عرض مشاركة واحدة
قديم 02-08-2025, 05:17 AM
المشاركة 5
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كتابنا (كيف نفهم ما حدث في سوريا؟!)

وبمجرد إعلان الوحدة تفجرت صاعقة أخرى في الجبهة المضادة من تركيا والسعودية والعراق والولايات المتحدة وإسرائيل.
فالوحدة بين مصـر وسوريا مَثّلت تجاوزا لخط أحمر بالغ الخطورة يتمثل في أن أي توحد بين الدولتين كان معناه إفشال أو تحجيم المشـروع الصهيوني الذي بذل فيه الغرب أقصـى قدراته للفصل بين مصر والشام.
ولم يكن مُتَصورا أن يتم السماح أو القبول بمثل هذا مهما كانت الأسباب.
لذلك تحركت الجبهة الأمريكية عن طريق (حلف بغداد) الممثل الرسمي للمصالح الأمريكية في الشـرق الأوسط، وعقد الحلف اجتماعا طارئا بكامل تشكيله في (أنقرة) بمشاركة البريطانيين والأمريكيين وطبقا لمحاضر الاجتماع
فقد اتفق المجتمعون على أن خطوة التحالف المصـري السوري على مستوى الوحدة الاندماجية لا يعني فقط تعملق الجبهة القومية بل يعني ما هو أخطر وهو توثيق التحالف القومي السوفياتي لمجابهة المصالح الأمريكية في المنطقة.
ونظرا للشعبية الجماهيرية الكاسحة للحركة القومية التي تعبر عن طموح الجماهير المقهورة فإن الخطر سيمتد حتما إلى العراق والسعودية كما أن الوحدة إذا نجحت فلن يتبقى وقت طويل حتى تبتلع الدولة المتحدة الأردن ولبنان.
وأعلن (نوري السعيد) رئيس الوزراء العراقي الممثل للعرش الهاشمي في بغداد أن سند الوحدة الحقيقي يتمثل في الروس وجمال عبد الناصر ووافقه على ذلك مدير المخابرات الأمريكية (آلان دالاس)

غير أن المحاولة الثانية بدأ التخطيط المباشر لها دون انتظار عن طريق اشتراك جميع أعضاء الحلف
ورغم توافر الأسباب القوية لبقاء الوحدة إلا أن عوامل اهتزازها كانت أقوى وأفدح بكثير من النوايا الطيبة التي وقفت خلف الإسراع بتنفيذها.
هذه العوامل كان منها العوامل الخارجية من الجبهة الأمريكية وحلفائها، وعوامل داخلية في قلب السلطة في مصـر وسوريا كانت هي السبب الرئيسـي لتمهيد الأرض أمام الجبهة الأمريكية للنجاح في ضرب الوحدة في مقتل عقب ثلاث سنوات فقط من اتمامها
والأسباب الخارجية مفهومة لأنه من الطبيعي ألا تسكت جبهة الأمريكيين عما يحدث وتراه تهديدا مباشرا لمصالحها على نحو ما سبق شرحه
أما الأسباب الداخلية المؤسفة فهي ذات الأسباب التي وقفت خلف تخريب أي إنجاز أو نصـر عربي تم تنفيذه في عصر الصراع القومي.
فالذاتية الشديدة والصـراع على التصدر وتقديم المصالح الشخصية والأحقاد الموروثة كانت دوما هي الأرض الممهدة التي يسهل النفاذ منها لتحطيم كل محاولة تحرر جادة دارت في تلك المرحلة.
وبدأت أول الأزمات بتعجل عبد الناصر غير المبرر بتطبيق القوانين الاشتراكية في سوريا رغم معرفته بطبيعة المجتمع السوري الداخلية التي تقوم على التجارة الحرة منذ قرون طويلة.
فالسوريون تجار بطبيعتهم والاشتراكية تُضَاد الاستثمار الحر وتقيده وتجعل الدولة في مكانه حيث تقوم الدولة بممارسة دور المستثمر الرئيسـي لصالح الشعب بعد عهد طويل من الاستغلال الرأسمالي الأجنبي للبلاد بمشاركة الأنظمة الملكية.
ورغم أن عبد الناصر كان يدرك تماما أن إتمام الوحدة الفورية بشكل متعجل اعتمادا على النوايا الحسنة لن يكفي أبدا لتطبيق السياسة الاشتراكية في سوريا وأن الأمر يحتاج تمهيدا طويلا على الأرض حتى يقتنع الشعب بأهمية ذلك.
رغم هذا إلا أن إحساس عبد الناصر بأن الوحدة وقد تمت فعلا فهو ملزم بعدم التفرقة بين سياسة الإقليمين السوري والمصري.
ولهذا بادر على الفور بالتطبيق، فانقشعت الأماني الطيبة وبدأت الاحتجاجات المكتومة على سياسة الاشتراكية في الظهور وقامت الأطراف الخارجية بتغذيتها بالطبع.
والسبب الثاني الرئيسـي أن الحزب الشيوعي السوري الذي يقوده (خالد بكداش) وهو رجل السوفيات الأول في سوريا، لم يكن موافقا على الوحدة مطلقا وكان ينتمي ويسعى –قبل الوحدة- لترسيخ الحزب الشيوعي والوصول للحكم في سوريا اعتمادا على قوة الحزب فيها
لكن طوفان الوحدة داهمه على غير انتظار وهنا رفض بكداش قرار الوحدة بحل الحزب وأعلن تجميد نشاطه ثم فر من سوريا إلى بلغاريا قبل إتمام الاستفتاء على الوحدة بيوم واحد.

