الموضوع: مُهاجر
عرض مشاركة واحدة
قديم اليوم, 11:34 AM
المشاركة 430
مُهاجر
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: مُهاجر
يُحكى أن رجلا من الصالحين كان يوصي عماله في المحل بأن يكشفوا للناس عن عيوب بضاعتهم إن وُجدت. وذات يوم جاء يهودي فاشترى ثوبا معيبا، ولم يكن صاحب المحل موجودا، فقال العامل: هذا يهودي، لا يهمنا أن نطلعه على العيب. ثم حضر صاحب المحل فسأله عن الثوب، فقال: بعته لليهودي بثلاثة آلاف درهم، ولم أطلعه على عيبه.


فقال: أين هو؟ قال: لقد رجع مع القافلة. فأخذ الرجل المال معه، ثم تبع القافلة حتى أدركها بعد ثلاثة أيام. فقال لليهودي: يا هذا، لقد اشتريت ثوبا به عيب، فخذ دراهمك وهات الثوب. فقال اليهودي: ما حملك على هذا؟ فقال الرجل: الإسلام، إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من غشنا فليس منا. فقال اليهودي: والدراهم التي دفعتها لكم مزيفة، فخذ بدلها ثلاثة آلاف صحيحة، وأزيدك على ذلك: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وقال عمر بن عبد العزيز: كونوا دعاة إلى الله وأنتم صامتون.



كانت هذه حكاية رويتها لأبنائي قبل النوم، فكان لها وقع خاص، وحوار شائق بنكهة البراءة. ومن عادتي عند الانتهاء من أي قصة أن أفتح باب التساؤل، وأن نفكك شخوصها وأحداثها، ثم نختم بالفائدة المستفادة منها.


خرجنا من تلك القصة بمعنى عميق، أن المؤمن إنما يتعامل مع الله قبل أن يتعامل مع الناس، ومن هنا يحاسب أنفاسه، ويزن أقواله وأفعاله، ويحرص على أن تكون معاملاته على ما يرضي الله، لا على ما تمليه المصلحة العاجلة أو المكاسب الزائلة. فالوضوح عنده مبدأ، والصدق مسلك، فلا يجعل من الغاية المادية سببا لطمس إنسانيته، ولا ذريعة لتبرير الغش والخداع.


فالمؤمن كتاب مفتوح، لا يحيط به غبش الريبة، ولا تنال منه سهام التشكيك، ولا تهدم كيانه معاول التخوين، لأنه متسق في ظاهره وباطنه، ثابت في قوله وفعله، فلا يقول ما لا يعمل، ولا يعمل ما يخجل من قوله.


وهنا تتجلى حقيقة الدعوة الصامتة؛ تلك الدعوة التي لا تحتاج إلى ضجيج، ولا تقوم على الجدل، بل تتسلل إلى القلوب تسلل النسيم، وتتجاوز حدود الأنا، لتخاطب الفطرة والعقل معا. هي رسالة يتلقاها الآخر بالفعل قبل القول، فيجد نفسه مشدودا لمعرفة سر هذا السلوك، ومصدر هذا الخلق، ومنبع هذه القيم.


فبطل القصة لم يعرض بضاعة الإسلام عرضا لفظيا، ولم يسرد محاسنه بالكلام، بل جعل من فعله ترجمانا صادقا، ومن أمانته جسرا يعبر عليه الآخر إلى الحقيقة. وهكذا كان البيان عن معاني الإسلام أصدق، وكانت رسائله أعظم أثرا، إذ أحيت قلبا كان موصدا، وبعثت روحا في رحلة بحث عن الحق، وما يسعد الإنسان في دنياه وآخرته.



ومن هنا يطرق السؤال باب الوعي: هل للدعوة الصامتة، في شتى مرافق الحياة، هذا الأثر العميق؟ أم أن البوح المباشر هو أنجع السبل؟ لعل بعض الناس يتجاهل الإشارات، ولا يلتفت إلى التلميحات، فتضعف الحصيلة عنده، غير أن الفعل الصادق يبقى أبلغ من ألف كلمة، وأبقى من ألف خطاب، لأنه يزرع في القلوب قبل أن يخاطب العقول.


فالدعوة الصامتة ليست سكوتا عن الحق، ولا ضعفا في البيان، بل هي حكمة في إيصال الرسالة، ووعي بسنن التأثير، وسلوك يسبق المقال. هي خلق يمشي على قدمين، وبرهان لا يحتاج إلى منبر، ولسان حال يقول: هكذا يكون الإسلام حين يُعاش، لا حين يُقال.