الموضوع: قصة النكسة
عرض مشاركة واحدة
قديم 11-29-2010, 11:16 AM
المشاركة 14
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )
لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة ؟!


عندما نحب أن نتقصي فترة الخط الناصري فلا يوجد طريق إلا عبر كتابات الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل ,
وهذا لسبب جوهرى ..
فهو ـ لمن لا يعلم ـ صانع الصياغة الفكرية لثورة يوليو ومؤسس الفكر الناصري ومهندس التحولات الكبري التي جرت في عهد عبد الناصر بلا منازع ,
كما أنه الصانع الحقيقي لبرنامج الثورة عبر مراحله المختلفة وهو الذى تمكن من سد النقص الهائل في الفكر بعد اكتشاف الثوار الجدد أن البلد سقطت في أيديهم كثمرة طازجة ,
فكان هو المؤلف الأصلي لكتاب ( فلسفة الثورة ) والذي تم نشره باسم جمال عبد الناصر واحتوى على بعض القوميات الحماسية التي تشرح فكر عبد الناصر , وهو الأمر الذى جذب النقد اللافت من بعض المفكرين , إذ كيف يشرح أى زعيم برنامجه علنا أمام أعدائه وأصدقائه وكأنما يدعوهم لمعرفة خطه الفكرى ويعاونهم على ذلك !
ولهذا قال توفيق الحكيم أنه في بداية الخمسينيات كانت الجهات التي تتولى توزيع كتاب ( فلسفة الثورة ) في الخارج سفارتان هما السفارة المصرية والسفارة الإسرائيلية ,
وهذه الأخيرة
كانت توزعه لتنبيه الغرب الأوربي أن زعيما جديدا من طراز هتلر قد ظهر في الشرق ! [1]
كما كان هيكل هو مؤلف وصانع ( الميثاق ) وهو بمثابة قرآن الإشتراكيين الجدد , كذلك كان هيكل هو صائغ بيان 30 مارس الذى خرج به عبد الناصر على الشعب عقب النكسة !
كذلك كان هيكل هو كاتب خطب سائر خطب الرئيس عبد الناصر , وصانع توجهاته السياسية بلا مبالغة , وأخيرا كان هو المهندس الإعلامى لشخصية عبد الناصر وصانع هالته الأسطورية في العالم

ولأستاذنا الكبير هيكل كتاب عن ثورة يوليو بعنوان ( سقوط نظام ـ لماذا كانت ثورة يوليو لازمة ) وهو الكتاب الذى تأخر عن موعده قرابة الخمسين عاما !
كتب فيه الأستاذ مبررات قيام الثورة ودمغ كتابه كعادته بالوثائق اللازمة للبحث والذي ينتهى بالقارئ إلى إدراك أوضاع مصر في تلك الفترة الحرجة التي سبقت قيام الثورة واتسمت باضطراب وعدم استقرار الحكم ,
ولا يصل الكتاب لتقييم التجربة , بل اكتفي الأستاذ هيكل بالوقوف عند نقطة البداية , وكنا نطمح منه أن نرى منه التقييم المنطقي للتجربة ونتائجها , لا سيما وأن كتابه عن النكسة وحرب السويس كان معالجة للأحداث بأكثر مما هو نقد تقييمى
والذين يكتبون عن بدايات يوليو عامة يتلاشون أخطائها أو أكبر أخطائها ويركزون على ما يعتبرونه انجازا يسمح باعتبار قيام ثورة يوليو العسكرية نقطة تحول إيجابية في حياة هذا الوطن المكدود ,

