عرض مشاركة واحدة
قديم 10-23-2010, 06:47 PM
المشاركة 19
خالدة بنت أحمد باجنيد
شاعـرة وناقـدة سعـودية
  • غير موجود
افتراضي
** في حدود النقد الأدبي:
يتوجّه النقد الحديث دائبًا إلى التحوّل من فاعليّة تابعة للأدب، إلى فاعليّة ذات استقلال ومنطق خاص غير منسلخ عن المنطق الخاص بالأدب، ولكنّه غير تابع له بالضرورة، ويتّضح هذا التوجّه في تيّار (النقد الجديد New Criticism) الذي بدأ يفرض نفسه منذ عشرينات هذا القرن باختلاف دعاته ومذاهبهم، ولكنّ هذا التوجّه ينطوي على معضلة كبيرة هي أنّه كلّما ازدادت الدعوة للاستقلاليّة في النقد، ازدادت تبعًا علاقة النقد بفروع المعرفة الأخرى، كعلم النفس وعلم الجمال والفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع، ممّا يوحي بالتعارض مع فكرة الاستقلاليّة ليتحوّل النقد إلى فاعليّة ممزّقة بين الأدب ومعطيات تلك المعارف والعلوم.

ومع هذه التوجّهات المختلفة للنقد يصبح من الصعب التوصّل لتعريف جامع مانع، لأن لكلّ اتجاه نقدي نواح تتناسب معه وتختلف مع غيره، ولعلّ التعريف التوفيقي المقارب هو: "النقد الأدبي هو فعاليّة فكريّة ذوقيّة نستطيع بواسطتها فهم المسائل الأدبيّة وتفسير الأعمال الأدبيّة وتحليلها وإصدار أحكام مناسبة بشأنها".

ولكلّ منهج نقدي إسهاماته على تفاوتها، وعلى الرغم من أنّ بعضها يميل إلى أحاديّة النظرة فإنّها بمجموعها استطاعت أن تسلّط أضواء نافذة وعميقة أغنت التراث الأدبي الإنساني، كما ساعدت اكتشافات مستمرة لهذا التراث، فأصبح بفضلها هذا التراث حيًّ متجدّدًا، فمثلاً:

· المنهج الأخلاقي أعطى الكثير في مجال ربط التجربة الأدبيّة بالمصير الميتافيزيقي للإنسان، أو بكفاحه ضمن الظروف الاجتماعيّة، ولكنّه أسرف إسرافًا شديدًا في التركيز على المضمون دون الشكل.

· المنهج النفسي أتاح لنا فرضة التعمّق في فهم عمليّة الخلق الفنّي وأسلوب الشعراء في التعبير عن الانفعالات والتجارب الداخليّة، لكنّه مال إلى إهمال الطبيعة الفنيّة للنصوص، وقدّم النتاج الأدبي على أنّه وليد أعراض عصبيّة وانحرافات نفسيّة.

· المنهج الاجتماعي أضاف بعدًا جديدًا حين ربط النتاج الأدبي بالظروف الاجتماعيّة، لكنّه أغفل الموهبة والإبداع التي تلعب دورًا غير قليل في الانتاج الأدبي.

· والمنهج الأسطوري استطاع أن يبرز الأنماط الأسطوريّة المتكررة دائمًا في الإنتاج الأدبي دون أن ينظر في الشكل الذي تتخذه الأسطورة في كلّ زمانٍ ومكان، فأغفلت كثيرًا من الحقائق العلميّة المتعلّقة بالنفس البشريّة، قوانين التطوّر الاجتماعي.

وهكذا تتعدّد زوايا الرؤية المسلّطة على أيّ نصٍّ أدبي، ومن الصعب تصوّر طريقة ملموسة للتوفيق بينها، والناقد المتّزن هو الذي يستفيد من معطيات تلك المناهج النقديّة كلّها ويتمثّلها لإغناء العمليات النقديّة الأساس: الشرح والتعليل والتقويم، حسبما تقتضي طبيعة النصّ المدروس.

وأخيرًا فإنّ هذا البحث ينتهي إلى التأكيد على أنّ فعاليّة النقد فعاليّة مركّبة تحتاج إلى معرفة أدبيّة وفنيّة وفلسفيّة ومعارف إنسانيّة شاملة، وبسبب هذه الحاجة تداخلت حدود النقد الأدبي مع حدود فعاليات أدبيّة وعلميّة أخرى، وكثيرًا ما أدّى هذا التداخل عند الإفراط إلى نوع من الهوس يشغل النقد عن المشكلة الأدبيّة الأساسيّة.