الموضوع: قصة النكسة
عرض مشاركة واحدة
قديم 11-29-2010, 11:22 AM
المشاركة 18
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )
بل وتؤكد هذه القضية شهادة أقرانه من الناصريين الذين لا غبار على ناصريتهم , مثل عبد الحكيم عامر رفيق دربه الحميم والذى قال لمراد غالب ـ السفير المصري بموسكو ـ فى معرض تعليق له قبل النكسة ..
( ماذا نفعل وهذا الرجل فى مصر لا يرضي
إلا عندما يري صوره وأخباره فى الصحف كل يوم ؟! ) [1]
وشهادة رفاق كفاحه مثل عبد اللطيف البغدادى وكمال الدين حسين وعلوى حافظ وجمال حماد وغيرهم كثير
فالرجل من البداية كان واضحا أنه يعمل لنفسه لا لمصر , حتى انتهت هذه السياسة للنهاية المفجعة باضطراره إلى المزايدة السياسية لتغطية موقفه فى الشارع العربي وتحريك الحشود إلى سيناء فى مظاهرة عسكرية للتهويش , وهى الأمور التى اتخذتها إسرائيل كذريعة ممتازة لتدمر الجيش المصري عن بكرة أبيه !

ثالثا : يحتج هيكل فى تبرير هذه الذات المتضخمة باعتبار أنها من عوامل الضعف الإنسانى !!
وأنه ضد المنطق من يتصور إمكانية شخص يتمكن من تحييد نفسه فى إطار دوره بقضية عامة ,
ومن الغريب أن مفكرنا الكبير مخطئ فى الحالتين ..
ففي الحالة الأولى .. فما عند عبد الناصر لم يكن من قبيل نقطة الضعف الإنسانى التى يمكن قبول تجاوزها , بل كانت ذاته نقطة محورية فى الأحداث ومحرك رئيسي لها ,
والدليل من كتابات هيكل نفسه , حيث أن عبد الناصر صرح قبل النكسة أنه لا يملك خطة لتحرير القدس فثارت الجماهير وجاءت الوفود تطلب سحب تصريحه الواقعى ـ رغم واقعيته ـ فى سبيل تهدئة الجماهير ,
فاستجاب وسحب التصريح !
وفى سبيل صورته كما قدمنا بادر إلى اليمن والكونغو وسيناء وهو يعلم تمام العلم بحدود قدرت الجيش وأحواله !
وفى سبيل السلطة سكت عن جبروت عبد الحكيم عامر , وقًبِل ـ وهو الزعيم ـ أن يكون تحت ضرس الجيش بدلا من أن يكون الجيش تحت قيادته , وكل هذا فى سبيل التخوف من قوة عبد الحكيم عامر !
فكيف يقول هيكل بعد ذلك أن هذه الذات المتضخمة ذات تأثير محدود يمكن قبوله فى إطار الضعف الإنسانى ؟!

