عرض مشاركة واحدة
قديم 02-08-2025, 05:06 AM
المشاركة 4
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كتابنا (كيف نفهم ما حدث في سوريا؟!)

وكان الشعب نفسه بعيدا عن تلك الصـراعات وليس له سهم فيها حتى فوجئ البريطانيون والأمريكيون والفرنسيون معا بما لم يحسبوا له حسابا وهو أن صراعهم عَبْر حلفائهم من القيادات العسكرية وأنظمة الحكم في العراق وسوريا قد حَرّك ماردا –قلما يبادر بالحركة- وهو الشعوب وشباب الضباط والجنود الذين يرون أوطانهم نهبا لصـراعات الاستعمار التي يتم استخدامهم فيها كقطع الشطرنج.

وهو ما فَجّر غضبا عارما بينهم دعمته أحداث المنطقة بشكل غير متوقع واتضح فيما يلي:
أولا:
كانت مشاعر الشعوب وعوام الجيوش العربية في المنطقة تعاني مرارة هزيمة النكبة وضياع فلسطين لا سيما وأنهم اكتشفوا عقب الحرب أنها كانت حربا تحت الرقابة الغربية وتم تصميمها لهزيمة ساحقة تسمح للكيان الإسرائيلي بالفوز عسكريا بشكل يُمَكّنه من الاستيلاء على أراض أبعد مساحة من قرار التقسيم الصادر من الأمم المتحدة في ذلك الوقت.
ورغم أن الشعوب –غالبا- كانت خارج حسابات الاحتلال والأنظمة العميلة له إلا أن العامل الذي جعل لقوة الشعوب تأثيرا ضخما هي أن المقاومة الشعبية أخذت طابعا مسلحا منذ العشـرينيات في فلسطين وعموم الشام ومصـر فضلا على وجود الانتماء الوطني المستقل لدى صغار الضباط في جيوش المنطقة مما تسبب في تكوين خلايا المقاومة داخل المكون العسكري

ثانيا:
فوجئ الغرب أيضا بنجاح الانقلاب العسكري في مصـر بحركة الضباط في يوليو 1952م، واعتبره الأمريكيون مأزقا للبريطانيين يصب في مصلحة اقتلاع النفوذ البريطاني ووراثته لهذا لم يتدخلوا إلى جوار البريطانيين، وتركوهم لمواجهة وتيرة الأحداث التي أفضت فيما بعد لمفاوضات استقلال مصـر وجلاء الانجليز عنها جلاءً اضطراريا لأن بريطانيا لو أرادت التدخل بالقوة العسكرية لتغيير الوضع وإبقاء النظام الملكي فهذا معناه أن تقوم إنجلترا بإعادة احتلال مصر مجددا.
ولم يكن هذا متاحا أمام حكومة (تشـرشل) التي لم تعد تملك القوة الكافية لمثل هذا التحرك لخوض حرب جديدة في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية التي تعانيها، ولم تكن القوة البريطانية في مصـر تسمح بهذا من الأصل بعد أن قامت بريطانيا بسحب قواتها والاحتفاظ بقوة عسكرية واحدة في القناة طبقا للاتفاقيات التي أبرمتها حكومات ما قبل ثورة يوليو وآخرها معاهدة (1936)، لهذا تخلت بريطانيا عن دعم (فاروق) وركزت مفاوضاتها مع الحكومة الجديدة في محاولة تنفيذ الانسحاب بأقل الخسائر نظير تأمين مواصلات الانجليز في قناة السويس
وهنا فتحت الولايات المتحدة خطا للاتصال مع السلطة الجديدة في مصـر وكانت الولايات المتحدة تحت قيادة (أيزنهاور) تتعامل في قضية مصـر والشام بشكل مستقل نوعا ما، ولم تكن العلاقات الأمريكية الإسرائيلية قد تشكلت استراتيجيا بعد.
ولهذا كان الفريق الأكثر نفوذا وتأثيرا داخل إدارة أيزنهاور هو الفريق الذي كان يؤيد مد خطوط التواصل مع العرب بالتوازي مع إسرائيل باعتبار أن المصالح الأمريكية قد تشكلت بالفعل مع المنطقة العربية