لكن فاتهم جميعا نقطتان ,
وهما كفيلتان بقلب الميزان لنصل إلى الحكم الصحيح وهو أن السلبيات طمست أى معالم تبدو للإيجابيات مهما كانت في عيون أصحابها إنجازا ,
ذلك أن النتائج السياسية والإجتماعية والإقتصادية والفكرية لنظام يوليو ـ المستمر إلى يومنا هذا بصبغة الحكم العسكري ـ تعتبر تحولات نزعت العالم العربي من موضع التأثير في العالم لتدفعه إلى موضع التأثر من طوب الأرض !
ومن ثم ..
فالذى يكتب عن أحداث ما قبل الثورة ويقف عند نقطة الإنجاز المتمثلة في إنهاء عصر الإضطراب السياسي , لا شك أن معالجته تفتقر إلى الموضوعية تماما ,
ذلك أن العبرة بالخواتيم ..
فربما صلحت البدايات .. ولكن العبرة بالنهايات ..
فطالب العلم يُحاسب على ما تضمنته ورقة إجابته من إجابات صحيحة , لا على جهده في الإستذكار طيلة العام !
ولهذا فالحديث عن تأميم القناة وبناء السد العالى والمن بهما على الأمة في مقابل سكوتها عن الآثار الفادحة التي خلفتها الثورة , يعتبر حديثا يليق بمعتنقي الخيال وعُبّاد الأشخاص لا مفكرى الشعوب
ذلك أن المقابل كان أكبر مما يحتمله أى شعب وأغلى من أى انجاز ,
ومن غريب الأمور ..
أن أستاذنا الكبير هيكل ـ على عادته ـ عند الحديث عن أنظمة ما بعد عبد الناصر يُـغفل المقارنة والصلة بين العصور المتوالية المترابطة
فقد وقف مثلا وقفة صحيحة لمحاولة منافقي العصر الحالى تصوير حرب أكتوبر على أنها كانت متمثلة في الضربة الجوية وحسب واعتبارها هى مفتاح النصر أو النصر كله لمجرد أن مبارك كان قائد الطيران في حرب أكتوبر !
وعلق هيكل بأن هذا اختزال للأحداث فضلا على أنه لا يمثل أى فضل , لأن ضربة الطيران مهما بلغت براعتها لا تعدو كونها تنفيذا محكما لأداء وظيفي !
أداء واجب وظيفي حتمى لا يُشكر مؤديه بينما يُلام المقصر فيه ,
وهذه بلا شك هى طبائع الأشياء ,

لكن الكارثة أن الأستاذ هيكل يتجاهل هذا المقياس عند تقييم الثورة والفترة الناصرية ,
فليت أنه اكتفي بعزو كل إنجاز لشخص عبد الناصر , بل إنه تكفل بإختراع بعض الإنجازات للعهد الناصري عن طريق اقتلاع وصف الإنجاز وسحبه على تصرفات كارثية مثل حرب اليمن وقوانين الإصلاح الزراعى وغيرها
أما بقية منجزات العصر..
فتأميم القناة وبناء السد العالى وحفظ حقوق مصر الإقتصادية كلها ـ وفق مقياس هيكل الأول ـ واجبات لازمة على نظام الحكم في أى مرحلة , فإن أداها على أكمل وجه فقد أدى واجبه وإن قصر فيها فليس له عذر أو اعتذار ,
وبالتالى ليس من المنطق في شيئ أبدا أن يكون الرد على انتقاد نظام يوليو مشفوعا بالمن في قناة السويس أو بناء السد العالى ,
فمصر لن تموت لو أن السد العالى لم يبن أو أن القناة لم يتم تأميمها ,
لكنها ماتت بالفعل في نكسة يونيو بضياع ثلث أراضيها وشرف جيشها العسكري , وماتت بتغيير التركيبة الإجتماعية وترسيخ حكم الفرد وقتل المعارضين في المعتقلات والسجن الحربي وتحكم زمرة لا تزيد عن العشرات في مصير البلاد والعباد
وماتت إلى اليوم إرادة التغيير والتبادل السلمى للسلطة ـ بسبب ما أرسته فترة العسكريين ـ وأصبح الحديث عن تبادل للسلطة في عصرنا الحالى ضرب من ضروب الخيال كالحديث عن الغول والعنقاء والخل الوفي !
وهذه وحدها تكفي ..

