عرض مشاركة واحدة
قديم 08-10-2010, 06:44 AM
المشاركة 3
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: محاورات اليأس والمقاومة
كيف يسبق المرء عصره ؟!

جاء الشاب أحسن حالا هذه المرة وفتح باب الحوار بسؤال عن مفهوم المرء الذى يسبق عصره ..

فقال الكاتب :
" يـُطلق هذا الوصف عادة عند خروج عبقري تمكن من إدراك وتقرير معارف أو اكتشافات أو علوم تتعدى مستوى المعارف والعلوم بعصره عدة مرات ولم يدركها معاصروه بل عرفها اللاحقون بالتطور العلمى والفكرى الطبيعى مثل العبقري الايطالي الشهير ليوناردو دافنشي الذى وضع تصميمات ورسوم للطائرة الهليوكوبتر والمدفع الرشاش والغواصة فى عصر كان المقلاع فيه إنجازا علميا .. "
فقال الشاب ..
" ومثل من فى العصر الحالى "
فارتسمت على شفتى الكاتب ابتسامة ساخرة وهو يجيب :
" لا يا صاحبي فى العصر الحالى الأمر اختلف قليلا فلم يعد سابق عصره هو الذى يستشف المستقبل بل الذى ينجح فى العودة للماضي بثرائه ويصبح من أهله ليتمكن من العيش كانسان طبيعى
هل فهمت !! "
الشاب ...........!!!!

أكمل الكاتب ..
" لقد تغيرت المفاهيم فى عصرنا الحالى تغيرا عنيفا .. وهو تغير وليس تطورا كما هو المفترض بعد أن تزايد الغرور البشري لأقصي مدى وخلق لنفسه منهجا وطرقا فوقع العالم كله رهنا للقوة الغاشمة فى كل شيئ .. ولهذا فهناك ضرورة للعودة إلى حيث أصول كل شيئ لنبدأ من حيث انتهى الأقدمون وهو التطور الطبيعى للحضارة والذى انكسر عندنا نحن .. "
غمغم الشاب فى إعجاب
" أريد أن أعرف كيف أكون عالما أو فيلسوفا .. "
اتسعت عينا الكاتب فى دهشة قبل أن يستغرق فى ضحكة طويلة عالية ويقول ..
" لا حول ولا قوة الا بالله .. تريد منى أنا أن أعلمك كيف تكون عالما أو فيلسوفا !! .. إنك لو طلبت إلى أن أعلمك كيف تكون تلميذا ما استطعت هذا لأنى أنفقت السنوات لمحاولة الوصول إلى رتبة التلميذ فلم أستطع .. فما بالك بالعالم أو الفيلسوف .. ومن أخبرك أن من أدرك تعريف الفيلسوف أصبح مثله أو أدرك من هو العالم أصبح عالما ..
إنها كارثة هذا العصر وسؤالك هذا أو أسئلتك كلها فى تلك المحاورات خير دليل على مأساتنا لأننا وببساطة لم نعرف كيف نسأل .. مجرد السؤال وهو مفتاح أى علم ـ كما أخبرنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ـ لم نعرف السؤال فكيف نصل لبوابة العلم إذا ؟!! لقد ضاعت المفاهيم كما سبق أن أخبرتك .. ولو أنك طالعت تاريخنا وعرفت من هم العلماء وكيف كانوا لأدركت أنك بسؤالك هذا ارتكبت ما يُوجب حد المفترى يا صاحبي .. "
