الموضوع: قصة النكسة
عرض مشاركة واحدة
قديم 11-21-2010, 09:48 PM
المشاركة 13
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
حادى عشر : كانت مصر في ذلك العهد أيضا هى صاحبة السبق في صك تعبير ( أهل الثقة وأهل الخبرة ) ..
ولهذا صعد إلى سدة الحكم أشباه البشر من أمثال عبد الحكيم عامر وشمس بدران وسامى شرف وعلى شفيق وغيرهم من أذاقوا الشعب الويلات ,
ولأن النظام الإشتراكى بطبيعته ضد العقل الإنسانى على طول الخط ,
ولأنه نظام قائم على تحييد المبادئ الدينية , فقد صدرت من هؤلاء الثوار تصرفات أثناء توليهم المسئولية تجعل المرء في حيرة كيف تمكنت هذه العصابة من السيطرة على مقدرات مصر والشعب العربي !
ولأن مجموعة السلطة بطبيعتها مجموعة طفيلية منعدمة الفكر والتفكير , فقد كانوا ظلالا للنظام ممثلا في عبد الحكيم عامر وجمال عبد الناصر ,
وأصبح لكل منهما مجموعته ونفوذه ,
وهما المجموعتان اللتان دخلتا في صراع مرير على السلطة والنفوذ عانى منه الجيش والشعب معا , وتم إبعاد أهل الخبرة في جميع المجالات لصالح أصحاب الوساطة والمحسوبية , على النحو الذى أدى إلى مهزلة يونيو 67 عندما دخلت مصر الحرب وعلى رأس قيادة الجيش فيها مجموعة أقل ما يقال عنها أنهم من خريجى مستشفي الأمراض النفسية !
واستغل عبد الناصر واقعة النكسة ليتمكن أخيرا من إزاحة عبد الحكيم عامر ومجموعته بعد أن استعصت عليه طويلا منذ عام 1962 م نظرا لقوتها واستنادها إلى الجيش
وهكذا جنت مجموعة عبد الناصر المتمثلة في ( سامى شرف ـ شعراوى جمعة ـ محمد فائق ـ على صبري ـ محمد فوزى ) أكبر المكاسب بوقوع النكسة , إذ تضاعف نفوذهم وسيطروا على أجهزة الدولة سيطرة تامة ,
لا سيما بعد أن تكفل عبد الناصر بفضح عبد الحكيم عامر ومجموعته وسماهم ( دولة المخابرات ) وحملهم مسئولية النكسة ليخرج منها سالما ,
وكأنى بعبد الناصر كان يخاطب قطيعا من الغنم لن يسأل فيه أحد سؤال منطقي مؤداه ,
إذا كان هؤلاء هم رموز دولة المخابرات فأين كنت أنت يا زعيم الأمة !
وإذا كان هؤلاء جميعا ـ بحكم الوظيفة ـ تحت رياستك , فكيف ساغ لك تحمليهم المسئولية دونك !

ولأن النظام الإشتراكى ـ كما قلنا ـ نظام ضد العقل ,
فكان من الطبيعى أن تكون المجموعات قرينة السلطة منعدمة الموهبة والكفاءة في أى مجال ,
إلا أن مجموعة عبد الناصر التي كانت تحكم مصر فاقت جميع التوقعات في هذا الصدد !
وظهر هذا واضحا عندما اختلفوا ,
وعندما يختلف اللصوص يظهر المسروق على الفور ,
ولهذا ما كان لنا ولا لغيرنا أن يعرف شيئا من فضائح هذا العهد ـ بسبب التكتم الشديد والسيطرة المطلقة ـ لولا أن تكفل أصحاب هذا العهد نفسه بفضح بعضهم البعض في مراحل صراعاتهم على السلطة
فقد تولى عبد الناصر كشف حكومة المخابرات التي حكم بها عبد الحكيم عامر البلاد وأشاع فيها الفساد في كل مكان , وتولت صراعات مراكز القوى في كشف بعضهم البعض فتسببت مجموعة شعراوى جمعة وسامى شرف ومحمد فوزى بكشف على صبري , ثم جاء السادات ففضح ممارسات مجموعة الثلاثي المرح !
ثم تكفل السادت نفسه بإتاحة الفرصة لكشف عصر عبد الناصر كله عبر كتابات الضحايا
ثم جاء محمد حسنين هيكل فكشف فضائح عهد السادات بكتابه ( خريف الغضب ) ..
وهكذا مضت الدائرة الجهنمية لتظهر الصورة الكاملة لنظام ثورة يوليو ..
ورغم ظهورها إلا أن الناس لا تقرأ ولا تستوعب !