والواقع أن دور الحزب الشيوعي السوري وَرَجُلَه خالد بكداش كان كارثيا لأنه تمكن من إقناع القيادة السوفياتية بأن تأييدهم للوحدة مع مصـر يمنع عنهم الفرصة الأكبر لإيجاد موطئ قدم لحكم الشيوعيين في العالم العربي لا سيما وأن عبد الناصر يصـر إصرارا لا هوادة فيه على سياسة عدم الانحياز وعلى التعامل المستقل مع الاتحاد السوفياتي كتحالف يحترم استقلالية مصـر ولهذا يرفض تماما النداءات السوفياتية المتكررة بأن يخفف قبضته الأمنية عن الأحزاب اليسارية والشيوعية ويمنحها الفرصة للعمل وهو ما تحمله السوفيات على مضض نظرا لخطورة ومكانة عبد الناصر في الحركة القومية.
فإذا تقبل السوفيات الوحدة المصـرية مع سوريا فهذا معناه الضياع المؤكد للأمل السوفياتي في تغيير سوريا للعقيدة الشيوعية الكاملة
حيث أن الحزب الشيوعي السوري هو الحزب الشيوعي العربي الوحيد الذي اعترف به السوفيات كحزب قوي وله أرضية مناسبة أمام بقية الأحزاب الشيوعية في العالم العربي فقد كانت دوائر ديدانية كما وصفها بكداش بنفسه
وتمكن بكداش من تغيير وجهة النظر السوفيات الذين اقتنعوا بأن مد سطوة الناصرية إلى سوريا ليس في صالح السوفيات وأن الأولى لهم أن يؤيدوا وصول الأحزاب الشيوعية للحكم في سوريا
وبناء على ذلك نشطت الخلايا الشيوعية داخل الجيش السوري من جديد سواء من الحزب الشيوعي نفسه أو من حزب البعث العراقي الذي كان له أرضية فاعلة أيضا على الأرض السورية.
وعلى نفس الخط نشطت الخلايا المدعومة خارجيا من الولايات المتحدة والسعودية والأردن وتعاونت معها فئات الضباط المتعاطفين مع (الإخوان المسلمين) وهؤلاء جميعا جمعتهم المصلحة الواحدة المتمثلة في ضرورة التصدي للتيار القومي مع العداء الشديد للناصريين
وثالث الأسباب التي عجلت بانهيار الوحدة.
هو سياسة (عبد الحكيم عامر) و(عبد الحميد السراج) في داخل سوريا.
ورغم تناقض الرجلين حيث لم تكن العلاقات بينهما ودية، إلا أن كليهما تسببا بالفشل والإهمال والدكتاتورية وبالغفلة عن حقيقة ما يجري في الجيش السوري في أن تصبح الأرض خصبة لإتمام حركة الانفصال داخل الجيش وكانت المؤامرة تُدار من خلال مكتب (عبد الحكيم عامر) نفسه حيث كان مدير مكتبه في سوريا هو (عبد الكريم النحلاوي) والذي قاد حركة التخطيط للانقلاب بمعاونة أحد زملائه (حيدر الكزبري)
و(حيدر الكزبري) هو أحد أقارب (مأمون الكزبري) الذي قاد أول محاولة انقلاب للخلاص من ضباط الحركة القومية بالتعاون مع المخابرات الأمريكية وهي المحاولة فشلت وحوكم بسببها كما سبق أن أوضحنا
وحدث الانقلاب كما هو معروف وتم طرد عبد الحكيم عامر من سوريا وإلقاء القبض على (عبد الحميد السراج) الذي تمكنت مصر من تهريبه فيما بعد.
وعندما وقع الانقلاب كان التصـرف المصـري التلقائي هو التدخل العسكري بقوات الصاعقة لإعادة الأمور على ما كانت عليه، خاصة وأن الانقلاب كان مكشوف الوجه إلى أقصـى مدى عندما سارعت السعودية والأردن بالاعتراف به وتلا ذلك اعتراف الاتحاد السوفياتي أيضا.
وبعد تأييد السوفيات تراجع عبد الناصر عن فكرة فرض إعادة الوحدة بالقوة خاصة بعد أن ظهرت أصوات كثيرة داعمة لحركة الانفصاليين بعد أن خدعوا الناس بأنهم لم يقوموا ضد عبد الناصر أو الوحدة أو الاشتراكية وإنما حركتهم قامت لتصحيح الجوانب السلبية التي عانى منها السوريون جراء تصرفات بعض المسئولين المصريين والسوريين
وقد بدا غريبا أن يبادر السوفيات للاعتراف بانقلاب النحلاوي وهو انقلاب أمريكي بالكامل، إلا أن الوثائق كشفت لنا كيف أن السوفيات تدخلوا مباشرة لدى عبد الناصر لمنعه من التحرك لإعادة الوحدة وإنهاء الانقلاب وطلبوا رسميا ترك سوريا وشأنها!

