الموضوع: رسالة حب قاسية
عرض مشاركة واحدة
قديم 07-28-2025, 09:01 PM
المشاركة 9
مُهاجر
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: رسالة حب قاسية
هذه الرسالة كتبها الكاتب الروسي ( انطون تشيكوف) إلى شقيقه الذي كان يمر بأزمة نفسية حادة دفعت به إلى الإدمان من ناحية، وإلى ترك فن الرسم الذي كان يجيده من ناحية أخرى .
إنها رسالة قاسية نوعا، ولكننا حين نتأملها نجد أنها صدرت من قلب عامر بالحب، قلب يفيض على من حوله بالحب وبالرغبة في دفع الآخرين خطوة على الطريق الصحيح.
يقول تشيكوف في رسالته إلى شقيقه :
( إنك تشكو دائما من أن الناس يسيئون فهمك، أؤكد لك كأخ وصديق أني أفهمك حق الفهم، وأعرف صفاتك الطيبة كما أعرف أصابع يدي، فأنت في رأيي في غاية الطيبة والكرم والإيثار، وأنت لا تحمل حسدًا أو حقدًا لأحد، ولديك بعد هذا كله موهبة جميلة هي موهبة الفن، فن الرسم ، ولكن فيك عيبا واحدا يسبب لك كل ما تشعر به من ضيق وحزن وكآبة وهذا العيب هو ما يجعلك بعيدا على أن تكون الأخ المهذب الذي كنت أرجو أن يكون شقيقي.)
ويمضي تشيكوف في الحديث عن صفات الأخ المهذب الذي كان يرجوه حتى لا يجرح شعور أخيه يقول :
( إن الأخ المهذب لا يقيم الدنيا ويقعدها مثلا من أجل حاجة يبحث عنها ولا يدري أين وضعها ؟ وإذا عاش مع بعض الناس أو جالس بعضهم فإنه لا يرى ذلك تفضلا منه ، ويستطيع أن يتحمل الصخب والحر والبرد ولا يضيق من وجود الغرباء في البيت ، إنه صريح يتجنب التظاهر الأجوف، وليس ثرثارًا يعرض على الآخرين مشكلاته ، ولا يلتمس عطف الآخرين في امتهانه لنفسه، ولا يخدعه البريق اللامع فيحرص مثلا على أن يتعرف على وجهاء المجتمع، عليه أن يحترم موهبته إن كان موهوبا ويضحي في سبيلها ، إنه ذو حس مرهف وشعور رقيق بالجمال والقبح .

ويختم تشيكوف رسالته إلى أخيه بهذه الكلمات المؤثرة: ( إنس كل شيء في حياتك الحاضرة وعد إلينا ، إني أنتظرك، كلنا ننتظرك.)


إن هذه الرسالة تبين لنا حالة نموذج شائع في الحياة، وهو النموذج الذي يفقد التوازن أمام المشاكل التي تواجهه، فيشكو من الناس ومن الظروف ومن عقبات وعثرات الحياة.
إن هذه الحالة التي أصابت شقيق الكاتب الروسي تشيكوف قد تصيب كل واحد منا، قد تكون في لحظة من اللحظات القصيرة، وقد تمتد هذه الحالة وتتسع حتى تشمل الحياة كلها.
إن تشيكوف عالج أخاه بالحب والحكمة العميقة لأن الحياة الناجحة هي الحياة المنظمة التي تخضع لرقابة دقيقة هي رقابة الإنسان على نفسه وتصرفه وأن يواجه المشاكل التي تحيطه بدلا من الهروب منها ، وأن يتصبّر على نكبات وتصاريف الدهر .

يقول الشاعر :

إذا ما أتاك الدهر يوما بنكبة
فافرغ لها صبرا وأوسع لها صبرا
فإن تصاريف الزمان عجيبة
فيوما ترى يسرا ويوما ترى عسرا


وتقول الحكمة :
إذا شئت أن تزداد قدرا ورفعة
فلِن وتواضع واترك الكبر والعجبا

ما أروعَ الكلماتِ حين تخرجُ من أعماقِ الروح، كالنورِ يخترقُ ظلامَ اليأس، أو كالندى يُحيي أرضاً قاحلة! رسالةُ تشيكوفَ لأخيهِ ليست مجردَ حروفٍ على ورق، بل هي دواءٌ مرُّ المذاق، لكنه شفاءٌ للقلبِ والعقل.

القسوةُ التي تُخفي وراءها حناناً:
لقد مزجَ تشيكوفَ في رسالتِه بين الصرامةِ والرقة،فكان كالطبيبِ الحكيمِ الذي لا يُخفي التشخيصَ خشيةَ الألم، لكنه يمسحُ الجرحَ بلطفٍ بعدَ الجراحة. نراهُ يعددُ فضائلَ أخيهِ بصدقٍ – طيبةً، كرماً، موهبةً – لكنه لا يترددُ في كشفِ العيبِ الذي يجرُّه إلى الهاوية: الفوضى الداخليةُ والهروبُ من المواجهة.

وصفةُ "الأخِ المهذب":
بتفصيلٍ دقيقٍ، يرسمُ تشيكوفُ صورةَ الإنسانِ المتزنِ الذي يُحسنُ العيشَ بكرامةٍ دون ضجيج. فهو لا يثورُ لأتفهِ الأسباب، ولا يتعالى على أحد، ويصبرُ على المكارهِ كالجبلِ الراسخ. والأجملُ أنه يضعُ
الموهبةَ فوقَ كلِّ اعتبار، فلا يهدرُها بحثاً عن مجدٍ زائفٍ أو علاقاتٍ سطحية. كأنه يقولُ لأخيه: "كن فناناً بحقٍّ، لا ظلاً لفنٍّ ضائع!"

الخاتمةُ التي تهزُّ المشاعر:
تلك العبارةُ الأخيرة – "إني أنتظرك، كلنا ننتظرك"– كفيلةٌ بإذابةِ الجليدِ حولَ أيِّ قلب! فهي ليست دعوةً للعودةِ إلى المكانِ فحسب، بل إلى الحياةِ نفسها.كم تحتاجُ النفوسُ المنهكةُ إلى مَن يمدُّ لها يداً ويقول: "تعالَ، نحنُ هنا لك" دونَ شفقةٍ مزيفةٍ أو لومٍ قاسٍ.

العبرةُ الخالدة:
ما أصعبَ أن تُحبَّ بإخلاصٍ فلا تخدع، وتنتقدَ بشجاعةٍ فلا تُجرح!رسالةُ تشيكوفَ تذكرنا بأنَّ الحبَّ الحقيقيَّ ليس تملقاً، والنصحَ الصادقَ ليس هدماً.وفي زمنٍ يغرقُ الكثيرونَ في دوامةِ الشكوى والهروب، تبقى كلماتُه مصباحاً لمن أرادَ أن ينهضَ من كبوته.


دمتم بخير ...