الموضوع: مُهاجر
عرض مشاركة واحدة
قديم اليوم, 01:12 PM
المشاركة 432
مُهاجر
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: مُهاجر
كم للحياة من أطوار متقلبة، ولمن يمشي على مناكبها يموج ويمور بين تقلب الحال والأحوال، لا يكاد يثبت على حال، فذاك هو المعنى الأصح والأدق. نطوي صفحات أيامنا، بين سطورها من يسكبون سواد حبرهم على ناصع صفحاتها، مختبئين في سويداء القلوب، بين حقد دفين يتفرع منه الحسد والغدر، وبين عوالم الخير والمودة والوفاء.



العجيب أن ذلك قد يصدر من أناس لانعرفهم، وقد يجمعنا لقاء عابر، أو تصافح بحروف على عديد المواقع، ومع هذا يكون التنافر والتناحر، دون سبب يُفسره العقل، فيبقى الإنسان مذهولًا، متسائلًا عن سر تلك القلوب، عن ما يُغذي ضغائنها، وعن حدود الصبر التي قد تُستنزف قبل أن يرف له جفن.
فالإنسان الواعي يُقارب ويهادن ويساير، متأملاً الخروج من بوادر الخلاف، فيصقل الصبر في داخله، وينتظر أن تثمر الحكمة، بينما يبقى الآخر، ضعيف الحول، صامتًا أمام سياط التجريح، غير قادر على تجاوز العناد، متشبثًا بالأنا، مشغولًا بالذات، متناسيًا قيمة الإخلاص، مغلقًا قلبه عن أي شعور بالضمير، ومحرومًا من بهجة العطاء.



أما الإنسان الذي يتحلى بالوعي، فيقصي ذاته ليقرب غيره، يفتح الأبواب للخير، يملأ القلوب بالسعادة، يواسي الهموم، ويبعثر ورود الأمل، فلا مكان للغضب أو الحقد في قلبه، فيرتقي فوق الصغائر، ويعلو فوق الأنانية، فيصبح صوته نبرة رحمة، وكلماته منارة، وعطاؤه نورًا يُضيء الظلمات، ويحول القسوة إلى عطاء، والغل إلى تسامح، والانتقام إلى صدق في النية، وحسن تعامل مع الآخر.



الصبر هو الملاك الخفي، وهو مفتاح الفرج، وهو الجسر بين الكدر والصفاء، بين الحيرة واليقين، بين السقوط والارتقاء، ومن يقدره، يرفع مقامه، ويصقل ذاته، ويهذب أخلاقه، ويعلو بقيمه، فيصبح العطاء مستمرًا، والإبداع متألقًا، والتجارب دروسًا متجددة، والقلوب مفتوحة على الخير والصفح والرحمة.
النقد البنّاء هو ربيع الفكر، يفتح أبواب الإدراك، ويغرس الحكمة في النفوس، ويوقظ العزيمة، ويحوّل السقوط إلى درس، والفشل إلى تجربة، ويشعل شعلة السعي نحو الكمال، ويمنح الإنسان القدرة على تجاوز كل عائق، ليصبح كالشمعة، تنير دروب الآخرين دون أن تفنى، كالنهر الجاري، ينساب بين الصخور متجاوزًا كل عائق، مغذيًا الأرض من خيره، وموصلًا العطاء إلى كل محتاج.



أما النقد الهدام فهو الريح العاتية، يقلب المعاني، ويعمي الأبصار، ويشل المبادرات، ويقتل روح الإبداع، ويترك أثرًا مدمرًا في النفوس، فيصبح الإنسان رهين الخوف والقلق، مترددًا بين التراجع والانكسار، محاصرًا بسياط التجريح، فاقدًا لمعنى العطاء، ومقيدًا بإرادة الآخرين، ضائعًا بين الظنون والاتهامات، متخبطًا في دهاليز الحيرة.



لذلك، فإن التمييز بين النقد البنّاء والنقد الهدام هو علم وفن ومهارة، من عرفه أفلح، ومن لم يعرفه انغمس في تيه الانكسار. النقد البنّاء هو الذي يصقل الروح ويقوي العزيمة، ويعطي القلب نورًا، ويغرس في العقل بذور الفهم، ويهذب النفس، ويخرج الإنسان من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة، ومن حيرة العجز إلى ثقة الأداء، ومن ضيق الأفق إلى اتساع المدارك، فيصبح الإنسان قادرًا على تحويل كل تجربة إلى منارة، وكل موقف إلى درس، وكل كبوة إلى فرصة، وكل لحظة فشل إلى عودة أقوى.




بهذا يكون الإنسان قد بلغ حكمة التعامل مع نفسه ومع الآخرين، وقد أصبح متنبهًا لقيمة العطاء، واعيًا بحدود الصبر، متفردًا بالوعي، متناغمًا مع الحياة في تقلباتها، ورافعًا راية التفوق، مزهرًا الخير، باحثًا عن الحقيقة، صانعًا من كل موقف درسًا، ومن كل كلمة أثرًا، ومن كل تصرف جسرًا يصلح النفوس، ويغذي العقول، ويشعل جذوة الإبداع، ويزرع في القلوب الأمل، فيصبح الإنسان نموذجًا حيًا للتميز، ومثالًا للوعي، ومرجعًا للفكر، وموسوعة للحكمة، وقيمة تتوهج في كل زمان ومكان.