كيف نقرأ أكتوبر قراءة جديدة ؟ حديثي هنا في هذا الفصل شديد الخصوصية .. لأنه حديث قراءة لأكتوبر , وذلك بعد أتممنا القراءة ـ في الفصول السابقة ـ عن أكتوبر , والقراءة عن التاريخ شيئ .. وقراءة التاريخ شيئ آخر فالأولى وسيلة .. والثانية هى الغاية , ذلك أن القراءة عن التاريخ معناها معرفة الأحداث والوقائع , وقراءة التاريخ معناها أخذ العبرة والتجربة وتطبيق النتائج على الحاضر وفى التحضير للمستقبل , ومن مشكلاتنا الكبري ـ إن لم تكن هى أكبر مشكلة ـ أننا لا نقرأ عن التاريخ أو نقرؤه , وإذا فعلنا وقرأنا عن التاريخ فلا نطبق النتيجة التي توصلنا للغاية وهى قراءة التاريخ , فكان أن تعودنا على النظر إلى التاريخ باعتباره قصصا مسلية لا نلبث أن نطوي صفحاتها ونطفئ الأنوار .. ونذهب للنوم ! وحديثي هنا إلى ذلك الجيل المستقل الذى وُلد في السبعينيات من القرن العشرين , أى أن ولادته كانت في معمعة الأحداث المجيدة التي نفذها جيل الشباب في السبعينيات , ذلك أن العلاقة بينهما وثيقة , فالجيل المستقل الذى أصبح شبابه اليوم بين أعمار الثلاثين والأربعين من المفروض أن وعيهم قد إكتمل , ومضي زمن التقليد وحان وقت العطاء الفكرى , ولابد لهذا الجيل أن يعيد قراءة التاريخ المعاصر قراءة جديدة تبتعد تماما عن قراءات جيل المفكرين الذين عاصروا أبطال أكتوبر وكتبوا عنهم ولهم , ذلك أن جيل السبعينيات بقدر ما كان عظيما في بطولات شبابه الذين بذلوا الدم وحققوا المعجزة , بقدر ما كان الجيل السياسي والفكرى أصغر من هذا الحدث , وتسبب بكتاباته في تشويه الصورة الحقيقية لأكتوبر تحت مبرر الصراعات والإنتماءات الأيديولوجية , وانقسم الناس في عصورهم إلى ناصريين قوميين وساداتيين , واشتعلت المعارك بينهما وكل منهما يهاجم الطرف الآخر عن طريق مهاجمة رموزه , فعمد أنصار السادات إلى تشويه دعاة القومية والمرحلة الناصرية وعمد أنصار القومية إلى اتهام السادات بخيانة الثورة والقضية العربية , وفى ظل التراشق المتبادل والعداء المستحكم تورط مفكرو الجانبين في خطايا أعمت الأجيال المعاصرة لهم وقسمتهم إلى فريقين متصارعين تحت تأثير الأهواء بغض النظر عن الرسالة والهدف أما الجيل الذى نتحدث عنه وإليه اليوم , فهو الجيل المستقل الذى تشكل وعيه في فترة لم تشهد هذه الصراعات الفارغة وأصبح هذا الجيل ومفكروه في حاجة إلى النظرة الواقعية البعيدة عن التمييز إلى نظرية ( ضد أو مع ) وبالتالى أصبحوا في أمس الحاجة إلى تحليل جديد للوقائع والأحداث تحليل يبتعد تماما عن تحليلات الجبهات المتصارعة التي شوهت النصر وجمّلت الهزيمة في سبيل الإنتصار للأشخاص ويكفي أن كبار مفكرينا من الجيل المتصارع في السبعينات أورثوا الأمة تناقضات بلا نهاية , كما ضربوا عرض الحائط بمنجزات لابد للأمة أن تقف عليها وعندها لأنها منجزات للأمة لا للرؤساء , فحرب أكتوبر لم يصنعها السادات أو حافظ الأسد , بل صنعها شباب القوات المسلحة على الجسور وحققوا بها الإنتصار المذهل الذى أعاد للأمة كرامتها , وأثبت قدرتها على الدخول في مواجهة