الموضوع: مع زينب
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
4

المشاهدات
32
 
مُهاجر
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


مُهاجر is on a distinguished road

    موجود

المشاركات
417

+التقييم
0.34

تاريخ التسجيل
Feb 2022

الاقامة
مسقط

رقم العضوية
16905
اليوم, 05:00 AM
المشاركة 1
اليوم, 05:00 AM
المشاركة 1
افتراضي مع زينب
في طور النية لكتابة بعض الخواطر عن تلك الرحلة التي لا تزال قائمة بيني وبين مُهجة الروح، والتي كانت امتدادًا لعمرٍ تقاسمنا فيه الحلو والمُر، بين فرح العافية وحزن المرض، بين رجاء الشفاء والخوف من فاجعة الزوال. تناقضات عشناها معًا، وما وَاسَى رحلتنا أن كِلَينا تشبَّع بالإيمان وارتوى من معين اليقين. ومن ذلك المنبع عشنا على ضفاف الرجاء.

حبيبة القلب زينب /
خصصتُ لها نصيبًا من اسمي، وقاسمتُها أنفاسي ونبضي. عشنا معًا منذ الصغر، وخضنا غمار الحياة تحت سقفٍ واحد. لعبنا معًا، بكينا معًا، غنينا معًا، وسهرنا معًا. رسمنا خُطط الحياة معًا، ووضعنا الأهداف معًا.

كانت زينب — وهي رضيعة — كثيرة البكاء، ولستُ أبالغ إن قلتُ إن بكاءها كان يملأ علينا الليل والنهار، فلا نفارقها حتى تهدأ صرخاتها التي كانت تطلقها ألمًا. ولعل سبب ذلك البكاء يعود إلى ما رافق ولادتها من ابتلاء.

لكننا تجاوزنا تلك المرحلة، وقلَّ بكاؤها بعد أن تجاوزت أشهرها الأولى. غير أن مسيرة حياتها لم تكن كحياة سائر الأطفال! ومع ذلك، في خضم المعاناة، كان الأمل يطرق نوافذ حياتنا، وكنا نستقي الصبر من خزائن ربٍّ رحيم.

فعند بلوغها السنة الأولى، خضعت للعملية الجراحية الأولى، وكان النجاح حليفها بفضل الله أولًا، ثم بمهارة الأطباء المشكورة. ومنذ ذلك الحين، تغير حالنا، فغادر الحزن بيتنا وحلَّ الفرح محلَّه، فعمَّت الفرحة أرجاء حياتنا.

لقد توقفتُ عمدًا عند هذه المرحلة لأبيِّن مدى المعاناة لمن كان له أولاد كمثل زينب، وإن اختلفت درجة المحنة أو مدتها.

**وهنا:**
نتجاوز تلك المرحلة لنعرج على مرحلة الابتدائية التي أذكرها وأتذكرها. كانت زينب تُحبني حبًّا يبلغ حد الإغراق، فكانت تُقلدني وتسعى لكسب وُدّي، تتبع أثري، تستقصي ميولي، وتُثير فضولي. أما أنا، فكنت أفتش في خبايا فكرها، أتأمل ميولها، وأستكشف مواهبها، كأنها عجينةٌ طريّة تحتاج إلى من يُشكِّلها، أو أرضٌ خصبة تنتظر البذرة التي تُغرس فيها.

كانت لي مكتبة صغيرة في زاوية المجلس، أقرأ فيها كلما سنحت الفرصة، وكنت — ولا أزال — نَهِمًا بقراءة الكتب. وكانت زينب تأتي في كل مرة لتعبث ببعض الكتب، محاولةً تقليدي، سعيًا لكسب مودتي وتوثيق محبتي، وإعلان تفضيلي لها على سائر إخوانها!

رأيتُ في تعلقها بي فرصةً للتعليم، فليس هناك أفضل من غرس المعرفة في قلب وعقل مُريدٍ متلهف. فالإنسان يقبل التوجيه ممن انشرح له قلبه وقرَّبه إليه. ومن هذا المنطلق، كنت أطلب من زينب أن تأتي بكتابٍ لتقرأه عليَّ، ومن هناك كانت البداية.

اعتادت أن تقرأ الكتب معي في السيارة والبيت، وفي كل فرصة تجمعنا.

أما باقي الأولاد، فكانت نار الغيرة تشتعل في قلوبهم، وزينب مَنْ تُذكيها باستفزازهم وتدليلها من قِبلي، رغم وجود ابنتي الصغرى!