فقال الشاب فى توتر ..
" كيف .. كيف كان هؤلاء العلماء .. ؟ "
ابتسم الكاتب وهو يجيب
" كانوا كما قال عنهم أشرف الخلق عليه الصلاة والسلام ورثة الأنبياء .. ترى الواحد منهم يتقاطر علما وحكمة وعلمهُ وحكمته وتطبيقهما معه فى كل وقت حتى فى فراش نومه وهؤلاء هم الذين قضوا العمر كله ليَعلموا ويُعلموا ومع ذلك ضاع أكثر علمهم لأن القول المأثور يقول ـ وهو قول صحيح ـ أنه ما مات عالم إلا وضاع نصف علمه ولو حرص الناس
وقبل أن أحدثك عن العلماء دعنى أحدثك عن تلامذتهم لتدرك أى افتراء وقعت فيه ..
فقد روى فى الأثر أن أحد الأطفال كان عند شيخه يحفظه القرءان فقرأ الشيخ عليه قول الله تعالى " تبت يدا ... " ودعا الطفل أن يردد خلفه ليحفظ .. فرفض الطفل أن يردد أول كلمتين فى الآية لأنه لم يفهم منهما جملة مفيدة وهتف بشيخه .. " يدا من يا سيدى .. ؟! "
أرأيت كيف رفض الطفل ترديد القول كالببغاء بلا فهم وإدراك ..؟!
وأيضا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان لا زال بعد طفلا صغيرا وتورط تحت تأثير العصبية لبنى أمية فى حديث سوء عن إمام الأئمة على بن أبي طالب رضي الله عنه وبلغ هذا الحديث مسامع شيخه الذى يـُعلمه .. فلما قدم عمر بن عبد العزيز على شيخه وجده غاضبا واجما لا يرد عليه التحية فسأله عمر .. " ماذا هناك يا شيخى ؟! "
فالتفت إليه العالم القدير قائلا فى صرامة غاضبة " منذ متى علمت أن الله غضب على أهل بدر بعد أن رضي عنهم "
هكذا كان سؤال شيخه وعتابه بطريقة بلاغية غير مباشرة على الإطلاق لأنه يشير بهذه العبارة إلى تبكيت عمر على خطئه بحق واحد من أهل بدر المرضي عنهم ..
بمعنى أن الشيخ العالم عاتب تلميذه وعنفه وسخر من خطئه وأوضح له الدليل على خطئ ما وقع فيه وصحح مفاهيمه .. كل هذا وبعبارة واحدة !!
فإذا بالتلميذ الحقيقي يدرك من العبارة مقصد شيخه على الفور ويحنى رأسه قائلا فى ندم :
" عذرا إلى الله ثم إليك والله لا أعود لمثلها أبدا "
وعبد الله عباس رضي الله عنه حبر الأمة الجليل كان يجلس كل يوم بعد صلاة العصر والناس محتشدة بالمئات على بابه فيطلب إلى خادمه أن يذهب إليهم مرة بعد مرة وفى كل مرة يأتى بالذين يريدون أن يسألوه فى فرع معين من العلم فيجيبهم جميعا فى القرءان والسنة واللغة والأدب وأخبار العرب وفتاوى الفقه .. كل هذه العلوم يجيب السائلين عنها دون أن يعود لمرجع أو يقوم من مكانه ليطلع فى كتاب
هؤلاء هم التلاميذ وهؤلاء هم الأساتذة يا صديقي فهل عرفت من هم ؟!
الشاب .....

