حين نحتري ونعمد إلى تفكيك معنى الولادة، يتداعى إلى أذهاننا صراخ يعلو إيذانًا بالقدوم، وتبريكات تحنو احتفاء بالحضور، ومراسم تحلو بما يشيعه الميلاد من بهجة؛ غير أن الميلاد الذي أعنيه ليس ميلاد جسد يخرج إلى الضوء، بل ميلاد ألم يتخلّق في العتمة، وبقايا كبد مكلومة نقتات مما تبقى من آثار النكبة التي أحدثها واقع حال كان بالأمس قائمًا، واليوم ارتحل… ارتحل، غير أن توابعه لم ترحل؛ إذ ما تزال مستوطنة في وطن تشرّب رهاب الأمس، وامتزج في نسيجه قسوة فرّقت الشمل، وخلّفت في الروح شقوقًا لا تندمل.
وكي أكون محقًّا وصادق المقال، نحن من كان طلائعه، ونحن من مهّد لسلطانه؛ فلا عذر لبراءة متأخرة، ولا مهرب من مسؤولية قديمة، إذ إن أكثر ما يُثقِل هذا الميلاد أنه لم يكن مفاجئًا، بل ممهورًا بتواقيعنا، ومؤجَّلًا بصمتنا، وممدود العمر بقبولنا الضمني بما كان يجب أن يُرفَض منذ البدء.
ذلك الميلاد ما كان ليُكتب يومه في مفكرة الزمن كي يُخلَّد ذكره، ولا ليُحصر في مكان أو يُؤرَّخ بساعة؛ بل هو خارج نطاق الزمان والمكان، لأنه غائر في العقل والجَنان، عميق كالجُرح حين يُوارى، طويل العمر بقدر ما نُمدّ فيه من صمت خاضع للإذلال؛ صمت يطيل بقاءه ويمنحه شرعية الاستمرار، حتى يغدو الاعتياد على القهر شكلًا من أشكال التكيّف، والسلام المزيّف قناعًا للهزيمة.
مطارق التهميش تدكّ صروح الإباء، ونداءات التحرر من ذلك الاستعمار قوبلت بالاستهجان؛ فخُدّر وجوب القيام في وجه الظلم بحجّة جاهزة: أن الفرصة لم تحِن بعد؛ وكأننا نؤجّل الخلاص باسم الحكمة، ونبرّر القعود باسم التعقّل. فالميلاد — كما نزعم — حديث العهد، ولم يبلغ الفطام! والحقيقة أن ما لم يبلغ الفطام هو جرأتنا، وما لم ينضج هو قرارنا، أما الألم فقد شاخ قبل أوانه.
تلك التجربة ما كان ينجو منها من انفصل عن يقينه بأن بعد العسر يولد البشر ويجيء الفرج، كما لم يكن ينجو منها من تغلغل اليأس إلى قلبه، حتى غدا القلب ساحة خاوية، لا تسكنها إلا ظلال الخيبة، ولا يمرّ بها إلا صدى الأسئلة المؤجلة؛ فبين يقين أُرهق بالانتظار، وأمل أُنهك بكثرة الوعود، تآكل الحدّ الفاصل بين الصبر والاستسلام، وبين الحكمة والتواطؤ، وولد الألم مرة أخرى، لا كحادثة عابرة، بل كهوية صامتة، وكقناعة تتسلل في خفاء.
غير أن الوعي، وإن أُثقِل بالخذلان، لا يموت؛ بل يتقن التواري، ويصبر حتى تشتدّ الحاجة إليه. فالكسور التي لا تُرى هي التي توسّع الروح، والجراح التي لا تُعلن هي التي تهذّب البصيرة، وتعيد ترتيب المعنى. وليس كل صمت ضعفًا، كما ليس كل ضجيج حياة؛ فثمّة صمت يُنضج الفكرة، ويهيّئها للقيام، كما تتهيأ البذرة في جوف التراب، بلا ضوء ولا شاهد، سوى وعد مؤجّل بالخروج.
ومن رحم هذا الإدراك، يتشكّل ميلاد آخر؛ ميلاد لا يستأذن أحدًا، ولا ينتظر تصفيقًا، ميلاد وعي يعرف أن النجاة لا تُمنح، بل تُنتزع، وأن الفرج لا يهبط دفعة واحدة، بل يتسلل على هيئة شجاعة صادقة، وقرار مسؤول، وخطوة صغيرة تُكذّب الخوف. هنالك يبدأ الترميم من الداخل، وتستعيد الروح حقها في الوقوف، لا باعتداد أجوف، بل باتزان يعرف حدوده، ويؤمن بقدرته.
الخاتمة المبشّرة:
ولعل أجمل ما في هذا الميلاد أنه لا يحتاج إلى زمن مثالي، ولا إلى واقع مكتمل؛ يكفيه صدق النيّة، وجرأة المراجعة، ليبدأ. فبعد كل عتمة وعي، وبعد كل انكسار معنى، وبعد كل ليل طويل، فجر لا يخلف وعده. وما دام في القلب متّسع للأمل، وفي العقل قدرة على إعادة النظر، فإن هذا الميلاد — مهما طال مخاضه — ماضٍ إلى اكتماله، لا محالة.
.