وفى الحالة الثانية .. يقول هيكل ما معناه أن تصورنا لإمكانية وجود شخص يتمكن من تحييد ذاته فى قضية عامة أمر فوق المنطق ,
فهذا أمر مما يُؤسف له .. وبشدة ,
فهيكل واحد من أعرق المثقفين فى عصره , ويبدو غريبا جدا على ثقافته ألا تتسع لبعض مبادئ الدين الإسلامى التى يحفظها أطفال الكتاتيب عن ظهر قلب ,
وأولها إخلاص النية لله فى كل قول وعمل ,
والقرآن الكريم والسنة النبوية حافلة بعقوبة الرياء أو تزكية النفس لدرجة اعتبارهما من الشرك المحرم , والشرك هو المعصية الوحيدة التى لا يغفر الله لفاعلها ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ,
يقول تعالى :
[إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا] {النساء:48}
والسنة النبوية حافلة بالتحذير من الرياء حتى لو كان بعمل فى سبيل الله ..
ففي الحديث ( تُسعّر ـ أى توقد ـ النار بعالم وشهيد )
أما العالم فقد طلب رياء الناس بعلمه ولم يطلب وجه الله وأما الشهيد فقد قاتل وقتل للسمعة .. فكانت النتيجة أن تم اعتبار عملهما شركا يستوجب أن تستفتح النار حطبها بهم ,
فلهذه الدرجة جاء الإسلام محذرا من داء النفس وفارضا لفضيلة الإخلاص التام الذى لا تشوبه شائبة , وهو الأمر الذى شهدناه فى آلاف التجارب التاريخية لعظماء الإسلام من العلماء والمجاهدين ,
فمعظم هؤلاء النجوم كانوا بعصرهم من آحاد الناس لا يتكلفون أحدا ولا يدعون إلى زعامة ولا يمنون بأفعالهم على أحد , والأجيال التى تلتهم هى التى حفظت سيرتهم وعظمت أفعالهم وجعلت من تلك الأساطير التى نقرأ عنها فى الكتب ,
ليس هذا فقط ..
بل كان هؤلاء العظماء الذين كانت حياتهم لأجل الأمة , ينكرون على الناس أشد الإنكار إذا امتدحهم أحد , ويفرون من المدح كما يفر المرء فى عصرنا هذا من الذم والفضائح ,
وكان أحمد بن حنبل ـ أتقي أهل زمانه ـ يقول :
( وددت لو أن ما معى من العلم وصل للناس ولا يذكرنى أحد بشيئ ! )
فالرجل كان يتمنى من أعماقه أن يفيد الناس بعلمه وأن ينسوا أنه صاحب الفضل فيه ؟!
وهم فى هذا يتتبعون سيرة معلمهم الأول النبي عليه الصلاة والسلام , ولا غرابة ..
إنما الغرابة من قول هيكل أن المطالبة بالإخلاص التام فى أى قضية بعيدا عن مدح الذات أمر ضد المنطق !
عن أى منطق تتحدث يرحمك الله ؟!
وأين غابت عنك هذه الـمُـثل ؟!

رابعا : كان من الظواهر الكاشفة لحقيقة الثوار الجدد , بعض الممارسات التى تسربت للجماهير والإعلام وانتشرت على نطاق واسع تبشر بما يمكن أن ينال مصر على أيديهم ..
فكيف سكتت أو أسكتت الجماهير عن تصرفات صلاح سالم أحد أبرز قادة الثورة بعد أن تسبب هو ومجلسه فى ضياع السودان من مصر فى سبيل التخلص من محمد نجيب !
وكيف غاب عن الجماهير جزاء سنمار الذى نال اللواء نجيب ؟!
وكيف غاب عنهم إجراء مثل ترقية عبد الحكيم عامر من رتبة صاغ ( رائد ) إلى رتبة ( لواء ) دفعة واحدة بشكل غير مسبوق حتى فى الشرطة المدرسية !
وكل هذا ليكون لعبد الناصر قدم ثقة فى قيادة الجيش تمكنه من السيطرة بعد ذلك ؟!
وهذه الترقية الفضيحة كانت أحد أهم أسباب الكوارث الكبري فيما بعد حيث تم تعيين قائد برتبة رائد يقود أقوى جيوش المنطقة رغم أن علمه العسكري توقف عند رتبته الأصلية !
ثم جاء القرار العنترى بإخراج جميع الرتب العليا من القوات المسلحة للتقاعد , فخرج من الجيش كل من كان فى رتبة لواء ليفقد الجيش المصري قادته فى ضربة واحدة , تحت زعم ولائهم للملك رغم أن قيادات الثورة نفسها كانت تتلمس خطى بعض لواءات الجيش وتتعلم من وطنيتهم !
هذا بخلاف الصراع الدامى على السلطة بين أسلحة الجيش والذى دب بين سلاح الفرسان وبقية الأسلحة عندما ثارت أزمة محمد نجيب فى قصة مروعة تحكيها مذكرات خالد محيي الدين ومحمد نجيب وغيرهم ! [2]