عسكرية مع قوة باطشة .. والإنتصار عليها أيضا وتلك في حد ذاتها أكبر هدف جاءت به معركة أكتوبر وحققته لكن الناصريون شنعوا على انتصار أكتوبر لمجرد أن السادات كان قائده , والساداتيون شوهوا صورة عبد الناصر واتهموا الثورة الوطنية بأنها عميلة للمخابرات المركزية , دون أن ينتبه الطرفان لحقيقة مضحكة , أن منتقدى السادات المتبرئين منه من الناصريين , ينسون أن السادات إفراز طبيعى لتجربة عبد الناصر وهو الذى جعل من السادات نائبا وحيدا له , بل وكان محمد حسنين هيكل ـ أشرس منتقدى السادات فيما بعد ـ هو الذى ثبّت أقدام السادات في الحكم في عملية مراكز القوى عندما تفجر الصراع بينه وبين رموز عهد عبد الناصر , وينسي الساداتيون أن السادات كان رمزا من رموز الحكم أيام عبد الناصر , وأحد كبار المنافقين له في كتبه التي نشرها في حياة عبد الناصر وتبرأ منها فيما بعد , مثل كتاب ( قصة الثورة ) أو كتاب ( يا ولدى .. هذا عمك جمال ) !! وأى انتقادات ساقها أنصار السادات لعبد الناصر فللسادات نصيب وكفل منها دون شك لأنه كان رئيسا للمجلس التشريعى في عهد عبد الناصر ونائبا ـ فيما بعد ـ لرئيس الجمهورية , فأصبح حال الطرفين ينطبق عليه المثل القائل ( إذا اختلف اللصوص .. ظهر المسروق ) وقد اختلف لصوص القومية فظهرت فضائح العهدين بأيديهم لا بأيدينا نحن الأجيال المعاصرة ! فالتيار القومى يحاول أن يتبرأ من السادات باعتبار أنه عدو المنهج القومى والناصري ! ويطالبون الأجيال التالية لهم بترديد هذه المقولة بلا عقل ! وكأنه نحن الذين أتينا بالسادات فوضعناه رئيسا لمصر قبل حتى أن نُولد ! السادات كان وسيظل ابنا شرعيا لثورة يوليو ولتيار القومية , وقد نسي القوميون أنهم هم الذين منحوا السادات خيوط الغزل التي غزل بها سياسته , وذلك أنهم ابتدعوا النظم القومية ونقلوها عن النظم الشيوعية بمسمى عربي وهو الإشتراكية وأهملوا ثوابت الأمة وتاريخها واعتبروا التاريخ الإسلامى كهفا من الماضي ونادوا بالجنس العربي منهجا بدلا من الدين الإسلامى رابطا , فمشي السادات على نفس الدرب واختار القومية , غير أنه اختارها بمفهومها الضيق وجعل من مصر مبدأ ومنتهى سياسته وفصل نفسه عن تيار القومية العربي بعد أن دفعت ثمنه غاليا من دماء شبابها ومن أراضيها ثم وُصمت بالخيانة في نهاية الأمر وهى التي ما خاضت حربا في الصراع العربي الإسرائيلي إلا لأجل الدافع القومى ! فسياسة السادات إفراز طبيعى للقومية العنصرية التي تخالف ما نشأت عليه أمة الإسلام , ولأنها أهملت الدين ووضعته في بوتقة المتاحف , فقد غاب عنها أهم ما كان يميز المسلمين ويعطيهم التفوق ألا وهو الإخلاص لله في كل قول وفعل , والصدق مع النفس والتصرف وفق الإمكانيات المتاحة فجاء القوميون ليبحثوا عن الزعامة الشخصية , وغاب الإخلاص نهائيا مع الحرب التي أعلنوها على التوجه الإسلامى وازدحمت ساحة القوميين في الستينات والخمسينات بالرجولة المظهرية التي نراها في شعارات تلك الفترة والتى لم تكن مبنية على أساس واقعى , والتى أدت في النهاية إلى هزيمة يونيو 67