الموضوع: مُهاجر
عرض مشاركة واحدة
قديم اليوم, 07:21 PM
المشاركة 433
مُهاجر
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: مُهاجر
تثور أحيانا تساؤلات كثيرة تقطع هجعة الراحة، فلا هي توقظ وعيا مطمئنا، ولا تترك للنفس سكينة آمنة، كأنها نداء خفي يطرق أبواب العقل حين يظن أنه بلغ قرار الطمأنينة. وليتها تضيف في سجل حياتي بصمة وجود، أو تترك في هامش الأيام أثرا يدل علي، فتكون لي محطة عبور لا مقام، ووقفة تأمل لا استسلام، أقلب فيها دفتر الذكريات المفقودة، وأعيد ترتيب ما بعثره الغياب، لعل العقل يستعيد نشاطه، وإن كان في يقظته هلاكه، إذ ليس كل هلاك خسارة، ولا كل سلامة نجاة.



غير أنها تفاقم الوجع، وتستحضر ألما نتقن الهرب منه، لا شجاعة، بل حفاظا على آخر ما تبقى لنا من رمق الحياة، فنفر منه بقدر ما نقوى عليه، ونعود إليه بقدر ما يقوى علينا، في دورة لا تنكسر، وسؤال لا ينطفئ.
هي صحارى الجفاء إذا امتدت، وفياف التيه إذا استحكمت، تقطع للسائر فيها الأنفاس، فلا ظل يستظل به، ولا أفق يهتدي إليه، سوى أثر قدميه يتقدمان، وقلبه يتراجع.



وفي زقاق الحياة، نحسب أننا الوحيدون من الخلق الذين كُتب لهم على هذه البسيطة البقاء، وأن ما سوانا عدم عابر أو ظل زائل، فإذا بالحقيقة تكشف وجها آخر، وتدلنا على أن الوجود أوسع من أجسادنا، وأعمق من أعمارنا.
فهناك عوالم تشاركنا الحياة، لا تُرى بالأبصار، ولا تُلمس بالأيدي، وليست من بني جنسنا، ولا من الذين خُلقوا من نار ولا نور، لكنها تسكننا كما نسكنها، وقد تجاوزت النبات والحيوان والطير، وكل ما يخطر ولا يخطر على بال.



تلكم العوالم هي المشاعر والأحاسيس، لا تُرى فتُجحد، ولا تُلمس فتُنفى، لكنها تحكم الفعل قبل الإرادة، وتسبق القرار قبل القناعة، وتختمر في العقل، وتمتزج في القلب، وتصوغ الإنسان قبل أن يظن أنه صاغ نفسه.