عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
8

المشاهدات
4803
 
رشيد الميموني
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


رشيد الميموني is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
597

+التقييم
0.12

تاريخ التسجيل
Dec 2010

الاقامة
تطوان / شمال المغرب

رقم العضوية
9563
12-23-2010, 07:53 PM
المشاركة 1
12-23-2010, 07:53 PM
المشاركة 1
افتراضي الصبــــــــــــار - رشيد الميموني -
الصبار
ولجت الفصل ، فطالعتني عشرات العيون في تحفز وفضول، وران صمت عميق لا يشوبه سوى وقع قلم أو أزيز كرسي . أشرت بالجلوس ثم أخذت مكاني بمكتبي وفتحت دفترا دونت فيه ملاحظات هي عبارة عن تعليمات للصغار حول طريقة العمل... الأدوات ، التغيب ، الشغب ، الزي المدرسي ، الفروض ... استمع إلي جمهوري بانتباه هو أشبه ما يكون بصلاة . الآن ... تيقنت أني أحكمت سيطرتي على حشد يملأ القاعة طولا وعرضا. خمسون نسمة ، لا تسمع لها همسة . الآن... يمكنني العمل كما يحلو لي ، وبما يمليه علي كل ما اكتسبته من تجربة واطلاع في ميدان التربية والتعليم . الطفل ، المراهق ، الانحراف...
شملني زهو وأنا أدير ببصري من فوق نظارتي المكورتين متفرسا في الوجوه . ربما كان كلامي بلغة أجنبية عاملا في هذا السكون المعبر عن استسلام تام .
"- حسنا ، لنبدأ العمل – قلتها بفصاحة أهل السين- أنت... هناك... إلى السبورة ."
ولو أن زلزالا رج الفصل رجا ، أو أن عاصفة دمرت المكان تدميرا لكان أهون من رد ذلك "الشيء" الذي أحنى رأسه وهو يحركه رافضا . تملكني شيطان التحدي والعناد ، ورأيت أن هيبتي وسمعتي في خطر فقلت في حزم:
- ألم تسمع ؟ قف ، وتعال إلى السبورة .
لعله لم يفهم . أشرت له بأصبعي . صرخت بصوت رن في أرجاء الحجرة . أمرت أحدهم بشرح الأمر، دون جدوى :"- حسنا... سوف نرى ."
في الحقيقة ، لم أكن أعرف ما يجب فعله ، فقد تعودت أن تنفذ أوامري بحذافيرها . ويبدو أنني لم أحسب للأمر حسابه ، و... رن الجرس.
- أنت... لا تعد إلا وولي أمرك معك...مفهوم ؟
طأطأ رأسه . خيل إلي أنه سيحركه يمينا و يسارا . شققت الحشد المتدفق نحو الباب ، وأمسكت بأذنه:
- انتبه… سيكون عقابك أليما… فهمت ؟
لا شك أن شيئا ما آلمه قبل أن يحس بإبهمي وسبابتي تضغطان على شحمة أذنه، وأنه يغالب البكاء فانسل بين رفاقه واختفى ، بينما توالت الحشود وترددت نفس الخطبة :"- حذار، إياكم ، أنصتوا ، انتبهوا ..." ولكي أبدو واسع الاطلاع والمعرفة ، امتدت تعليماتي إلى التغذية :"- الحليب ، البيض ، اللحم ... هذه المادة فيها حديد ، وتلك فيها كالسيوم ، وفيتامين أ ، ب..." ولم تنته الحصة حتى كان الإعياء قد بلغ مني مبلغه . فانصرفت والطنين يصم أذني، فلم أعرج كعادتي على القهوة رغم إلحاح جاري علي بالحضور لنشاهد سويا لقاء برشلونة وريال مدريد في صراعهما الأبدي الذي تطال شرارته المقاهي المنتشرة كالأخطبوط عبر شوارع المدينة . عزفت نفسي عن مشاهد السباب والصراخ والمشادات الكلامية ، ولم أمر على منزل خطيبتي حتى أوفر علي مسامعي السؤال المتوقع: -" هيه...ماذا عن الساعات الإضافية ؟"
تاقت نفسي إلى لحظة سكون أستجمع فيها أفكاري. فقد كنت مشتت الذهن دون معرفة السبب. قد يكون وراء ذلك انهماكي المفاجئ في العمل بعد عطلة طويلة . وربما يكون انقباضي راجعا لمعاناتي من جراء فشلي في الإنتقال إلى مؤسسة قريبة من مقر سكناي ، إضافة إلى تأخر ترقيتي بعد أن نالها كل زملائي ، القدماء و الجدد .
وأنا في شرودي هذا ، لم أنتبه لجاري الغارق في متجره وسط السلع المكد سة وهو يناديني معاتبا :
- على الأقل ردوا السلام... لا نريد منكم جزاء ولا...
- عفوا ، لقد كنت ساهيا فلم...
- هكذا أنتم معشر المعلمين... كأنكم تحملون أوزار العالم فوق ظهوركم .
- ما العمل وأمثالك ممن لا يطاق تحمله ؟