وعودة إلى مجموعة على صبري ورفاقه من أباطرة الحكم الناصري والذي قلنا أنها تفوقت على نفسها في حماقة الأداء وتسرعه فعندما دخلت المجموعة صراعا مع السادات على السلطة تآمرت عليه بهدف إزاحته ,
فإنها لم تستطع الإستفادة من عوامل القوة الرهيبة التي كانت تتيح لها الإطاحة بالسادات بغمضة عين , ومنحت الفرصة للسادات على طبق من ذهب لكى يطيح بهم دفعة واحدة إلى غياهب السجون جنبا إلى جنب مع ضحايا العهد الناصري
فقد كانت المجموعة ـ للغرابة ـ تمتلك الجيش ممثلا في الفريق أول محمد فوزى وزير الدفاع , وتمتلك التنظيم السياسي الوحيد في البلاد ممثلا في على صبري أمين اللجنة المركزية , وتمتلك الشرطة ممثلة في وزير الداخلية شعراوى جمعة , وتمتلك الحرس الجمهورى وشئون معلومات الرياسة ممثلة في سامى شرف وزير الدولة لشئون الرياسة , وتمتلك وزارة الإعلام ممثلة في محمد فائق وزير الإعلام , وتمتلك جهاز المخابرات العامة ممثلا في اللواء أحمد كامل مدير المخابرات !
أى أن السادات ببساطة لم يكن يمتلك من السلطة أو يمارسها في الدولة إلى على زوجته !

ورغم هذا وعندما فكرت المجموعة في الإنقلاب على السادات , وبدلا من اعتقاله أو عزله ـ وكان هذا متاحا ـ دخلوا مع السادات في مواجهة شعبية وأرادوا أن يحرجوه بطريقة ساذجة عندما قدموا جميعا استقالاتهم في وقت واحد ,
وكانوا يهدفون من وراء ذلك إلى إحداث انقلاب دستورى في البلاد ينجم عنه ثورة للجماهير !!!

وبالقطع كانت عقول هؤلاء الزمرة في إجازة دائمة !
فقد صدقوا أنفسهم وظنوا أنهم بالفعل في دولة دستورية يمكن أن تهتز باستقالة كبار المسئولين , لكن دافعهم إلى هذا التصرف كان بسبب محدودية التفكير المطلقة التي كانت تتحكم فيها ,
فجميعهم تعود أن يعيش في ظل عبد الناصر ولهذا لجئوا إلى تكرار ما ظنوه الطريقة المجربة , وقدموا استقالاتهم على أمل أن الشعب سيخرج للهتاف بعودتهم كما فعل مع عبد الناصر في خطاب التنحى !
وبالطبع انتهز السادات الفرصة ووقوف هيكل إلى جواره وقام باستمالة قائد الحرس الجمهورى الفريق الليثي ناصف والفريق محمد صادق رئيس أركان حرب القوات المسلحة وتمكن من اعتقالهم جميعا ثم أعلن في مجلس الشعب بطريقة سياسية ماكرة ما سماه بحكم مراكز القوى وقام بفضح ملفاتهم جميعا في خطاب علنى ليخرج السادات منتصرا في هذه الجولة , [1]
فقد كان صاحب دهاء سياسي متمرس وتمكن من الحفاظ على عقله وطموحاته في عصر عبد الناصر عن طريق الصبر والصمت والطاعة العمياء حتى حانت اللحظة المناسبة ليكشف عن وجهه الحقيقي !

