بسم الله الرحمن الرحيم
تُعدّ الأمثال الشعبية مرآةً لثقافة المجتمعات، غير أن بعضها لا يخلو من ظلمٍ وسوء فهم، ومن أخطر هذه الأمثال مقولة: «الأقارب عقارب»، التي انتشرت على الألسنة دون تمحيص أو تفكير في آثارها ومعانيها. فهي عبارة تُرسِّخ الشك، وتُشيع العداوة، وتُسيء إلى أعظم الروابط الإنسانية، وهي رابطة القرابة. والحقيقة أن هذه المقولة لا تعبّر عن جوهر العلاقة بين الأقارب، ولا تمثل القيم الدينية، ولا الواقع السليم، بل إن الصواب الذي تؤيده النصوص الشرعية والعقول السليمة هو أن الأقارب عِزوة وسند وصلة رحم.
أولًا: القرابة في ميزان الفطرة الإنسانية
الفطرة السليمة تميل إلى القرب والرحمة، وتجعل الإنسان يشعر بالأمان بين أهله وأقاربه. فالإنسان بطبيعته يبحث عن من يشبهه، ومن يجمعه به أصل واحد وذكريات مشتركة. ولهذا كانت الأسرة هي الحضن الأول، وكان الأقارب امتدادًا طبيعيًا لها. ولو كانت القرابة مصدر أذى بطبيعتها، لما استقرت المجتمعات، ولا قامت الحضارات، لأن البناء الاجتماعي كله يقوم على الأسرة الممتدة وروابطها.
ثانيًا: مكانة صلة الرحم في القرآن الكريم
جاء القرآن الكريم مؤكّدًا على عظمة صلة الرحم، ومحذّرًا من قطعها، ومبيّنًا أن الإحسان إلى الأقارب عبادة يتقرب بها العبد إلى الله تعالى. قال الله عز وجل:
﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى﴾(النساء: 36)
وقال سبحانه: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ (الإسراء: 26)
وقال تعالى في وصف عباده الصالحين: ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ (الرعد: 21)
وفي المقابل، جاء الوعيد الشديد لقاطعي الأرحام:
﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾
(محمد: 22–23)
وهذا يدل على أن صلة الرحم ليست خيارًا اجتماعيًا، بل فريضة شرعية.
ثالثًا: صلة الرحم في السنة النبوية
جاءت أحاديث النبي ﷺ مبيِّنة فضل صلة الرحم وآثارها العظيمة في الدنيا والآخرة، فقال ﷺ: «الرحم معلّقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله»
(رواه البخاري ومسلم)
وقال ﷺ: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه» (رواه البخاري)
وقال أيضًا:
«من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه» (رواه البخاري)
وهذه النصوص تؤكد أن صلة الأقارب سبب للبركة في الرزق وطول العمر، لا سببًا للأذى كما تزعم المقولة الشائعة.
رابعًا: الأقارب عزوة وسند في واقع الحياة
في أوقات الشدة، تتكشف حقيقة العلاقات، ويظهر معدن الناس. وغالبًا ما يكون الأقارب هم أول من يقف إلى جانب الإنسان، يشاركونه الهمّ، ويدعمونه نفسيًا وماديًا. وقد يتخلى الأصدقاء والمعارف، بينما تبقى صلة الدم قائمة، تدفع إلى النصرة والمواساة.
ولذلك قيل: «الدم لا يصير ماء»، لأن رابطة القرابة أعمق من المصالح العابرة.
خامسًا: الخلافات بين الأقارب حقيقة لا تُنكر
لا يخلو أي تجمع بشري من الخلافات، حتى بين الإخوة في البيت الواحد. غير أن هذه الخلافات لا تُلغي فضل القرابة ولا قيمتها. وقد أرشد الإسلام إلى معالجة الخلافات بالحكمة والصبر، لا بالقطيعة والهجر. قال الله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (فصلت: 34)
وقال النبي ﷺ: «وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا» (رواه مسلم)
سادسًا: خطورة تعميم المقولة وآثارها الاجتماعية
إن تعميم مقولة «الأقارب عقارب» يؤدي إلى:
- قطع الأرحام
- ضعف الروابط الأسرية
- انتشار العداوة والبغضاء
- مخالفة أوامر الله ورسوله
- تفكك المجتمع وزوال بركته
بينما المجتمعات التي تُعلي من شأن صلة الرحم تكون أكثر استقرارًا وقوة.
وفي الختام، يتبين لكل ذي عقل وبصيرة أن مقولة «الأقارب عقارب» مقولة باطلة لا أصل لها في الشرع ولا في الفطرة ولا في الواقع السليم. فالأقارب هم العزوة الحقيقية، والرحم التي أمر الله بصِلَتها، والنعمة التي ينبغي شكرها لا إنكارها. وإن واجبنا اليوم هو تصحيح هذه المفاهيم الخاطئة، وغرس معاني الرحمة والتسامح وصلة الرحم في نفوس الأجيال، لنعيش في مجتمع متماسك تسوده المحبة، ويظلله رضا الله عز وجل.