحمد فؤاد نجم وعلى سلامه وعبد الرحمن الأبنودى وغيرهم
بل إن مجال التمثيل بالمسرح والسينما لم يخل من نوابغ المدافعين وتربع على عرشهم المخرج العملاق الراحل يوسف شاهين الذى أعاد اكتشاف نفسه فى مواجهة ساخنه مع النظام بعدد من التأثيرات الفعالة له اعتمادا على مكانته الاعلامية ..
ويجلس إلى جواره فى نفس الخط الممثل المصري المثقف عبد العزيز مخيون النسيج المتفرد فى قطاع التمثيل كله بما له من قدرة خارقة على انتقاء أدواره التى انغلقت تقريبا فى أدوار الكفاح ضد السلطة الغاشمة فى مختلف العهود منذ قيامه بأشهر أدواره " طه السماحى " فى العمل التليفزيونى الشهير " ليالى الحلمية "
وقد خرج عبد العزيز مخيون من دائرة الكفاح برسالته عبر مجاله إلى مجال النضال الفعلى فى حركة كفاية على نحو جلب للنظام الحاكم صداعا لم يتخلص منه بالرغم من مختلف الوسائل التى اتبعها مع النجم القدير

والملاحظ بالطبع أن كل هذا الحراك هو حراك ثقافي وبقيادة مثقفين تمكنوا من إرساء دعائم رسالتهم الأصلية فى تربية الرأى العام وتمكنوا أكثر من بسط شعبيتهم بين الجماهير التى كانت راكنة صامتة ولا تفرغ حماسها إلا فى كرة القدم !!



الهوامش :
[1] ـ هذا قبل أزمة إبراهيم عيسي ورحيله عن الدستور