والسؤال أو الهدف من هذه القصة هو معرفة سبب الغباء اللامحدود الذى تصرفت به مجموعة مراكز القوى , والسبب يقع في المقام الأول أنهم كانوا تلاميذ مرحلة الإشتراكية !
والمرء يكفيه أن يكون اشتراكيا في الصباح لكى لا يأتى عليه المساء إلا ومصاب بالحماقة
فكانوا مفرغين عقليا تماما من القدرة على التصرف المنفرد , ولهذا جاءت وفاة عبد الناصر ضربة قاضية كادت تطيح بعقولهم ووجهتهم بعد ذلك إلى تصرف لا يرتكبه إلا القرويون السذج ,
وقد كشفت تحقيقات النيابة العامة في قضية مجموعة 15 مايو أن سامى شرف ومحمد فوزى وشعراوى جمعة كانوا يحضرون بانتظام جلسات تحضير أرواح يقوم بها وسيط روحانى يقوم بتحضير روح عبد الناصر لكى يسألها المجموعة كيف يتصرفون وعلى أى وجه يتعاملون مع الأحدث !!
ولك الله يا مصر !
فهؤلاء الذين يفعلون ذلك هم أعمدة وأركان الحكم في مصر بتلك الفترة , ومن يطالع محاضر التحقيقات التي احتوت على تفريغ لأشرطة التسجيل التي تمت لجلسات تحضير الأرواح يصاب بالذهول مما يسمع ,
لأن التسجيلات توضح بشكل قاطع أن هذه المجموعة كانت مبرمجة بوجود عبد الناصر وغير قادرة على استيعاب رحيله
فعلى سبيل المثال كان الفريق أول محمد فوزى وزير الدفاع في تلك الفترة والقائد العام للقوات المسلحة والذي من المفروض أن يعد الجيش لقيادته في معركة التحرير يسأل الروح بعد أن حضرت فيقول : [2]
( هل خطة الحرب التي وضعتها بذهنى صالحة للمعركة وما هو التوقيت المناسب لها !! )
ولنا أن نتخيل أى مصير كان ينتظر الجيش المصري لو تولى قيادته في حرب أكتوبر الفريق محمد فوزى !!!
ومن عجائب التصرفات حقيقة أن هيكل كان أحد المصادر التي فضحت حكاية تحضير الأرواح نظرا لأنه وقف مع السادات ضد مجموعة مراكز القوى وكان هذا في بداية تضامنه مع السادات في بداية حكمه قبل أن ينقلبا على بعضهما البعض في عام 1974 م ,
وداعى الدهشة هنا ..
أن هيكل لم ينتبه أن يفضح عبد الناصر بفضح رموز عهده بهذا الكلام ,
ولم ينتبه لهيكل لذلك وهو يحاول أن يبرئ عبد الناصر بطريقة بالغة السذاجة عن طريق الطعن في رموز الحكم في عهده سواء مجموعة عبد الحكيم عامر أو مجموعة على صبري ,
إذ كيف كان عبد الناصر بريئا وهؤلاء جميعا من أركان حكمه ,
فإما أنه كان رئيسا بالإسم , ( وهذا صحيح بالنسبة لموقف مجموعة عبد الحكيم عامر إذ لم يملك عبد الناصر سلطانا فعليا للخلاص منهم )
وإما أنه كان متواطئا وعارفا وسامحا بهذه التجاوزات في نظير ولاء هذه المجوعة له وضمانه بعدم خيانتهم له , ( وهذا ما تحقق أيضا في حالة مجموعة على صبري التي كان يطمئن لها عبد الناصر واستمرت تحكم البلاد حتى وفاته )
وعليه ..
فإن النظام الإشتراكى القومى العسكري في مصر , تمكن من إحداث تغييرات إجتماعية وسياسية وأخلاقية رهيبة في المجتمع , وتحول المجتمع بكل صنوفه إلى نوع من مضحكى السلاطين وشاع النفاق السياسي لدرجة مرعبة ,
وفرغت الساحة تماما من ذوى العقول وأهل الخبرة لصالح أركان النظام الحاكم
ومع شيوع النفاق والقهر بالمقابل ..
ضاعت الإرادة وضاعت معها الأخلاق , فالأخلاق لا تتجزأ ,
وعاشت مصر في ظل هذا العصر رهينة في يد أبنائها , حتى أفاقت على نكسة مروعة ,
نكسة لم تكن في صورتها الواضحة هزيمة عسكرية أو سياسية فحسب ,
بل كانت النتيجة الطبيعية للخيار الإنقلابي الذى فرضته ثورة يوليو وتوجهات القومية والإشتراكية ,
وهذه هى الأسباب الأصلية والرئيسية التي تنبنى عليها أحداث النكسة ,
لأنه من السطحية الشديدة أن نظن بأسباب النكسة مجرد أسباب عسكرية أو تفوق نوعى للعدو ,
وهذه الأسباب والإدراك الكامل لخبايا الصراع بيننا وبين الغرب , هى الأصول الواجب مراعاتها عند معالجة وقراءة أحداث النكسة , وأحداث حرب أكتوبر 1973 م
فلولا أن النظام المصري في هذا العهد كان على هذه الشاكلة لما حدثت النكسة بهذا الشكل المروع ,
وهو ما أفصحت عنه أحداث وتفاصيل يوميات النكسة نفسها ,
فإسرائيل ـ في أصل خطتها ـ ما كانت تطمح أو تظن بنفسها القدرة على اجتياح سيناء كلها بلا مقاومة , بل كانت الخطة مقصورة على الوصول للمضايق والسيطرة على شرم الشيخ
لكنها فوجئت بالإنهيار المزرى للجيش وانسحابه الفوضوى جريا إلى القناة فأتمت احتلال سيناء !
ولم يكن بظنها ولا ضمن خطتها أن تُتم تدمير الجيش المصري وتسليحه في مثل هذا الوقت القياسي ولهذا وجدت في نفسها القدرة والكفاءة لاجتياح الجولان السورية أيضا رغم أن الجولان لم تكن في الخطة أصلا وصدر قرار وقف إطلاق النار يوم 9 يونيو والجولان بعيدة عن الأحداث ,
حتى أصدر موشي ديان أمره باقتحام الجولان لتتم القوات الإسرائيلية احتلالها في 24 ساعة ,
وفى الجانب الأردنى استولت إسرائيل على الضفة الغربية بلا خسائر تقريبا وبنفس الطريقة !!
في نفس الوقت الذى كانت الجرائد المصرية الكبري ـ بوق النظام ـ وإذاعة صوت العرب الشهيرة تبث طيلة الأيام من 5 إلى 9 يونيو بيانات خيالية عن المعارك الضارية التي تخوضها الجيوش العربية الموحدة تحت قيادتها القومية الرشيدة !
وظهرت عناوين الأخبار والأهرام والجمهورية تقول ( إنه يوم التضامن العربي والقومية العربية )
وأسقطت البيانات من الطائرات الإسرائيلية أسرابا وأسرابا !!
حتى ظنت الجماهير أن القوات المصرية على أبواب تل أبيب كما كانت تبشرها دعاية نظام عبد الناصر والإتحاد الإشتراكى الذى ملأ الشوارع في القاهرة والمحافظات بلافتات كثيفة تبشر بالنصر المنتظر وتقول :
( عند العقبة .. قطع الرقبة ) و ( حنحارب .. حنحارب ) و ( إلى تل أبيب .. ) و ..... الخ

