الموضوع
:
مُهاجر
عرض مشاركة واحدة
اليوم, 05:27 AM
المشاركة
425
مُهاجر
من آل منابر ثقافية
اوسمتي
مجموع الاوسمة
: 1
تاريخ الإنضمام :
Feb 2022
رقم العضوية :
16905
المشاركات:
607
رد: مُهاجر
لعل كلمة «الخطأ» تحمل في طياتها ما يغاير صائب الأمور، غير أن ما نجهله أحيانا أنه قد يكون محفزا ودافعا لتغيير القبلة، وتصحيح الوجهة، وتدارك المسار، حتى تستقيم به الأحوال وتعتدل الأفعال.
وحين نأخذ «الخطأ» مجردا، من غير أن نربطه ببيئته التي نشأ منها، ونسبر هويته، ونفكك كنهه، ونستجلي حقيقته، نكون قد حكمنا عليه قبل أن نفهمه، وجاوزنا العدل إلى العجلة، والبصيرة إلى الغفلة.
وكلما حللنا طبيعته، تيقنا أنه كالهواء، يتنقل ويطوف بالجميع، لا ينجو منه أحد، ولا يسلم من أثره بشر، لنُدرك به ما يباينه، وما عنه ينفصل، وما منه ينبثق، فيكون سببا للتوثيق أو جسرا للانعتاق، فيفارقه المرء ولو بعد حين.
وما أجمل أن نجعل من المثالب التي تصيبنا، من غير قصد ولا ترصد، مفاتيح نفتح بها أبواب المراجعة، وسلالم نرتقي بها مدارج الإصلاح، فنفكك ذواتنا لنعيد تركيبها، ونكسر القالب لنصوغ قالبا أصلب وأقوم، ونجعل من الخطأ مرآة مقارنة، وصورة مخالفة، نعيد بها برمجة الأقوال، وتقويم الأفعال، تاركين بعض المساحات الضيقة نلقي فيها فتات الهفوات، لا لنخفيها، بل لنقيمها ونقوم معوجها.
وقفة إكبار، وشكر موصول، وعرفان غير منقوص، لذاك الخطأ العلمي، الذي كان سببا لسبر مكامن المعرفة، واستنطاق خزائن العلم، فكان منه الإقدام لا الإحجام، والاقتحام لا الإحجام، والولوج في كل فن وعلم، تنوع مذاقه، وتعددت مسالكه، فكم جنينا من ثماره، وكم غنمنا مما لذ وطاب، وكم ارتقينا به درجات بعد درجات.
ولك مني التحية، أيها الخطأ العملي، فلولاك لما تعثرت بذاتي، ولا اصطدمت بحدودي، ولا اكتشفت قدراتي، ولا أدركت حقيقة حالي، فكنت المعلم الصامت، والناصح القاسي، والمرآة التي لا تجامل.
ومن ذاك تجلت لي عظمة ما أودعه الله في، فانطلقت من جديد، وقد تعانق ظاهري بباطني، وتوافقت سريرتي مع علانيتي، وانسجم قصدي مع فعلي، فكأنني ولدت ولادة أخرى، أنقى بصيرة، وأرسخ عزيمة، وأصدق توجها.
ولا يفوتني أن أثني على الخطأ الاجتماعي، حين اضطرني إلى إعادة النظر، وإعمال الفكر، ومراجعة الموروث، في أمر العادات والتقاليد، التي حسبتها يوما هذيانا، وعددتها بقايا تخاريف، حتى أدركت، بعد أن نبهني الخطأ، أنها هوية تحفظ، وجذور تمتد، وشرايين تضخ المعنى في جسد المجتمع.
ولك الشكر، أيها الخطأ الديني، حين كشفت لي الانفصام، وفضحت التناقض، وأظهرت الخصام، بين ما نؤديه من عبادات، وما ينعكس منها على واقع الحياة، وتلك الغربة التي لا يؤنس وحشتها إلا فهم معنى العبادة، وحقيقة معرفة الله، لا طقوسا تؤدى، ولا شكلا يتكرر.
ومن جملة الشكر أيضا ذاك الخطأ العاطفي، حين علمت أن القلب لا يُملك، والمشاعر لا تُوهب، وأنها مشرعة بلا نوافذ ولا أبواب، غير أن الحكمة تقتضي صونها، والعقل يفرض تحصينها، بإبعادها عن مواطن الاستقطاب والاجتذاب، حتى لا نتجرع المر ألوانا، ولا نذوق الندم أضعافا.
وأيقنت أن القدر، في نهاية المطاف، هو صاحب القرار، وأننا لسنا إلا أسبابا، نمضي بها وإليها، فينفذ فينا ومنها ذاك القرار، عدلا كان أو ابتلاء، رحمة أو امتحانا.
لقد بت مقتنعا أن الخطأ هو معلمي الأول، ومرشدي الخفي، وسراج الطريق، إذا جعلته مؤشرا للمراجعة، وميزانا للمحاسبة، ومفتاحا للإصلاح، أقيم به ذاتي، وأقوم به نفسي، وأسعد به في هذه الحياة، قبل أن يحين الحساب.
رد مع الإقتباس