ثالثا:
في عام 1956م، وقع الحدث الذي غَيّر وجه التحالفات في المنطقة لفترة طويلة، وهو وقوع (حرب السويس) أو العدوان الثلاثي والتي كانت حدثا مفصليا على مستوى المنطقة بأكملها.
وكان الخطأ الأمريكي في تلك الحرب أنهم نظروا لمصالحهم الضيقة في طرد النفوذ البريطاني ولم يحسنوا دراسة ومعنى انتصار مصر في تلك المعركة.
لهذا تدخلوا مع السوفيات كحلفاء لطرد الانجليز والفرنسيين وصدر إنذار (بولجانين) الشهير الذي هدد فيه السوفيات باستخدام السلاح النووي ضد بريطانيا وفرنسا إذا لم ينسحبوا من مصر.
وكانت المعركة التي استمرت لعدة أشهر معركة تحالف فيها العرب مجددا ضد هيمنة الاستعمار القديم، حيث صمدت المقاومة الشعبية في مصـر أمام قوات الهجوم في نفس الوقت الذي تحركت فيه المشاعر الوطنية في سوريا فقام شباب الضباط في الجيش السوري بقيادة (عبد الحميد السـراج) بتفجير خطوط امداد البترول الواصلة بين العراق وسواحل سوريا مما شكل ضغطا هائلا على الحلفاء.
فضلا على ما قامت به المقاومة الشعبية في الجزيرة العربية وغيرها ممن انضموا للمقاومة الشعبية في مصـر وفي بلادهم وتمكنوا من إلحاق الضـرر بالمؤسسات التجارية التابعة للبريطانيين والفرنسيين.
وأصبح انتصار السويس علامة فارقة حقيقية نتج عنها قيام الحركة القومية الحديثة وتصاعدت فيها شعبية (جمال عبد الناصر) وهنا استعادت مصـر مكانتها القديمة في قيادة المنطقة، بالإضافة إلى انجاز يتحقق لأول مرة وهو الاتحاد الفعلي بين الأنظمة العربية القائمة في تلك الفترة واستجابتهم النادرة لجيشان عاطفة الشعوب وإهمالهم الضغوط الأجنبية وكانت التوحد يشمل مناطق الشام والجزيرة التي أرسلت السعودية فيها بعض قواتها ونسقت مع الجبهة المصرية لردع العدوان.
وَنَجَم عن ذلك علاقة سياسية وثيقة بين (عبد الناصر) والملك (سعود) عززته اتفاقيات التعاون السياسي والعسكري في القضايا القومية المشتركة.
وكان هذا جرس إنذار هائل لبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة نظرا لما يسببه هذا التوحد من تعطيل للمصالح الاستراتيجية للغرب إذا استمر وتصاعد بهذا الشكل

رابعا:
أخطأ الأمريكيون قراءة المشهد لأنهم ظنوا بأن دعمهم للمصـريين سينتج عنه قبول النظام في مصـر الانضمام للعباءة الأمريكية والقبول بصلح دائم مع إسرائيل والقبول أيضا بسياسة التحالفات العسكرية مع الغرب بحيث تكون المصالح الأمريكية مُؤَمّنة بالعرب وإسرائيل معا.
ولكن عندما رفض عبد الناصر هذه الاتفاقيات، ورفض أيضا الخضوع للشـروط الأمريكية في التسليح هنا حاول (أيزنهاور) الضغط بكل السبل لإبعاد شبح التدخل السوفياتي في المنطقة وترويض النظام الجديد في مصر.
وسارع أيزنهاور في عام 1957 بعقد اجتماع مع كبار المسئولين في إدارته فضلا على ثلاثين عضوا من أعضاء الكونجرس في جلسة طارئة لشـرح تداعيات الموقف في الشـرق الأوسط وطلب بشكل واضح –طبقا لمحاضر الاجتماع- بِمَنْحِه سلطات استثنائية لمواجهة الأحداث الطارئة في الشـرق الأوسط والتي أوجدت احتمالا قريبا بدخول السوفيات للمنطقة عَبْر سوريا ومصـر بكل ما يمثله هذا من خطورة على المصالح الأمريكية.
وقال أيزنهاور:
(أنه إذا حدث عدوان سوفياتي على المنطقة فليس أمام الولايات المتحدة بديلا عن مواجهته ولن تنتظر حتى تفقد المنطقة لصالح الروس، حيث أن أي سيطرة سوفياتية على الشـرق الأوسط معناه كارثة محققة للولايات المتحدة وأوربا، لهذا أطالبكم بمنحي صلاحية استثنائية تكفي للتدخل العسكري الطارئ دون انتظار مشاورات الكونجرس لأن الأحداث تتصاعد بالشكل الذي يجعل الحرب قد يلزم اتخاذ قرارها خلال ساعات، وإني أرجو من صميم قلبي ألا أضطر إلى استعمال ذلك التفويض الذي أطلبه منكم)