ولهذا نقول أن الإنجاز الإسرائيلي لا يُحتسب لتفوقه بل يُحتسب في الأصل للحالة المزرية التي وصلت إليها المنطقة العربية تحت قيادة النعرات القومية ,
وكانت الصدمة بشعة .. بل بالغة البشاعة على المجتمع العربي الذى هانت فيه بوقوع النكسة .. كل القيم ,
فعندما اكتشفت الجماهير الكذبة الكبري التي عاشتها طيلة هذه الأعوام ..
كان من الطبيعى أن تهون كل القيم وتسقط كل المبادئ وتصبح الشعارات الزائفة دليلا قاطعا على زيف الحياة بأكملها ,
وتحول المجتمع تحولا أخلاقيا بالغ الخطورة عندما انتشر بين الناس يقين دامغ أن كل من يدعى المبادئ والأخلاق والنضال والصمود والتصدى .. هو باهت كاذب مدعى ,
وهذه ردة فعل طبيعى تطبيقا للمثل المصري الشائع ( اللى اتلسع من النار .. ينفخ في الزبادى )
ومع غياب القيم الدينية التي كانت تُعلى قيم الصدق وعدم اتخاذ فساد المجتمع ذريعة لممارسة الفساد ,
عمت أزمة الأخلاق مصر والعالم العربي بعد نكسة يونيو التي لا زالت آثارها باقية حتى يومنا هذا !


وللحديث بقية


الهوامش :
[1] ـ خريف الغضب ـ محمد حسنين هيكل ـ الطبعة المصرية الكاملة للأهرام
[2]ـ لمطالعة محاضر التحقيق يرجى مراجعة كتاب ( الحكومة الخفية )ـ اللواء جمال حماد ـ دار الزهراء للإعلام