عرض مشاركة واحدة
قديم 10-22-2010, 01:23 AM
المشاركة 39
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
وكان كيسنجر قد غير وجهة نظره في صمود إسرائيل تغييرا نسبيا لكنه ظل على ثقة أنه لو نفذ الجسر الجوى كما يجب فستتمكن إسرائيل من إسترداد ما خسرته وتلقن العرب درسا قاسيا ,
وكان من الواضح أن عدم إحتكاكه المباشر حتى هذه اللحظة بالإسرائيليين منعه من تصور حقيقة الصدمة ومدى ما يتعرض له الإسرائيليون من قتال هذه المرة ,
وهو ما عبر عنه كيسنجر في مذكراته عندما زار إسرائيل بعد ذلك في يوم 22 أكتوبر حيث هاله ما رأى وسجل عدة انطباعات كان مفادها [1] :
( أولا : لقد أحس منذ لحظة وصوله أن صلابة إسرائيل تم اختبارها وأنها على وشك الإنكسار وأن الجميع بمن فيهم الجنود في مطار بن جوريون كانوا متلهفين لوقف إطلاق النار
( هذه النقطة وحدها تكفي للرد على كل المزاعم التي قالت بأن إسرائيل كانت ستحقق النصر لولا وقف إطلاق النار !)
ثانيا : لاحظ أن الجنود الذين تجمعوا في المطار راحوا يصفقون له وقد وصفهم بأنهم كانوا رجالا على حافة كارثة وقد أنهكتهم الحرب ولمعت الدموع في العيون وهم يتصورونه ـ أى كيسنجر ـ منقذا ومخلصا لهم , وأضاف كيسنجر
( إن هؤلاء المساكين كانوا في آخر حدود الإحتمال الإنسانى )
ثالثا : إنه عندما التقي بالقادة الإسرائيليين وبينهم جولدا مائير وكبار الوزراء والقواد العسكريين قد أحس أن التجربة العنيفة التي مروا بها أثرت على ملامحهم وتركيبهم البدنى فبدوا أكبر عمرا وأنهم حاولوا التظاهر أمامه بالثبات إلا أن الإهتزاز كان واضحا له هذه المرة مختلفا عن كل مراحل الثقة السابقة
رابعا : أنه شعر تحت السطح الإسرائيلي بانكسار يصعب إخفاؤه , فهالة الجيش الإسرائيلي الذى لا يقهر جرى تدميرها تماما في أول أيام الحرب ) .. انتهى كلام كيسنجر ,

ولا شك أن هذا الإنطباع أصابه بصدمة لا سيما وأنه كان في الأيام السابقة قد دخل معارك رهيبة لتنفيذ الجسر الجوى بالصورة التي ظهرت وتوقع لها كيسنجر أن تغير معالم الصراع , لكنه فوجئ بالنتيجة
فمنذ أن تلقي كيسنجر في التاسع من أكتوبر تقرير السفير الإسرائيلي عقد اجتماعا لمجموعة العمل الخاصة بالخارجية والبيت الأبيض وكان النقاش يدور حول إن كانت الإمدادات سيتم إرسالها ـ كما هو جار الآن ـ على طائرات شركة العال الإسرائيلية أم أن الأمر يقتضي سرعة وكثافة الإرسال ولو على طائرات أمريكية بجسر جوى مباشر إلى ميدان القتال مباشرة ,
وفى مساء التاسع من أكتوبر أصدر نيكسون قراره بإنشاء الجسر الجوى وكان يتضمن الآتى :
( قررت الولايات المتحدة تزويد إسرائيل بجميع المعدات والأجهزة الإليكترونية وقطع الغيار المطلوبة ـ عدا قنابل الليزر ـ كما تقرر تزويد إسرائيل بدبابات متقدمة من طراز إم 60 بالإضافة إلى الطائرات من أحدث الطرازات الهجومية فضلا على التزام الولايات المتحدة لإسرائيل بتعويضها المتجدد لكل خسائرها فى القتال )