خامسا : إهمال الحياة النيابية تماما وفرض العزل السياسي على سائر السياسيين فى عهد ما قبل الثورة دون النظر لوطنيتهم حتى وضعوا زعيم الأمة النحاس باشا رهن الإعتقال فى منزله ! وتم حل جميع الأحزاب ,
أى أنهم فرغوا الجيش من قادته وفرغوا الساحة السياسية من قادتها وأنشئوا هم قيادات جديدة تتشكل منهم كمكافآت على القيام بالثورة والتى أصبحت هى الغاية والنهاية بعد أن كانت وسيلة لتحقيق حياة ديمقراطية ,
فتم إنشاء تنظيم وحيد هو هيئة التحرير والذى تطور فيما بعد للاتحاد القومى ثم الإشتراكى وهلم جرا !
وفى الجيش تم اعتماد سياسة الولاء المطلق كشرط لتولى أماكن القيادة بغض النظر عن الكفاءة فجاء شمس بدران وعلى شفيق وهم من خريجى دفعة 1948 م عام النكبة , وحديثي الرتب جدا ليتولوا هم أمور وزارة الحربية حتى تحققت النكبة الجديدة على أيديهم عام 1967 م !
أما الضباط المحترفون ـ حتى من رجال الثورة أنفسهم ـ فقد تم إخراجهم من الجيش للوظائف المدنية رغم أنهم استمروا فى حيازة الدرجات العلمية فى أرقي المعاهد السوفياتية العسكرية , وبدلا من أن يأتى هؤلاء كقادة لفرق الجيش خرجوا من الخدمة لمناصب تنفيذية مدنية وتولى بدلا منهم القادة المرضيون منعدمى الكفاءة ,
وهذا الملف العامر تحدث عنه طويلا اللواء جمال حماد والذى كان هو بنفسه كاتب البيان الأول للثورة وأحد القادة المؤهلين الذين تم إبعادهم لصالح دفعة شمس بدران التى تولت القيادة فى كافة أفرع القوات المسلحة !![3]
لهذا كان أول إجراء لعبد الناصر ـ بعد النكسة وسقوط عبد الحكم عامر ـ هو إخراج دفعة شمس بدران جميعا من الجيش وإحالتهم للمحاكمة أو التقاعد !
فأين كان هذا الإجراء منذ فضيحة 1956 م والتى أفصحت عن مستوى هؤلاء القادة ؟! .. لا أحد يدرى

سادسا : نظرة واحدة من أى متأمل إلى طبيعة الصراع بين مجلس قيادة الثورة وبين محمد نجيب , ومن زاوية محددة , كان كفيلا يأن يُظهر النية الحقيقية لهذه المجموعة من الضباط ,
وأعنى بالزاوية المحددة موضوع السودان ,
فقد كان كاشفا وموضحا بجلاء سلوك مجلس القيادة الذى رفع فيما بعد شعار الوحدة العربية أن يكون أول أفعاله هو اتخاذ القرار الذى لم يجرؤ سياسي مصري على اتخاذه منذ عام 1923 م , وهو الموافقة على فصل السودان عن مصر ,
بل إن الوحدة العربية ـ التي كانت أحلاما في ذلك الوقت .. وقد ظلت كذلك على أية حال ـ لم يكن لها على أرض الواقع تجربة إلا ما للسودان من ارتباط حقيقي وفاعل بمصر ولا يحتاج إنشاء ,
بل كانت ضمن الإنتماءات الجارفة التي يعرفها ويفهمها السياسيون المصريون ولذلك فشلت جميع المفاوضات مع بريطانيا قبل الثورة بسبب إصرار المفاوضين على التمسك بالقطر السودانى ,
وجاء محمد نجيب ذو الشعبية الهائلة بين أهل السودان , ليصبح الطريق مفروشا بالورود أمام وحدة وادى النيل كما كان تسميها أدبيات تلك الأيام ,
حتى أن محمد نجيب نفسه في مذكراته عن مرحلة حرب 1948 م ,
يذكر لنا واقعة تكشف لنا مدى الإرتباط الذى كان يشعر به الجيش المصري وجماهير الشعب مع السودان باعتباره العمق الإستراتيجى المصري , حيث أن نجيبا أصيب في الحرب ثلاث مرات , وكان منها إصابة فادحة أيقن معها بالموت , فطلب كتابة وصيته , وكان من بين سطورها بالحرف :
( تذكروا يا أبنائي أن أباكم مات بشرف وكانت رغبته الأخيرة أن ينتقم من الهزيمة , ويجاهد لوحدة وادى النيل )

