الموضوع
:
مُهاجر
عرض مشاركة واحدة
اليوم, 01:02 PM
المشاركة
431
مُهاجر
من آل منابر ثقافية
اوسمتي
مجموع الاوسمة
: 1
تاريخ الإنضمام :
Feb 2022
رقم العضوية :
16905
المشاركات:
609
رد: مُهاجر
كم للحياة من أطوار متقلبة، وكم لمن يسير على مناكبها من حال يموج ويمور، فلا يكاد يثبت على قرار، ولا يستقر على حال. فهي دول بين إقبال وإدبار، وتقلبات بين صفاء وكدر، وذلك هو المعنى الأصح والأدق حين نتأمل مسيرتها بعين البصيرة لا بسطحية العابرين.
نطوي صفحات أيامنا، فإذا بين سطورها من يسفح سواد حبره على ناصع بياضها، فيلطخ الجمال، ويشوّه المعنى، ويكدر صفو الرحلة. وليس ذلك إلا صدى قلوب اختبأ في سويدائها حقد دفين، فتفرعت منه شعب الحسد، وتشعبت عنه مسالك الغدر، واستفحلت فيه نوازع الأذى. والعجيب أن هذا الأذى قد يصدر ممن لا معرفة تجمعنا بهم، ولا عشرة سابقة تصلنا إليهم، سوى لقاء عابر أو تواصل عابر، ومع ذلك يتولد التنافر، ويشتد التناحر، من غير علة يقبلها العقل أو يبررها المنطق.
وقد يحاول المرء أن يقارب ويهادن ويساير، أملا في احتواء البوادر قبل استفحالها، فيمضي عمره يتلقى القواصم، حتى تتآكل في داخله معاني الإخلاص، وتبهت القيم، ويثقل عليه حمل الحلم، فيغدو الصبر حملا لا فضيلة. وفي المقابل، ثمة من يبتر الخبال من جذوره، ويختار السلام، وينجو بنفسه من استنزاف لا طائل منه، مؤثرا العافية على دوام الخصام، ومقدما صفاء الروح على جدل لا ينتهي.
وهنا يبرز السؤال الجوهري: هل للصبر حد يقف عنده، ومنتهى ينتهي إليه؟ فالصبر فضيلة إذا كان وعيا، ورذيلة إذا صار استكانة، وهو خلق محمود إذا كان ضبطا للنفس، ومذلة إذا تحول إلى تعطيل للذات. والحكمة أن يُعرف للصبر موضعه، وأن يُضبط بميزان الكرامة، فلا يُجعل ستارا للظلم، ولا مبررا لإهدار النفس.
تمر بنا محطات الحياة ونحن نعلم يقينا أنها جبلت على اللقاء والفراق، فهذا مولود، وذاك مفقود، وبهذا التوازن تمضي الأيام. ومع ذلك نخاصم وننازع، ونحمل في كواهلنا أثقال العداء، كأننا نجهل أن السلام أهون كلفة، وأن الوئام أقرب سبيلا، وأن الصراع لا يورث إلا الإنهاك.
والصبر، وإن كان شحيح الحملة، كثير الفاقدين، يبقى من أعظم الصفات إذا وُضع في موضعه، إذ اقترن وعده بالفرج، وربطت عاقبته بحسن المنال. غير أن للصبر وجوها تتباين، في لونه وطعمه وريحه ومنتهاه، فهو ليس احتمالا أعمى، بل بصيرة نافذة، ومعرفة بحدوده، وإدراك لمخبوئه. وقد دعا إليه كتاب الله، وجعل له منزلة، ورصد له أجرا، لكنه لم يدع إلى صبر يهدر الكرامة أو يقتل المعنى.
وللصبر لذة لا يعرفها إلا من ذاقها بوعي، فهو يصقل الذات، ويهذب النفس، ويكشف المكنون، حتى تهفو الأرواح لمعانقة السكينة. وبه تروض النفس الجامحة، ويستقر العفو في القلوب، لا عن ضعف، بل عن قوة، ولا عن قهر، بل عن سمو.
وفي المقابل، ثمة من جعل الحسد وقود حياته، يتغذى على عثرات الآخرين، ويقتات من كبواتهم، وهو واقف على باب النجاح، لا يدخله، لأن مفاتيحه ليست في يده. وتبقى الدوافع في جوهرها واحدة، هي الأنا المتضخمة، التي لا تحتمل رؤية من ينافسها، ولو كانت مثقلة بالتقصير.
والناس في هذا الباب صنفان لا ثالث لهما: صنف يرفع أناه فوق كل اعتبار، فيقصر عطاؤه على ما يعود عليه بالنفع، ويغلق قلبه دون حاجات القريب والبعيد، ماضيا في دربه لا يلتفت لصوت الضمير. وصنف آخر يقصي نفسه ليدني غيره، فيواسي، ويعطي، ويبذر الأمل في قلوب أنهكها الألم، لا يبخل بجهد، ولا يضن بابتسامة، لأنه فهم أن العطاء بقاء، وأن الإيثار حياة.
وشَتّان بين هذين الصنفين، فالفارق بينهما سحيق، والمسافة بينهما بعيدة. وليس المقصود بالصبر الخضوع للمهانة، ولا القبول بمعاملة لا تليق بالإنسان، وإنما المقصود ألا يُقطع حبل الوصل ابتداء، وأن يُمنح التدرج فرصته، وتُسلك طرق الإصلاح بما لا ينفر ولا يؤذي.
وتلك هي فلسفة العاقل الذي خبر الحياة، فعلم أنها لا تملك وجها واحدا، بل تتقابل فيها الأضداد؛ فالخير يجاور الشر، والصدق يجاور الكذب، والوفاء يجاور الخيانة. واللبيب من يتكيف مع هذه السنن، ويجعل لنفسه متنفسا يتنفس به الحياة، دون أن يحبس روحه في زنازين الألم.
وخلاصة القول أن الصبر، وإن كان مر المذاق، فإنه يحلو بعاقبته، إذا اقترن بالحكمة، وسندته البصيرة، وحُرس بكرامة النفس. فبه يسمو الإنسان، وبه ينجو، وبه يبلغ غاية السلام، فيرتقي، ويكون من الضافرين.
رد مع الإقتباس