وبعد أن وقعت الواقعة وقامت قيامة الأمريكيين عندما أقدم جمال عبد الناصر على ارتكاب أكبر المحرمات بالنسبة للعقيدة الأمريكية وهو فتح باب الاتصال مع السوفيات ونجاحه في عقد صفقة تسليح ضخمة مع تشيكوسلوفاكيا برعاية الاتحاد السوفياتي فضلا على اتفاقية اقتصادية واسعة شملت تأسيس المشروعات الصناعية في مصر وعلى رأسها السد العالي.
هنا أعطى أيزنهاور الضوء الأخضـر للمخابرات الأمريكية بالتصـرف قبل أن تضيع المنطقة بأكملها إذا دخل النفوذ السوفياتي لمصر وسوريا.
ووقعت أولى محاولات الاغتيال لعبد الناصر والتي فشلت ثم تكررت عدة مرات بالتعاون مع إسرائيل لكنها فشلت أيضا وأصبح الأمر واقعا عمليا أمام الأمريكيين وهو أن الحركة القومية العربية تشكلت بالفعل واتخذت لنفسها عدوا واضحا هو أوربا ثم أتبعته بالولايات المتحدة باعتبارها راعية أوربا ليدخل الاتحاد السوفياتي للمنطقة عبر بوابته الذهبية (مصر)

خامسا:
أصبح التأييد الشعبي هائلا لحركة القومية العربية واستغل الاتحاد السوفياتي بقيادة (خروشوف) هذه الفرصة وبنى تحالفا وثيقا مع مصـر رغم أن الاتحاد السوفياتي تشكلت سياسته بالأصل على دعم الدول الشيوعية وحدها.
إلا أنه مع مصـر والدول العربية اكتفى بالتحالف السياسي وظلت مصـر تطارد الأحزاب الشيوعية كما تطارد غيرها دون اعتراض من السوفيات.
وأصبح واقع الحال في المنطقة هو وجود دول تتبع المشـروع القومي الذي تأسس بالأصل على مقاومة إسرائيل والغرب، ودول أخرى ظلت دائرة في الفلك الأمريكي
وتتابعت الثورات والانقلابات في العالم العربي حتى تحررت العراق وسوريا وليبيا والجزائر واليمن
واتضحت الصورة بشكل كامل وصريح بعيدا عن أي تمويه، وهو أن جبهة القومية العربية التي تقودها مصـر أصبحت عنوان التصدي للمشـروع الأمريكي الأوربي، ويناصرها الاتحاد السوفياتي فضلا على جبهة (دول عدم الانحياز) التي تكونت من مصـر والصين والهند ويوغسلافيا وإندونيسيا وعدد من الدول ذات التوجه الشرقي في مؤتمر (باندونج).
وملخص علاقة هذه الدول بالاتحاد السوفياتي هو الدعوة للتحرر من النفوذ الغربي وتأميم الاقتصاد الوطني لصالح الشعوب فضلا على مواجهة المشـروع الإسرائيلي وتوسعاته، ودعم حركات التحرر الوطني في العالم
وفي المقابل تشكلت جبهة حلفاء الغرب في الخليج والجزيرة العربية بقيادة السعودية والأنظمة الملكية فضلا على العراق-قبل انقلاب عبد الكريم قاسم-وإيران وباكستان وتركيا وهي الجبهة التي اتخذت الجانب الأمريكي سياسيا واقتصاديا وعسكريا بوجود قواعد عسكرية شاملة في أراضي تلك الدول.
وعلى هذا الأساس تَشَكّل ما يُسمى بحلف (بغداد) وهو الحلف العسكري الذي أسْسَته الولايات المتحدة للدفاع عن منابع البترول والشـرق الأوسط ضد الشيوعية والاتحاد السوفياتي.
ورغم حالة الاتحاد في المواقف والرؤى التي جمعت بين مصـر والسعودية إلا أن البريطانيين والأمريكيين لم يسلموا باحتمالية بقاء هذا التحالف خاصة بعد أن امتد النفوذ المصـري لشمال إفريقيا واكتسب قوة وشرعية في الشام فضلا على نفوذ واسع في آسيا وأمريكا الجنوبية.
لهذا لم يمض وقت طويل حتى تفجرت الخلافات بين الملك سعود وعبد الناصر، وقد كشفت الوثائق الأمريكية والبريطانية عن تلك المرحلة مفاجأة كبرى.
فالخلافات التي تفجرت بين الطرفين حَمَلَها المؤرخون على المنافسة الشخصية والرغبة في زعامة المنطقة فضلا على اعتراض السعودية على النظام الاشتراكي وسياسة العدالة الاجتماعية وملكية الشعب لثرواته واعتبار أنظمة الملكية أنظمة رجعية.
لكن المفاجأة كانت في أن الخلافات التي بدأت من طرف الملك سعود كان وراءها البريطانيون والأمريكيون عندما سربوا –بشكل منتظم- معلومات استخبارية مصطنعة حول محاولات عديدة من نظام عبد الناصر لقلب نظام الحكم في السعودية وهو ما لم يكن صحيحا في وقتها.
وقد فعلتها المخابرات البريطانية مرارا في أماكن مختلفة كان أشهرها خدعتهم للأمريكيين –حلفاءهم- عن طريق تسـريب معلومات مزيفة لليابانيين بِنِيّة الأسطول الأمريكي في (بيرل هاربر) مهاجمة اليابان.
ولم يكن هذا صحيحا فوقع اليابانيون في الفخ ونسفوا بيرل هاربر وكانت هذه الخطوة هي الخطوة التي أجبرت الولايات المتحدة على الدخول فعليا بقواتها في الحرب العالمية لجوار الحلفاء بعد أن ظلت تمانع الدخول وتكتفي بالمساندة اللوجستية وهو ما دفع تشـرشل لتدبير مؤامرة بيرل هاربر حتى يوقن الأمريكيون أن الخطر ليس بعيدا عنهم

