الموضوع
:
مُهاجر
عرض مشاركة واحدة
يوم أمس, 09:14 PM
المشاركة
420
مُهاجر
من آل منابر ثقافية
اوسمتي
مجموع الاوسمة
: 1
تاريخ الإنضمام :
Feb 2022
رقم العضوية :
16905
المشاركات:
600
رد: مُهاجر
حين يمعن الإنسان فكره في مجريات الحياة، ويدير بصره في جنباتها، يدرك ضيق مساحته الفردية إذا ما قيست بسعة الوطن، ورحابة الأرض التي تقلّه، وامتداد السماء التي تظلّه، ونفَس الهواء الذي به تستدام الحياة ويحفظ الوجود. وفي خضم هذا الإدراك، تتجلى الهوية بوصفها الوعاء الجامع، والحصن المنيع، الذي يحفظ للإنسان ملامحه، ويصون له أصل مرجعه، ويثبّت جذوره في أرض المعنى والانتماء.
وفي ظل تسارع محموم فرض إيقاعه على الأفراد والمجتمعات، بات الإنسان منساقا مع تيار لا يتوقف، كرهًا كان ذلك أو اختيارا، فتضاعفت الحاجة إلى مرجعية تضبط المسار، وتمنح الثبات وسط التحول. ولم تكن العادات والتقاليد في هذا السياق مجرد بقايا ماض، بل كانت ولا تزال ذاكرة جمعية، وحاضنة هوية، وجسر اتصال ممتد من السلف إلى الخلف، يحفظ الخصوصية ويصون الانتماء.
غير أن هذه العادات لم تسلم من شد وجذب، ولا من صراع رؤى، بين من يتشبث بها تشبث الحريص على البقاء، ومن ينظر إليها بعين الريبة، ويرى فيها عائقا عن التقدم، أو عبئا من بقايا زمن مضى. وبين هذا وذاك، تقف الحقيقة في موضع أدق وأعمق، فليست العادات جامدة في ذاتها، ولا هي منزّهة عن المراجعة، وإنما تتشكل بزمانها ومكانها، وتكتسب معناها من سياقها ووظيفتها وأثرها.
ولعل أكثر من يحمل لواء المحافظة عليها هم كبار السن، إذ يرون فيها سر التماسك الاجتماعي، وضمانة الوحدة، وركيزة الاستمرار، فيحثون الأبناء على التمسك بها، لا تعصبا، بل خشية التفكك، وخوفا من ضياع الروابط التي نسجت المجتمع على مدى أجيال. ويشتد وجعهم حين يشهدون هجر بعض هذه القيم، لما يرونه في ذلك من تهديد لبنية التعاون، وتمزيق لخيوط الوصل بين الأفراد.
أما الأجيال المعاصرة، فقد تنوعت مواقفها، بين من يلامس العادات بحياء، ومن يتعامل معها بانتقائية، ومن أعرض عنها كلية، ظنا أن القطيعة شرط الحداثة، وأن التجاوز دليل الوعي. وهنا يبرز الخطر الحقيقي، لا في الاختلاف، بل في الانسلاخ، ولا في المراجعة، بل في المحو، إذ تخشى المجتمعات أن تفقد بذلك جينها الثقافي، وتذوب في أنماط لا تشبهها ولا تمثلها.
ومع ذلك، فإن العادات والتقاليد ليست مقدسة بذاتها، ولا ينبغي أن تتحول إلى قيود تخنق الطموح، أو أعراف صماء تجهض الأحلام. فالمطلوب ليس هدم الأصل، بل تحريره من الجمود، ولا نسف الإرث، بل غربلته بوعي. ويكون ذلك عبر بث ثقافة الحوار، وتداول الأفكار، ومناقشة الممارسات، لتمييز ما يصلح للبقاء مما يستوجب التغيير، حتى تزاح الصخور من طريق التقدم، وتخصب أرض المجتمع بالوفاق لا بالتصادم.
وفي واقع اليوم، مهما علا صوت العادة، فإن أثره يضعف إذا فرض دون فهم، ويضمحل إذا واجه واقعا متغيرا بلا تكييف. ومن هنا، يصبح التحرك الواعي ضرورة، لا اندفاعا، ويغدو التوازن مطلبا، لا ترفا، حفاظا على التماسك الأسري، وصونا للعلاقات الاجتماعية من التصدع والتشرذم.
إن العادات والتقاليد إرث ممتد، لا يعيش في المتاحف، بل في السلوك اليومي، حيث تمارس أحيانا بعفوية، وكأنها تجري في العروق كما يجري الدم في الشرايين. وهي، في جوهرها، إطار تنظيمي يضبط العلاقات، وينظم السلوك، أكثر من كونها إلزاما قهريا، ولذلك ترسخت في النفوس، واستقرت في الوجدان.
ومن هذا المنطلق، فإن المحافظة على العادات الحميدة ضرورة حضارية، لما لها من أثر إيجابي في تنظيم الحياة، وتعزيز القيم، وترسيخ الانتماء. فهي ثقافة متوارثة، وهوية متجذرة، وذاكرة جمعية، والفخر بها فخر بالأصل، والتمسك بها تمسك بالجذور. وهي جزء أصيل من تاريخ المجتمع وتراثه وحضارته، تستحق أن تصان، وأن تنقل، وأن تبقى حية، جيلا بعد جيل.
فالعادات والتقاليد ليست آنية الأثر، بل ممتدة بامتداد الإنسان، وما طرح هذا الموضوع إلا استجابة لضرورة فكرية واجتماعية، تفرض إعادة النظر، لا للهدم، بل للبناء، ولا للقطيعة، بل للتجديد المتزن. وحين تكون هذه العادات باعثة على السلام الداخلي، ومولدة للانسجام الخارجي، فإنها تتحول إلى قوة جامعة، تشد أواصر المجتمع، وتحفظ توازنه، وتضمن استمراره.
وكلما ازداد الوعي بقيمة هذا الإرث، وبأهمية توظيفه توظيفا رشيدا، كان التمسك به أعمق، وكان أثره أبقى، وكان حضوره في حياة الأفراد والمجتمعات أرسخ وأصدق.
رد مع الإقتباس