سابعا : كان من المفروض أن الحركة قامت في الأصل لأجل تطهير الجيش ! وهذا هو الهدف الرئيسي الذى أعلنته قيادتها بصوت أنور السادات , عن طريق إجبار الملك على الإستماع لطلبات الضباط بتولية الضباط الوطنيين للمسئولية , وبمجرد نجاح الحركة , انقلب مطلب التطهير الوظيفي إلى تطهير ولائي , وانقلبت مطالب الإصلاح إلى تواطؤ مكشوف على الجيش بأكمله ! فبعد أن تصاعدت نبرة الإحتجاجات العنيفة بين مختلف ضباط الجيش نظرا للممارسات المستفزة لأعضاء مجلس قيادة الثورة من ترقية الأقرباء ومجاملتهم بالتنقلات الإستثنائية والبدلات وغيرها , قام عبد الناصر عن طريق عبد الحكيم عامر ومجموعته بتطهير الجيش تماما ـ ليس من اللواءات هذه المرة ـ بل من الثوار أنفسهم ومن بقية ضباط الجيش الذين بدرت منهم اعتراضات على ممارسات رجال الثورة المهينة للتقاليد العسكرية ! فتم إبعاد 800 ضابط من المشاة والبحرية والطيران وأحيل بعضهم إلى المحاكمات الثورية والبعض الآخر إلى الاستيداع [1] كما أبعدوا كافة الضباط الموالين لمحمد نجيب , وظهرت على السطح بعض الممارسات التي لا تمت للأخلاق بصلة فضلا عن العسكرية والإنضباط العسكري , فقد روى نجيب في مذكراته عن صلاح سالم أنه ضرب أحد ضباط الجيش واسمه محمد وصفي بالحذاء على وجهه في اجتماع عام أثناء التحقيق معه , ثم تكفل التعذيب بالقضاء على الضابط الشاب تماما ! بخلاف واقعته الشهيرة مع الأميرة فوزية ومطاردته المسفة لها واستيلائه على فيلا بجوار قصرها لتستنجد الأميرة السابقة باللواء نجيب كى ينقذها من ممارسات الضابط الثائر ! بخلاف انتشار النهب والسلب لمحتويات القصور الملكية وعلى رءوس الأشهاد بلا حسيب أو رقيب ! ثم كانت الطامة الكبري عندما أنشئوا محكمة استثنائية باسم محكمة الثورة ورأسها أعضاء من المجلس الميمون نفسه لتصدر أحكاما عشوائية على مجموعة كبيرة جدا من ضباط الجيش بتهمة التمرد والإنقلاب العسكري , وهى القضية المعروفة باسم قضية المدفعية , فضلا على محاكمة عشوائية مماثلة وبأحكام جنائية ثقيلة تراوحت بين الإعدام وبين الأشغال الشاقة المؤبدة لقيادات الحياة السياسية قبل الثورة ! وللأعضاء البارزين في جماعة الإخوان المسلمين بل وحتى للعمال والفلاحين الذين قامت الثورة ـ كما هو مفترض ـ من أجلهم فتم إعدام خميس والبقري صاحبي قضية عمال غزل المحلة الشهيرة والذين اعتصموا بمصنعهم وقاموا بمظاهرات مناهضة , فكان جزاؤهم الإعدام وهو ما لم يتم حتى في عهد الإحتلال الإنجليزى ! وكل هذه المحاكمات تمت في غيبة القانون والقضاء الطبيعى , وغياب أى تأهيل عن أعضاء المحكمة التي ترأسها أمثال صلاح سالم وحسين الشافعى وغيرهم من قيادات الحركة ! ولنا أن نستدعى من الذاكرة قضية (محاكمة دنشواى ) والتى وفر فيها الإحتلال الإنجليزى ضمانات قانونية واضحة للمتهمين ـ ورغم مظهريتها ـ إلا أنها كانت أكثر حبكة وقام بها رجال قانون محترفون مثل بطرس غالى باشا والهلباوى بك أشهر المحامين في زمانه وممثل الإدعاء في القضية وغيرهم , وقد أقام مصطفي كامل الدنيا ولم يقعدها في أوربا تشنيعا على الأحكام التي صدرت بإعدام بعض المتهمين ونجحت حملته الصحفية في صدور القرار بإقالة اللورد كرومر