الموضوع: مُهاجر
عرض مشاركة واحدة
قديم اليوم, 05:35 AM
المشاركة 427
مُهاجر
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: مُهاجر
ولو سلمنا بأن تلكم الأوجاع، وذاك الفشل المذاع،
ليس إلا جناية إنسان تربصت به الدوائر،
فأسقطته في دهاليز الأحزان،
أفلا يكون ذلك في حقيقته أمرا مبرما في لوح محفوظ،
نفذ ليكون واقعا مَعيشا، وحالا ملامسا؟
فما من ساكن في هذا الكون ولا متحرك
إلا وقد اكتنفه القدر وحمله،
غير أن ذلك لم يكن جبرا مطلقا
يسلب الإنسان اختياره،
بل كان للإنسان فسحة إرادة،
وإن قيدت مآلاتها بحدود الأسباب والمسببات،
حتى إذا انتفضت العوامل
وتكاثفت الموانع،
انطفأ حلم، وانكسر أمل،
فتألم القلب قبل أن يشتكي اللسان.



ومن هنا، فإن تحرير الفكرة
لا يستقيم باستحضار الماضي وحده،
ولا بتقديس أطلاله،
بل باستيعاب الحاضر
واستشراف المستقبل،
حتى لا يتحول الأمس إلى قيد
ولا يصبح الوجع هوية،
ولا تغدو الذكريات سجنا
نقيم فيه إقامة دائمة.



فالإفراط في اجترار الحسرات
لا يورث إلا البؤس،
ولا يحصد من التنهدات
غير الويلات،




ولو سلمنا بوجود أسباب
قادت إلى هذه الخيبات،
فإن الركون إليها
واتخاذ دور الضحية
لا يزيد الجراح إلا اتساعا،
ولا يمنح الجلاد
إلا مبررا إضافيا للبطش.
إن استدعاء القدر
ليس شماعة للهروب،
ولا ذريعة لتعليق العجز،
بل هو باب للرضا الواعي،
ومعبر للتوكل الحي،
أما تعليق الإخفاقات عليه
فليس إلا استسلاما مقنعا،
وتخليا مؤجلا عن القدرة
على النهوض من جديد.




فالذي يرتهن للماضي
ويسكن الأطلال،
يدفن في ركام الذكريات
قدرته على التجاوز،
ويئد في صدره
إمكان رسم أفق جديد،
بينما الأجدر به
أن يسقي أمله
باستشراف فجر مختلف،
ويلونه بفرشاة التفاؤل،
ويجعل الله السميع البصير
ركنه وملاذه،
وعليه يفوض أمره
تفويضا لا يشوبه يأس
ولا يخالطه وهن.




وليس في استحضار الذكريات حرج،
ولا في التماس العزاء بها ضعف،
ما دامت جسرا للاتزان
لا معبرا للغرق،
وسندا للروح
لا سكينا للصدر،
فالذكريات إن أحسنت إدارتها
كانت دواء،
وإن أسئ استعمالها
صارت داء.




ولئن تعاقبت النصائح،
وتعددت الأصوات،
واختلط الوعظ بالحكم،
فإن المأزق الحقيقي
ليس في كثرة الأقوال،
بل في كيفية تلقيها،
إذ كثيرا ما تمر الحكم
مرور الكرام،
ولو أمعن فيها الفكر
لأنقذت النفس
من مستنقع الاستنزاف.




غير أن النفوس
تألف المألوف،
وتستسلم لجاذبية الحزن،
فتجعل من الأنين
نشيدها اليومي،
ومن جلد الذات
طقسا لا ينقطع،
فلا تسمع إلا صدى وجعها،
ولا ترى إلا ظل ألمها.




والحقيقة الثابتة
أن التغيير لا يهبط من الخارج
ما لم تفتح له الأبواب من الداخل،
وهنا مكمن العطب،
حين تلقى عصا العزيمة،
وتخنق الرغبة في العبور،
وتؤجل المصالحة مع الحياة.
فالنجاة ليست في إنكار الألم،
ولا في تقديسه،
بل في فهمه،
وتجاوزه،
وتحويله من عبء مثقل
إلى درس منقذ،
ومن ذكرى موجعة
إلى خبرة واعية،
ومن سقوط مؤلم
إلى بداية نهوض جديد.