وكانت وجهة النظر السوفياتية في ذلك تعتمد على أمرين بالغي الأهمية دفعهم لحماية الانقلاب المدعوم من أعدائهم عن طريق تطبيق سياسة (الاستفادة من الكوارث)
الأمر الأول:
قبل الانفصال بثلاثة أعوام وقع انقلاب العراق بقيادة (عبد الكريم قاسم) و(عبد السلام عارف) ولم يكن الانقلاب شيوعيا لكنه كالعادة كان قوميا يضاد النفوذ الغربي في المنطقة ونظرا لخطورة مركز العراق فقد خسـر الأمريكيون وحلفائهم في المنطقة خسارة فادحة بسقوط حكم الهاشميين بقيادة الملك (فيصل بن الحسين) في العراق والذي تم إعدامه هو وأسرته مما ضاعف من الأخطار المحيطة بالعرش الهاشمي في الأردن
ورغم أن الانقلاب لم يكن شيوعيا إلا أن النفوذ الحزبي الشيوعي كان فاعلا فيه، وهنا تقدم (خالد بكداش) للسوفيات مرة أخرى كي يقوموا باستغلال الفرصة وتدعيمه للثأر من عبد الناصر وانتزاع سوريا منه قبل أن يبادر هو –بعد انقلاب العراق- بضم العراق للاتحاد مع مصر وبهذا تكون نهاية طموح الحركة الشيوعية تماما في الوصول للحكم
وبالفعل سافر خالد بكداش للعراق وتواصل مع قيادات الشيوعية وحزب البعث وتقارب بالفعل مع قادة الانقلاب واستغل جنون وعته قائد الانقلاب (عبد الكريم قاسم) والذي كان عسكريا من طراز (القذافي) و(صدام حسين) من حيث جنون العظمة والبحث عن الزعامة، وهو ما جعله يفتح النار على مصر وعبد الناصر ويحاول بكل الطرق أن يحل محله في قيادة العالم العربي –كما يتوهم- للدرجة التي أطلق فيها على نفسه لقب (الزعيم الأوحد).
ومن خلال نفوذ الشيوعيين على (عبد الكريم قاسم) تم التواصل مجددا بين خالد بكداش وخلايا الشيوعيين في الجيش والمؤسسات السورية.
الأمر الثاني:
عندما قام انقلاب النحلاوي وكان واضحا أمام الجميع أنه انقلاب نخبوي يمثل طبقة الرأسمالية السورية واتصالاته مع الجبهة الأمريكية كانت بالغة الوضوح من خلال اختيار رجاله وعلى رأسهم (مأمون الكزبري) لرياسة الحكومة
فأدرك السوفيات أن مستقبل حركة النحلاوي محدودا جدا، وبالتالي فإن القوة المرشحة لاحتلال مكانه هي قوة الشيوعيين داخل الجيش مدعومة بفرع حزب البعث العراقي.
وعليه فلم ير السوفيات ضررا من تأييد الانفصال السوري لثقتهم في أنهم سيكسبون سوريا المنفصلة لنفوذهم وهو ما وقع فعلا بعد ذلك خلال عامين فقط من وقوع الانفصال.