المندوب السامى في مصر ! بينما لم يستطع رجال الإعلام في مصر أن يفتحوا فمهم بكلمة في مواجهة هذه الممارسات وهذه المحاكمات ! ومن أغرب الغرائب أن أحكام الإعدام تم تنفيذها في فرادى أبناء الشعب وعلى تهم باطلة , بينما تدخل جمال عبد الناصر بحسم عندما اقترح بعض زملائه محاكمة الملك فاروق نفسه وإعدامه , وأصر على طرده سالما ! فإذا كان هذا جزاء أس الفساد في البلاد فكيف ـ وعلى أى أساس ـ تمت محاكمة بقية السياسيين وهم مجرد منفذين لسياسته ؟! ثامنا : بدأت ظاهرة تسلسل رفاهيات المجتمع المدنى للعسكرية منذ وقت مبكر , فعندما جرفت القيادات الشابة سائر الكفاءات من جميع المجالات , قفز الضباط وأصهارهم وأقربائهم إلى المواقع المدنية حتى اصطبغت البلاد باللون الكاكى ـ على حد تعبير محمد نجيب ـ ثم زاد عبد الحكيم عامر من سطوته فتدخل ليتولى الجيش اختصاصات مدنية بحتة مثل الإعتقالات والتحقيق مع العناصر غير الموالية للثورة وأصبح جهاز الشرطة مجرد جهاز تنفيذى للبوليس الحربي ــ والذي كان اختصاصه مقصور على جرائم العسكريين وحدهم ! ـ فانقلب إلى شرطة مدنية ! ثم أعطى جمال عبد الناصر لرفيق عمره عامر باقي الصلاحيات المتبقية مثل لجان تصفية الإقطاع وتعيين الوظائف المدنية الشاغرة ورياسة شركات قطاع الأعمال العام بل حتى الإشراف على الرياضة ككرة القدم ورياسة النوادى الكبري كالأهلى والزمالك والتى ترأسها ضباط جيش أيضا ! فبدا الأمر من اللحظة الأولى أن الثوار الجدد لم يأتوا ثوارا على الوضع القائم بل أتوا لاستبدال طبقة الحكام فحسب , فبدلا من أن يكون الملك والأحزاب هم الصفوة أصبح الضباط الشبان هم أساس الحكم في البلاد وبدلا من فاروق واحد كان يكفي البلاد فسادا أتى مكانه 13 فاروق آخر على حد تعبير أحد ضباط يوليو أنفسهم الكارثة أن هذا الأمر لم يقتصر على مجرد نظرة الثوار الجدد لمصر على أنها مكافأة وإقطاعية كبري يستحقونها ما داموا قبلوا مخاطرة الثورة , بل تعدى الأمر إلى ترسيخ مكانة العسكريين على قمة الشرائح الإجتماعية , فلم تعد الوظيفة العسكرية وظيفة ملتزمة بدور محدد في المجتمع , بل أصبحت هى الطبقة الراقية الجديدة بديلا لأهل الفكر والعلم والسياسة وتم بث عشرات الأفلام السينمائية والأعمال الفنية التي تروج لهذه النظرية الإجتماعية , فأصبح فتى الأحلام وفارس الميدان هو ضابط الجيش وحده , وأصبحت أكبر المكافآت المعنوية لأى بطل رياضي أن يتم منحه رتبة شرفية في الجيش المصري ! وتمت مصادرة القصور والفيلات والشقق الفاخرة التي كانت ملكا لطبقات ما قبل الثورة ليتسلمها الجيش ويوزعها على الضباط المقربين وذوى الحظوة ! باختصار .. اهتمت القيادة الجديدة بالجيش في كل شيئ , عدا التدريب الجدى أو التسليح الفعال ! مما استدعى عبد الناصر عقب النكسة أن يولى الفريق فوزى بالذات قيادة الجيش ـ بسبب قسوته وغلظته ـ لتكون مهمته قاصرة فقط على إعادة الإنضباط العسكري المفقود ورد الجيش إلى ثكناته وإعادة القيادة للقواد المحترفين !! وحق لهذا الوطن أن يتألم ويسخر من نفسه قبل أن يسخر منه الآخرون , فقد أصبح قدرا أن تعتبر الواجبات الجوهرية للوظائف العامة هى من قبيل المن على الأوطان والشعوب , فيكون لازما