والمتأمل فى القرار ـ الذى تم تطبيقه وأكثر أيضا ـ يدرك أن إسرائيل فى تلك المرحلة كان لها أن تقامر كما تشاء بالأسلحة فى ظل الضمان الأمريكى لها بالتجديد التلقائي لأى خسارة تلحق فيها ,
ليس هذا فقط ..
بل أصبحت مخازن الجيش الأمريكى مفتوحة الأبواب أمام الأسلحة غير التقليدية التى لم تنزل مسرح القتال من قبل ولم يكن متصورا لها أن تنزل فى ظل توازن القوى العظمى التى يقتصر على تزويد الأطراف المتحاربة بطرازات محددة من الأسلحة لا ترقي إلى أسلحة الجيوش الأمريكية والسوفياتية
وهو الأمر الذى التزم به الإتحاد السوفياتى , بل وبالغ فى التزامه حتى أنه لم يزود العرب بأسلحة هجومية أو دفاعية متطورة يمتلكها بالفعل , بعكس الولايات المتحدة التى تفوقت كما وكيفا فى تحد سافر للإتحاد السوفياتى ضمانا للمعادلة التى أعلنها كيسنجر أن الولايات المتحدة تضمن التفوق الإسرائيلي كما ونوعا فى التسليح على العرب مجتمعين ,
فوق هذا كله ,
كان القرار يقتضي أيضا سرعة الإرسال بجسر جوى وبحرى مباشر يضمن وصول السلاح الأمريكى فى أقصي وقت
وعليه ,
تقرر تزويد إسرائيل بهذا الجسر من مخازن وزارة الدفاع الأمريكية ومن القواعد الأمريكية فى أوربا والبحر المتوسط أيضا لضمان سرعة الوصول , مع استخدام طائرات النقل المدنية الأمريكية والإسرائيلية فضلا على الأسطول البحرى
بالإضافة إلى أن طائرات النقل العسكرية الأمريكية كانت تنقل بعض المعدات المطلوبة إلى جزر الآزور ومنها تأخذها طائرات شركة العال إلى ميدان القتال تقصيرا للوقت ,
أى أن الجسر الجوى والبحرى لم يكتف بطريق واحد أو مجال واحد بل تعددت طرقه ومجالاته بكل جهد استطاعت الولايات المتحدة أن تحققه باستخدام الطائرات العسكرية الأمريكية وسفن النقل البحرى بالإضافة إلى معاونة طائرات العال وتقصير المسافة عليها ,
مع استخدام الإحتياطى الإستراتيجى فى القواعد الأمريكية فى أوربا لقربها من ميدان القتال !
وابتداء من العاشر من أكتوبر استمر الجسر الجوى والبحرى بشكل بلغ من الكثافة حدا أنه لم تمر ساعة واحدة من هذا اليوم وحتى نهاية لقتال إلا وهناك أطنان من الأسلحة تدفعها السفن أو الطائرات إلى العريش مباشرة لتنزل إلى ميدان القتال سريعا بعد وضع العلامات الإسرائيلية عليها وأحيانا نزلت بعض الدبابات دون الشعار الإسرائيلي أصلا !
ومن خلال الغنائم التى غنمتها القوات المصرية وقعت بعض دبابات العدو وهى جديدة لامعة وعداد الكيلومترات لم يسجل إلا المسافة من العريش إلى ميدان القتال فحسب !!

ومن خلال تقرير مراقب الحكومة الأمريكية فى لجنة الإحصائيات العسكرية بخصوص الجسر الجوى لإسرائيل أثناء حرب أكتوبر .. ننقل بعض فقرات هذا الجسر لنتعرف مداه [2] :
أولا : استخدم الجسر الجوى الأمريكى لإسرائيل خلال 33 يوما كاملة , حوالى 228 طائرة متفاوتة السعة من طرازات س 5 وس 141 فائقة الحمولة ,
ثانيا : نفذت هذه الطائرات 569 طلعة جوية نقلت 23 ألف طن من الإحتياجات العسكرية
ثالثا : قامت الطائرات الإسرائيلية المشاركة في الجسر الجوى بنقل 5500 طن أخرى من المعدات
رابعا : أما المعدات الثقيلة فقد تكفل بها الجسر البحرى الذى نقل 74 % من الإحتياجات , وبلغت ضخامة الجسر البحرى حدا أن أول سفينة وصلت لإسرائيل كانت حمولتها وحدها 34 ألف طن من المعدات !
خامسا : تكلف الجسر الجوى والبحرى لمصاريف النقل فقط حوالى 88.5 مليون دولار بخلاف ثمن المعدات
سادسا : كانت أبرز مراحل المجهود للجسر الجوى وأكثرها تركيزا في الفترة من 14 إلى 22 أكتوبر وهى المرحلة التي طور فيها المصريون هجومهم نحو المضايق ليفاجئهم السلاح الأمريكى الجديد والذي عطل كثيرا من تقدمهم