فالعبرة ـ كما قلنا ـ للحكم على أى تجربة بالفشل أو النجاح إنما يكون بالنظر إلى النهايات ,
فلن تجد أحدا في العالم يذكر هتلر ولا يستدعى إلى الذاكرة سقوط برلين في يد الحلفاء !
ولو أن ألمانيا قام بتمجيد هتلر اعتمادا على أنه غزا فرنسا فسيتهمونه بالجنون حتما لأن غزو فرنسا لم يكن نهاية المطاف بل كانت نهاية المطاف سقوط ألمانيا نفسها وتدميرها وانتحار هتلر !
كذلك لن تجد من يذكر نابليون ولا يستدعى للذاكرة معركة ووترلو ,
بينما بالعكس ,
لن تجد أحدا يستدعى للذاكرة ونستون تشرشل إلا ويذكر معه نصر بريطانيا في الحرب العالمية الثانية رغم دمارها الماحق بفعل الطيران الألمانى طيلة أعوام الحرب
ولن تجد بريطانيا ينتقد تشرشل لأن بداياته كانت بالهزيمة والانسحاب من فرنسا .. فالعبرة بالخاتمة ,
وبالمثل ..
كيف يمكن أن يُذكر عبد الناصر دون أن تذكر معه نكسة يونيو !
وكيف يمكن أن يذكر عبد الناصر دون أن يذكر معه الظروف الضاغطة التي خلفتها فترة حكمه حتى يومنا هذا ؟!
فالأمر لم يقتصر على الهزيمة العسكرية المروعة , بل كانت الهزيمة العسكرية أهون الكوارث كما سنرى ..
فالهزيمة تم ردها بنصر عسكري مؤزر ـ وللغرابة أن الناصريين يشككون فيه لمجرد أن عبد الناصر لم يشهده ـ ولكن ماذا عن بقية العوامل التي تسببت في النكسة ,
هل انتهت من البلاد ؟!
ولو لم يكن للنكسة ونظامها غير جريمة تحويل المجتمع المصري فكريا وإعادة تدوير العقول لتصبح كعقول السائمة .. لكفي

إذا تأملنا مصر اليوم في ظل تجربة يوليو ,
سنجد أن السلبية الوحيدة التي ارتفعت هى رد الأرض المحتلة باسترداد سيناء ,
وحتى هذا الإنجاز لم يتم على يد عبد الناصر أو الناصريين أو العهد الإشتراكى بل تم في عهد السادات ألد أعدائهم
لكن حكم الفرد لا زال قائما لليوم وتتحرك جموع الشعب بشتى أنواع التحرك السلمى بلا فائدة ,
ولا زالت مظهرية الأحزاب وهشاشتها تعكس واقعا سياسيا رديئا لم تفلح الأصباغ في تجميله ,
ولا زالت البلاد تحت حكم عصبة من نفر معدود لا تتجاوز نسبتهم خمسة بالمائة والباقي تحت خط الفقر
ولا زال القرار يؤخذ في غيبة المؤسسات الدستورية التي تعمل كخاتم اعتماد فقط لقرارات مسبقة ,
ولا زال هناك حزب واحد يسيطر على مقاليد الأمور دون منازعة أو أمل في منازعة ,
ولا زالت صحف الدولة تعمل كدوائر حكومية تابعة للسلطة تلف وتدور حولها .. وتتحدث عن إنجازات تبدو لنا كالفيروسات لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة ,
ومصر في البيانات الحكومية الرسمية تجعل المرء يظن أنها أقوى اقتصادا من الولايات المتحدة !!
فأين هذه المظاهر مما بشرت به الثورة من إقامة عدالة إجتماعية أو إقامة نظام ديمقراطى ؟!
وربما قال قائل أن هذه التغيرات سببها السادات وسياسته , ونحب أن نذكر القائل بهذا أن هذه المظاهر جميعا كانت بأفدح صورة في عصر عبد الناصر ,


الهوامش :
[1] ـ عودة الوعى ـ توفيق الحكيم ـ دار الشروق