على الشعب التسبيح ليلا ونهارا بإنجازات القواد كما لو كانت هبة أو تضحية ! فأصبحت مهمة الثوار الجدد بعد إتمام الثورة أن يجلسوا للحكم والغنيمة , باعتبار أن المشاركة في هذه الثورة هى المؤهل النهائي وختم الوطنية الذى يجب أن يحصل فاعله على المقابل طيلة عمره , بل أصبحت المؤهلات الرسمية المعترف بها للتعيين في الوظائف الكبري هى مجرد الإنتماء للتنظيم الثورى , ولهذا اعترض حسين الشافعى على تولية السادات باعتبار أنه يسبق الأخير في عضوية مجلس الثورة ! والسادات نفسه تم تعيينه نائبا لرئيس الجمهورية بناء على هذا العامل وحده , وهو أنه لم يحصل على حقه كالآخرين !.. والأمر يبدو كما لو أنهم قد اعتبروا القيام بالثورة كنزول الدعوة الإسلامية , فالسابقون الأولون من الثوار والأحرار هم أولى بالأمة من نفسها , وحق الأفضلية يعتبر مقرونا بسابقة الإنضمام للرسالة الجديدة ! لهذا .. تضخمت ذواتهم بطريقة بشعة , ورأوا أنهم بثورتهم هذى فاقوا الأقدمين والآخرين , ونظرة واحدة إلى مذكرات الضباط الأحرار تنبئك عن كثير , والطريف أنهم كانوا يستلهمون ثقافة التقديس الإسلامى فيضفونها على أنفسهم , فجمال منصور ـ أحد أعضاء الثورة البارزين ـ فى مذكراته يصف رفاقه عند ذكرهم بلفظ ( الصحابة ) فيقول ( اتفقت والصحابة على كذا أو قررت والصحابة قول كذا ) بينما يعرف كل طالب فى المدرسة الإبتدائية أن هذا المصطلح مقصور على وصف أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ولا يجوز استخدامه لغيرهم , تماما كمصطلح ( القرآن ) فهو فى اللغة كل شيئ مقروء ولكن ليس مقبولا من مسلم أن يطلق على ديوانه الشعري مثلا اسم قرآنى الخاص ! وبعد النكسة عندما اتفق عبد الناصر وعبد الحكيم عامر على التنحى وتعيين شمس بدران , ثم خالف عبد الناصر الإتفاق ورشح زكريا محيي الدين , هاج عبد الحكيم للخدعة وسماها ( خدعة أبي موسي الأشعري ) وهى إشارة إلى واقعة شهيرة فى التاريخ الإسلامى هى واقعة التحكيم بين على ومعاوية رضي الله عنهما , وتقول الرواية أن الحكمين أبي موسي وعمرو بن العاص اتفقا على تنحية على ومعاوية وتولية غيرهما على الأمة , غير أن عمرو بن العاص غدر بالإتفاق وأعلن أنهما اتفقا على معاوية !! وهى رواية مكذوبة وباطلة ولم يحدث منها شيئ قط وأثبت المؤرخون كذبها وتلفيقها ـ رغم انتشارها ـ لكن ثوار الإشتراكية لا يميزون صحيحا من سقيما حتى فى مجرد الإستشهاد بشيئ من التاريخ الإسلامى [2] وانتهت ثقافة السياسة المصرية التي كانت تعامل الحكومات بعامل المحاسبة , ولا يأتى السياسي لمنصبه التنفيذى إلا لإثبات استحقاقه لهذا المنصب الذى يُلام من قصر فيه , ولا يُشكر من أدى واجبه , ولم يسأل ضابط واحد من هؤلاء ـ عدا علوى حافظ [3] ـ نفسه سؤالا وحدا .. لماذا قاموا بالثورة أصلا ؟! هل لتعديل أوضاع فاسدة أم لترسيخ أوضاع أشد عنفوانا من الممارسات أى ملكية على وجه الأرض ؟! فهل عرفنا الآن لماذا كانت هزيمة يونيو لازمة ؟! الهوامش : [1]ـ مذكرات محمد نجيب ـ مصدر سابق [2] ـ لمراجعة حقيقة الرواية يرجى مطالعة ( العواصم من القواصم ) للقاضي أبو بكر بن العربي ـ دار الإعتصام [3]ـ المنصة ـ علوى حافظ ـ طبعة غير معروفة المصدر