أطلق قهقهته المعتادة ثم توقف ليقول جادا :
- ألم تسمع بآخر الأخبار ؟ الإنكليز يصرحون أن للفلسطينيين الحق في إقامة دولتهم .
- هل قالوا ذلك حقا ؟
- إيه والله... هؤلاء أناس شجعان وصرحاء... لله ذرهم .
- هنيئا لنا بمثل هذا الكلام ... لكن اعذرني . أنا متعب . مع السلامة .
أوصدت الباب واستلقيت على السرير. للمرة الأولى وددت لو ينقضي الليل بسرعة. هل وصل شغفي بالعمل إلى هذا الحد ؟ الليل عندي لحظات الشرود والانطلاق والانفلات من أغلال النهار وأعبائه. لكني اليوم أستدني النهار وأستعجل بزوغ الفجر. حتى النوم أبى إلا أن يجفوعيوني.
لم أصدق أن النهار طلع . فانطلقت كالمجنون . هاهي الإعدادية . التلاميذ مصطفون . يدخلون الفصل ويبدأ الدرس . في عيون الصغار توجس وحذر . لا شك أن منظر ذقني الذي نسيت أن أحلقه وعيني الشبه المغمضتين قد راعهم : -" أنت... هناك ... قم إلى السبورة ."
لم يحرك رأسه . التفت نحو أحد زملائه فقرأ في عينيه رجاء . الكل يتوسله في صمت ، وأنا كلي غليان ، أنظر من أعلى . أخالني على وشك الانقضاض عليه... على أي واحد منهم... على أي شيء . لكنه ينهض متثاقلا . تتبعه نظرات الخمسبن رأسا ... أعصابي تتراخى ، متزامنة مع تقدمه نحو السبورة . انتصاري وشيك :
- تقدم... أين ولي أمرك ؟
تابع تقدمه في تؤدة دون أن يجيب . لا يبدو منه سوى الرأس و الكتفين ... و أخيرا يقف أمامي . قامته لا تتجاوز خصري :-" خذ واكتب... علي بالاجتهاد وطاعة معلمي ."... بدأ يكتب . خطه جميل . نظرت إليه من قمة رأسه إلى أسفل قدمه ، وانتبهت للآخرين يكتمون ضحكة. لا شك أن فتحة سرواله من الخلف قد استرعت انتباههم مثلي . وأكيد أن أصابع قدمه البادية من ثقب بالحذاء المطاطي قد جلبت الأنظار. وفي لحظة ، سقط من يده الطبشور فانحنى ليلتقطه . زادت الضحكات . رفع عينيه إلي . تلاقت نظراتنا . قال لي أشياء وأشياء في صمت...تجاهلتها.
- حسنا... أهنئك على خطك وقلة أخطائك... عد إلى مكانك .
هذه أول مرة أثني فيها على تلميذ في بداية السنة لحرصي الشديد على ألا ينتابهم نوع من الغرور... ويسود الصمت . في الجو شيء مبهم لا ندري كنهه... لا أنا ولا صغاري ولا هو . أو على العكس ، كلنا يعرف بما يفكر فيه الآخر. ويظل الجميع صامتا حتى يدق الجرس ، ويختفي الصغار كالفئران ... سيطلقون العنان لتعاليقهم اللاذعة ، وسينضاف إليهم آخرون وآخرون...
ولليوم الثاني على التوالي أتجنب المقهى والبقال الذي ينتظر بشغف أن أبادره بالحديث عن فلسطين و البوسنة والعراق والشيشان . فهو مغرم باندفاعي في الحديث و بحدة كلامي ، ومعجب باطلاعي الواسع على مجريات الأمور، ويستغرب قبوعي أياما منزويا عن الخلق... متأثرا بما يجري هناك .
أقبل الليل ، ويتجدد حبي له . لا أطيق الحيطان ، فأصعد إلى السطح . تستلقي المدينة أمامي متثائبة . تخمد حركتها رويدا رويدا . أصوب نظري ناحية الجبل الجاثم فوقها . تبدو المنازل متعلقة به كأنها تخشى السقوط . وأتفحص الدور الآجورية كأني أبحث عن شيء معين ... ماذا تخبئ وراءها ؟ كأني بها تكاد تميز من الأنين والحرمان فلا أشعر إلا وأنا أهتف :
- أنت...هناك... حذار من طعنة غادرة تخترق جسدك الغض... كفاك طعنات .
هذا السحر، كل شيء فيه لذيذ... السهر ، الحلم ، الألم ، الذكريات . وهذه المدينة المنبطحة في استسلام عند سفح الجبل ، تثير الشفقة... تطوان ، بنت غرناطة ، كما يحلو لمحبيها تسميتها . هواءها سم ، وماءها دم ، والصاحب لا يكون من ثم . هكذا وصفها أحد المجذوبين في القرن ما قبل الماضي . أعصر ذاكرتي لأتذكر اسمه فلا أفلح... قيل إنه كان يذرع البلاد مقرضا الشعر، ثائرا على الوضع . ولازلت أذكر إحدى قصائده الزجلية :
سوق النسا سوق مطيار يا الداخل له رد بالك
يرينك من الربح قنطار ويضعنك في راس مالك