**زينب:**

حين تجاوزت المرحلة الابتدائية، حملت معها شغف القراءة حتى باتت لها شريان حياة. وهي التي كانت تحرص على اقتناء الكتب، دار بيننا حوارٌ منها أوقفتني عند بعض العقبات التي أحاول جاهدًا تخطّيها، غير أني في ذلك كمن يهرب إلى الأمام. وفي كل مرة أحاول مواجهة العقبة، أسوق لنفسي المبررات التي لا تتجاوز في أصلها كونها مسكّناتٍ مؤقتة!

هي تقرأ ما أكتبه — والغالب منه — وقد أبدَتْ لي رغبتها في أن تترك فيه بصمتها من تساؤلاتٍ وملاحظات. قصدتُ من ذلك أن أُحَرِّكَ فيها مكامنَ النقد، وأن تتمعن فيما تقرأ. وقد أخبرتها بأن القارئ لا بد أن يُمسك الكتاب بيدٍ ناقدة، ويُسَلِّط عليه سهامَ التحليل، لأنه بذلك يستوعب ما يقرأ حقَّ الاستيعاب.

ومن ذلك:
وجدَتْ في ما أكتبه بعضَ الهنّات من أخطاء إملائية ونحوية، جاءت بها من معلمتها. وقد أبدت المعلمة إعجابها بما أكتبه.

فقالت زينب:
لماذا لا تجتهد في تعلُّم النحو؟!"


لا أذيعُكم سرًا :
بأنها وضعت "المِقْصَلَ على المَفْصِل"، وأنها اقتحمت بذلك طَرقًا كانت مقفرةً بمخاوفي، وذلك الإحباط الذي عانيتُ منه أعوامًا! رغم وجود أصدقاء وإخوة لي من جَبَابرة اللغة، ممن يُشار إليهم بالبَنان.


وبالفعل:
بدأت رحلة التعلُّم حينها، غير أن الإخفاق كان نصيبي في كل مرة، وأسبابُ ذلك تتلخّص في: قلة الصبر، وصعوبة الهضم، وتسويف الأمر!

اخرجتني "زينب" قهرًا من صمتي، ومن تلك المعاناة مع بعض من حملوا راية (العلم)، وظنوا أنفسهم قِمَمًا علميةً لا يُستَظَلُّ بظلّها إلا من انقطعت به سُبُل الاجتهاد، وعكف على تلقي العلم من أيدي المهرة، ممن ادّعوا المعجزات والمقامات! وفي حقيقة أمرهم، لم يكن إلا الغرور والفراغ من أخلاق طلاب العلم!

**— فبعض المواقف إما أن تُحطم همتك، وإما أن تزيدها صلابة —**

قالت زينب:
— اذكرْ لي مثالًا لبعض المواقف التي أثّرت عليك ممن ذكرتَ من أولئك المغرورين؟

قلتُ:
— مرةً طلبتُ من أحدهم إبداء ملاحظاته على ما أكتبه، فتأخر في الرد، فلما أعَدْتُ السؤال، أجاب:
"إنك لست جديرًا بأن أتوقف عند ما تكتب، فكفى بأنك تكتب!"

قالت:
— وهل كان هناك من يُشجّعك في المقابل؟

قلتُ:
— نعم، كانت هناك أديبةٌ من عمالقة اللغة، وناقدةٌ للشعر العربي، يُثني عليها عمداء الأدب. دخلتُ يومًا منتداهم، فوجدتُه يزخر بأعلام الأدب والشعر، ولا أخفيكِ أني إلى الآن لا أدرك كيف تجرأت على دخول ذلك العرين بمستواي المتواضع!

كانت البداية بإعجاب الأعضاء — وهنا يكون احتضان المبتدئين — لكن الناقدة الكبيرة كانت تُصحح لي الهنات، وتتألم لأخطائي، غير أن أسلوبها في النقد جعلني أتقبله منها. دار بيننا حوارٌ عميقٌ حتى أعلنتْ فجأةً أنها لن تنتقدني بعد اليوم!

قالت زينب:
— ولماذا؟!

قلتُ:
— خافت أن أهجرَ المكان! — ومَن أنا أمام أولئك العمالقة؟! —
ثم أرسلتْ إليّ رسالةً على الخاص تتوسل فيها أن أبقى، ولديَّ بعضٌ من رسائلها التي تُجسّد عظمةَ تلك الأديبة في رعاية المواهب وتصحيح مسارها دون تجريح.

قالت زينب:
— أريدُ قراءةَ بعض رسائلها!

قلتُ:
ها هي:

وَحينَ قَرَأْتُها قالَتْ :
شتان بين هذه وتلك!
تلكَ مَطارقُ تحطمُ المبتدئين،
وهذه أنفاسٌ تُحيي الهممَ!