والواقع أن قراءة السوفيات وتخطيط خالد بكداش كان بارعا ونجح في قراءة المشهد بدقة عالية
فرغم التأييد الذي لاقاه الانقلاب من بعض فئات الشعب والجيش إلا أنه بعد فترة وجيزة أدرك ضباط الجيش ومعظم النخب السورية مدى فداحة الانقلاب وانهيار الوحدة والتهديد الماثل أمامهم بعودة أجواء الانقلابات العسكرية وفتح المجال أمام النفوذ الأجنبي مجددا.
وهو الذي دعا بعد ذلك اللواء (عبد الكريم زهر الدين) قائد الجيش السوري للندم على قبوله بعرض النحلاوي لقيادة الجيش رغم أنه لم يكن من قيادات انقلابه.
وكتب الرجل مذكراته –كما يقول هيكل- وشرح فيها المأزق الذي وقع فيه بعد أن اتضحت أبعاد انقلاب النحلاوي ودور الغرب في تنفيذه.
ولم يلبث الأمر إلا قليلا حتى تنبه الضباط المستقلون والشعب بأكمله لما جرى، وعليه قاطع الشعب الانتخابات التي دعا لها النحلاوي مقاطعة شبه كاملة خاصة بعد أن تولى (مأمون الكزبري) رياسة الوزارة في سوريا.
وهنا لجأ النحلاوي إلى استخدام القبضة الأمنية وقام بتنحية أكثر من 73 قيادة من الجيش السوري عن طريق اعفائهم من مناصبهم وقام بإجراء الانتخابات رغم المقاطعة الشعبية وهي الانتخابات التي جاءت بالسيد (ناظم القدسي) رئيسا للجمهورية وهو –كالعادة- من الحرس القديم ومن رجال رئيس الوزراء العراقي (نوري السعيد) وأحد رجال حلف بغداد.

ولم تمض شهور قليلة على هذه الأحداث حتى جاء إلى مصـر ثلاثة من ضباط حركة الانفصال أنفسهم وهم العميد (زهير عقيل) والعقيد (محمد منصور) والرائد (فايز الرفاعي)
ووافق عبد الناصر على مقابلتهم بعد أن توسط لهم اللواء (جمال عقيل) أحد قيادات الجيش السوري التي رفضت الانفصال وبقيت في القاهرة.
وكانت رحلة الضباط الثلاث لعبد الناصر فيها اعتراف كامل بأن (عبد الكريم النحلاوي) قام باستغلالهم وتضليلهم ولم تكن الحركة كما شرحها لهم إلا حركة عصيان محدودة لرفض بعض التصـرفات من القيادة المصـرية في سوريا فضلا على رفضهم لتحكمات (عبد الحميد السراج)
غير أنهم فوجئوا بعد ذلك بأن النحلاوي أخذ تأييد العديد من الفرق في الجيش ومن بعض النخب القديمة بعد وقوع الانقلاب وسارت الأمور سيرها الواقع الآن
وأن الوضع السوري الآن ينذر بانتهاء حكم حركة الانفصال حتما.
لكن عبد الناصر كان يدرك تماما أنه من الصعوبة بمكان إعادة العجلة إلى الوراء، وأن إعادة الوحدة بالقوة العسكرية وبتدخل مصري ستكون له عواقب وخيمة على سوريا نفسها.
والوحدة بين مصـر وسوريا ليست مقصورة على الوحدة الاندماجية لأن البلدين بينما ارتباط كامل تاريخيا وسياسيا وعقائديا لهذا من الحكمة بمكان إعادة استغلال النفوذ المصـري في سوريا لضبط أمورها قدر الإمكان.
ولم تمض ستة أشهر على واقعة الانقلاب حتى حدث فيها انقلاب داخلي من خلال حركة النحلاوي نفسه، وسارت الأمور سَيْرها المعروف حتى سقط حكم النحلاوي بانقلاب عسكري شامل ومنظم من الشيوعيين بعد أقل من ثلاثة أعوام عن طريق الفريق (أمين الحافظ) ووصل حزب البعث رسميا إلى السلطة في دمشق، ليصبح حزب البعث حاكما في سوريا والعراق.
وهنا بدأ الفصل الأكثر سوداوية في سوريا، ليس فقط لعودة سياسة الانقلابات المتعددة والصـراع المسلح.
بل بدأ هذا الفصل لأن تلك المرحلة كانت مؤذنة بظهور شخصية (حافظ الأسد) على مسـرح التاريخ السوري لتبدأ رحلته السياسية والعسكرية بمشاركة ضابط علوي آخر هو (صلاح جديد) وتمكن بعدها من التدرج في المناصب حتى الوصول لمنصب وزير الدفاع ثم لمنصب الرياسة.
وهنا يأتي الوقت اللازم لنشـرح فيه ذلك اللغز المعضلة الذي يتمثل في بقاء حافظ الأسد على عرش سوريا ثم توريثه لابنه خلال خمسين عاما كاملة رغم أنهما ينتميان لأقل الطوائف السورية نفوذا، ورغم أن سوريا قبله كانت بلدا لا يهدأ فيه حكم أو يستقر إلا لسنوات معدودة!!

يتبع إن شاء الله