وكما سبق القول ,
لم تكن خطورة الجسر الجوى المستمر في ضخامته الهائلة بل أيضا في نوعياته التي اشتملت على أسراب كاملة من الطائرات الفانتوم وسكاى هوك والهليوكوبتر والدبابات المتطورة , فضلا على أعداد مماثلة من أسلحة لم يسبق لإسرائيل الحصول عليها مثل القنابل التليفزيونية المتطورة وقنابل ( جو / أرض ) ونظم كاملة للدفاع الجوى من طراز فولكان وشابرال ,
هذا فضلا على سلاح من أخطر أسلحة الحرب وهو صواريخ من طراز تاو المضاد للدبابات والمحمول على هيلوكوبتر والذي يعتبر أفتك سلاح حربي ضد الدبابات والمدرعات فضلا على أنواع جديدة من المدفعية بعيدة المدى وطائرات النقل والإبرار الجوى وأجهزة التشويش والتصنت ,
وختمت الولايات المتحدة جسرها الجوى بطائرات كانت تصل بطياريها جاهزة للقتال الفورى ,
فضلا على وضع الولايات المتحدة طائراتها المخصصة للتجسس ( طائرات بدون طيار وتسير بثلاثة أمثال سرعة الصوت وهى من طراز إس آر 71) لخدمة إسرائيل وقامت هذه الطائرات بمسح الجبهة شمالا وجنوبا بأمان تام وتصويرها بدقة شديدة تكفل لإسرائيل بناء خططها المضادة على حقائق الأمر الواقع دون حاجة لفرق إستطلاع أو مخاطرة أو فرصة خطأ ولو بنسبة 1 %
وقد حاولت وسائل الدفاع الجوى المصري التصدى لهذه الطائرات إلا أنها لم تنجح بالطبع لأن مدى ارتفاعها وسرعتها المهولة كانت فوق ضعف قدرة الصواريخ المصرية
وكانت خدمات طائرات التجسس والأقمار الصناعية هى السبب الرئيسي الذى تمكنت به إسرائيل من كشف نقطة الإختراق عند الدفرسوار فيما بعد
وبينما كانت القيادة المصرية في المركز رقم 10 تستعد لتطوير الهجوم نحو المضايق بلغتها أنباء طائرة التجسس التي مسحت الجبهة بأكملها , وتساءل القادة عن سر عدم إسقاطها فأجاب قائد الدفاع الجوى أن مدى صواريخنا لا يطولها بأى حال !
فصمت القادة والضيق يملأ نفوسهم لأن جميع خطط الحشد المصري واستعداده القتالى فضلا على توزيع قواتنا , كل هذا أصبح كتابا مفتوحا أمام إسرائيل[3]
هذا في ظل إمكانيات الجيش المصري العادية التي كانت ـ رغم تطور بعض أنواعها ـ قاصرة أصلا عن التسليح الإسرائيلي حجما ونوعية , فما بالنا بما أصبح عليه الميزان العسكري بعد هذا التفوق الإضافي في الجسر الجوى والذي نزلت به أسلحة متقدمة توفر القدرة البشرية لإسرائيل إلى أقصي مدى وتضمن لها تفوقا نوعيا في تركيز السلاح وضرباته ,
وبينما كانت المعدات الإسرائيلية يجرى تعويضها خلال ساعات من تدميرها كان الجيش المصري يقاتل باحتياطيه الإستراتيجى ولم تصل الإمدادات إلا في نهايات الحرب , وحتى هذه الإمدادات اقتصرت على بضع مئات من الدبابات في ظل نفس النوعية السابقة دون أن يورد الإتحاد السوفياتى تعويضا للخسائر المصرية كما هو الحال مع إسرائيل , فضلا على امتناعه التام عن مد مصر بأى سلاح إضافي يمكنها من مواجهة الأسلحة الجديدة من صواريخ تاو أو القنابل التليفزيونية أو غيرها

لكن ورغم كل هذا التفوق الكمى والنوعى والبشري الذى مال لإسرائيل فقد استمرت الإنتصارات المصرية تمنع إسرائيل من أى تقدم أو هدف ملموس ولم تنجح في زحزحة القوات المصرية شبرا واحدا للخلف , كما سنرى





الهوامش
[1] ـ مذكرات هنرى كيسنجر ـ الجزء الثانى
[2] ـ مذكرات اللواء الجمسي ـ مصدر سابق ـ نقلا عن التقرير الأمريكى
[3]ـ مذكرات اللواء الجمسي ـ مصدر سابق