وبعد الثورة ..
ومع التواصل الفعال بين تحالف الأحزاب السودانى بقيادة الأزهرى وبين محمد نجيب كانت الخطى تسرع حثيثة لاستقلال الجمهورية المصرية وجنوبها الطبيعي ,
ثم جاءت واقعة تسليم ملف السودان لأكثر أعضاء مجلس القيادة تطرفا وهوائية وهو صلاح سالم والذي حاول أن يتألف القبائل في السودان عن طريق المال ! فضلا على معاملته الدونية لهم بشكل جلب عليه وعلى مصر غضب السودانيين بشكل حتمى نظرا لاعتزازهم الجنوبي المعهود ,
وجاءت الضربة القاصمة عندما أقيل محمد نجيب وتمت إهانته ـ حتى على مستوى الإعلام ـ بواسطة صلاح سالم وآخرين واتهامه في ذمته المالية واعتقاله في فيلا المرج لتصبح هذه الأحداث هى نقطة الفصل الحقيقية بين مصر والسودان ,
فلم يكن السودان على استعداد للثقة بهؤلاء الشبان بعد ما رأوا جزاء قائدهم أمامهم , وإذا كان هؤلاء الشباب فعلوا هذه الأفاعيل بقائدهم الذى لولاه لما انطلقت الجماهير واثقة خلف الحركة , فما هو المتوقع للسودان في ظل حكمهم ؟!
وبالتالى رفض إسماعيل الأزهرى الإنضمام بعد إسقاط نجيب
وأصبح السودان قطرا منفصلا !! [4]
فكيف غابت هذه الأمثلة وهذه الممارسات الكاشفة عن توغل عميق لمرض السلطة في نفوس هؤلاء الشبان ؟!
وكيف غابت الحكمة العربية القائلة ( وما في الظلم .. مثل تحكم الضعفاء )
والمقصود منها أن الضعيف ـ لضعف بدنه أو قوته ـ عندما يكون تواقا للسلطة وللقوة ولا يجدها فإنه إذا امتلكها بتغير الظروف يصبح أشد ظلما من الفراعنة , وهذا أمر نفسي طبيعى لعقدة الضعف عنده ,
وقد وجد هؤلاء الشباب أنفسهم بين يوم وليلة يملكون البلاد ,
فكيف يمكن أن يستجيبوا لنداء العودة للثكنات ـ بعد أن أدوا واجبهم المفترض ـ ويسلموا حكم البلاد لغيرهم ؟!
بل بلغت بهم الدرجة أثناء الخلاف مع محمد نجيب أن اقترح جمال سالم قتل محمد نجيب والخلاص من صداعه !
فأى دليل أعظم من هذه الظواهر كى تدل على شهوة الحكم المتأصلة في نفوسهم



الهوامش :
[1]ـ مذكرات مراد غالب ـ دراسة بعنوان ( مذكرات اليسار فى عصر اليمين ) ـ محمد الجوادى ـ الهيئة المصرية للكتاب
[2] ـ ملفات ثورة يوليو بشهادة صانعيها ـ محاورات لطارق حبيب ـ مطبوع ـ مركز الأهرام للترجمة والنشر
[3]ـ شهادة جمال حماد عن العصر ـ قناة الجزيرة
[4]ـ مذكرات محمد نجيب ( كنت رئيسا لمصر ) ـ ومذكرات خالد محيي الدين ( والآن أتكلم ) ـ مع شهادة جمال حماد على العصر