الحقيقة المطلقة

أخبرنى ما هو الفارق بين الحقيقة والخيال ؟
صمت الكاتب قليلا قبل أن يسأله
" وهل عرفت ما هى الحقيقة وما هو الخيال لتسأل عن الفارق بينهما "
فقال الشاب
" نعم الحقيقة هو واقع أراه بعينى أو ألمسه بيدى والخيال ما لم أره وألمسه وأشعر به .. "
فقال الكاتب
" لو أننا سلمنا بوجهة نظرك لاختل ميزان الحياة .. فأنت تقرـ كإنسان ـ بوجود الهواء فهل رأيته أو لمسته ؟! .. وأنت تعيش بالروح فهل رأيتها أو لمستها .. ؟! وبالمقابل فأنت ترى النجوم بعينك واقعا فى السماء مع أنها فى الأصل غير موجودة بل فنيت قبل رؤيتك لها منذ زمن بعيد وما تراه هو صورة ما كانت عليه فى الماضي السحيق ووصلت إليك بسرعة الضوء عبر مئات وآلاف السنين الضوئية وعندما استوعبها بصرك كان أصل النجم ذاته فى غياهب الفناء .. ومع ذلك فالروح والهواء حقائق موجودة والنجوم خيال لا أصل له فى الواقع الحالى "
صمت الشاب قليلا .. فاستطرد الكاتب ..
" الحقيقة والخيال وأنا وأنت وأى شيئ فى محيط هذا الوجود اللانهائي كله لا يعرف أبدا شيئا على إطلاقه .. بمعنى أن كل شيئ نسبي فلا يمكننا أن نضع تعريفا أو وصفا يكون حقيقيا مائة بالمائة لأى شيئ كان .. دائما تكون الحقائق بالنسبة لمن يعرفها وبصورة تخالف رؤية الآخرين .. بمعنى أننا مثلا كبشر نرى الأشياء بأبعاد أربعة وهى الطول والعرض والإرتفاع والزمن وهناك غيرنا من الكائنات يراها ببعدين فقط وربما كانت هناك كائنات أخرى ترى الأشياء بخمسة أو سبعة أبعاد وهكذا ..
من هذا نكتشف أن ما نراه ليس ضروريا أن تكون حقيقته كما نراها بل هى كذلك بالنسبة لنا فقط .. كمثال الهواء فهو كيان يشغل حيزا من الفراغ ومع ذلك لا نرى هذا الحيز ولا يمنعنا وجوده من شغل فراغه مع أنه موجود وحقيقي
وأيضا كمثال بسيط يبلغ عمر ذبابة المستنقعات يوما واحدا أى أن دورة حياتها تبدأ وتنتهى بعد يوم واحد بينما نجد بعض السلاحف والثعابين يمتد عمرها إلى مائة عام فالسلحفاة بالنسبة للذبابة خالدة لا تموت مع أنها فى الواقع تموت .. ومثلا كائن الأميبا لا يُري بالعين المجردة فتخيل معى لو أنه تميز بالادراك وتمكن من رؤية الحوت الأزرق مثلا أضخم الكائنات على الأرض سيبدو له هو الأكبر فى الحياة بينما الحوت الأزرق فى الواقع لا يمثل بالنسبة للأرض إلا كما تمثله الأميبا بالنسبة له .. والأرض بما عليها وبمجموعتها وشمسها لا تساوى ذرة فى مجرتها التى لا تساوى بذرة فى الكون الفسيح وهكذا
وقد ذكرتنى بحقيقة علمية تحدث عنها أينشتين عند وضعه لفرضية سرعة الضوء التى تبلغ 300 ألف كيلومتر / ثانية تقريبا .. فقد أقر أينشتين باستحالة وصول الإنسان لسرعة الضوء ولكنه افترض هذا الوصول وعليه تخيل أنه قام بتجربة تؤكد نسبية الأشياء فلو أننا أتينا بإنسان ما وأطلقناه بسرعة الضوء وأطلقنا إلى جواره شعاعا ضوئيا من مصدر ضوئي ثابت بحيث يسيران متوازيان ومتجاوران ..
بالنسبة لنا نحن مشاهدى التجربة سنرى شعاع الضوء والانسان السائر بسرعة الضوء بنفس الهيئة وهى هيئة شعاع ضوئي
بينما الإنسان السائر إلى جوار هذا الشعاع سيري شعاع الضوء قضيبا صلبا إلى جواره يمكنه لمسه وكسره أيضا .. وبالتالى لا توجد حقيقة مطلقة غير قابلة للتغير إلا حقيقة واحدة فقط ثابتة لا تتغير "
فقال الشاب فى لهفة ..
"وما هى .. أظنها الموت فهو واحد بالنسبة للجميع ..؟!
فعقب الكاتب نافيا
" لا .. الموت مجرد حالة متغيرة وطريق إلى حياة أخرى وبالتالى لا يوجد موت مطلق بل هو موت نسبي بالنسبة لنا نحن الكائنات الحية نرى الموت واقعا علينا ونصفه بهذا لأننا نراه كذلك أما حقيقته فهى لا تعدو كونه تغير فى قوانين الطبيعة التى تحكمنا
أما الحقيقة المطلقة الوحيدة فى هذا الكون والتى لا تتغير أو تتبدل لا بمرور الزمن ولا بتغير الظروف هى حقيقة وجود الخالق سبحانه وتعالى لأنه جل سبحانه موجود بلا بداية ومستمر بلا نهاية ومنفرد إنفرادا مطلقا لا يغير انفراده شيئ ومتحكم مطلقا لا يشاركه الحكم شيئ وهو ذاتى القدرة لا فضل لأحد عليه لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار .. لذلك فهو الحق وهو الحقيقة ولا شيئ غير ذلك "

وما زال النهر جاريا