لا شك أنه اكتوى بنار إحداهن . حب ؟ انتقام ؟... النساء...خطيبتي ... الدروس الخصوصية . كم من مرة بينت لها موقفي الرافض لها ، لكنها تحثني متعللة بضيق الحال وضرورة الاستعداد للمستقبل . حسنا... سأفعل ، ومن الغد . لا أدري لم غيرت رأيي .
في الأيام التي تلت الدخول المدرسي ، أوليت اهتماما خاصا بذلك الشيء العزيز ذي الأسمال المرقعة والرأس الحليق واللكنة الجبلية . وصار من عادتي قضاء وقت طويل في توجيهه ، حتى أثناء الحصص الفارغة ، وفي الطريق . وربما سهوت ، فاستسلمت لخطواتي لأجد نفسي أخترق الزقاق بين دور القصدير ونبات الصبار الشائك ، فلا يوقظني سوى توقفه ونباح الكلاب... هناك، عند عتبة بيت الصفيح ، تقف الأخت منتظرة ، مبتسمة، ثم أنصرف . أحس أني فعلت شيئا ما . ربما كفرت عن ذنب أو حققت رغبة . لكن الأهم أن توتر نفسي قد انمحى ، وأن قلقي قد اندثر.
وجاء اليوم الذي لم أكن أتوقعه... غاب عن الدرس يوما ، ثم يومين ، فأسبوعا... وجاءني الجواب عن سؤال لم أجرؤ على طرحه... لقد رحل- كما قيل لي- مع زوج أمه وإخوته العشرة . لماذا ؟ وإلى أين ؟ ما جدوى السؤال بعد أن انتهى الحلم ؟ "انتهى كل شيء" ...هكذا واجهتني خطيبتي وهي تتفحص حذائي الملطخ بالوحل :
- عد إلى الوسخ والحقارة من أمثالك . واهنأ بالحثالة بين نبات الصبار...
لم أثر ، ولم أشعر بالإهانة . بل لم أحاول شرح الأمر... سأعود إلى فصلي متفحصا الأجساد والأقدام . سأفتح قلبي على مصراعيه حتى يتسع لكل من هب و دب ، ثم أعود إلى المقهى ، وأندمج في النقاش حول الكرة . وأعرج على البقال فأخبره أن الدنيا لا زالت بخير... فلفلسطين حجارتها ، وللبوسنة والشيشان رجاله ، وللنفس... كرامتها.