ونظرا لأن آفة العرب الرياسة فقد تصاعدت الخلافات بين الطرفين إلى مستوى غير مسبوق لا سيما بعد تأييد مصـر لثورة اليمن على نظام حكم الإمامية ودعمها للثورة بالسلاح والقوات لتقوم السعودية بالتحالف مع بريطانيا والأردن لمواجهة القوات المصرية في اليمن.
ومضى صراع الحرب الباردة في طريقه.

*مصر وسوريا
كان تطور الحوادث في مصـر يتبعه تطور مماثل في سوريا بطبيعة الحال نظرا لعلاقة التوأمة التاريخية بين البلدين.
وكان العامل المهم والمحرك الرئيسـي في سوريا هو صعود التيار القومي (الناصري) لدى عدد كبير من ضباط الجيش السوري الشبان، فضلا على توجهات شعبية كاسحة لصالح هذا التيار الذي كان مركزه في مصر
وإلى جوار التيار القومي كانت الجبهات المتصارعة في داخل سوريا قائمة.
والمشكلة الكبرى في سوريا أن الجيش كان سياسيا وعقائديا منذ البداية، ومع تعدد الجبهات السياسية المتصارعة أصبح لكل تيار سياسي مجموعة من المؤيدين أو القيادات داخل فرق الجيش
وبالتالي.
كان تحرك الانقلابات العسكرية وعدم استقرار الحكم هو الداء العضال في داخل سوريا التي كانت منقسمة إلى شظايا مسلحة يحارب بعضها بعضا بغض النظر عن المصلحة الوطنية التي يؤيدها عموم الشعب وليس لها تمثيل داخل جبهات الصراع إلا جبهة القوميين.
وفي مواجهتهم كان الحزب الشيوعي له نفوذ واضح وتكتل كبير بقيادة (خالد بكداش)، والتيار الاشتراكي له نفوذ مماثل بقيادة (ميشيل عفلق)
بخلاف التيارات السياسية التابعة للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وتركيا.
وَتَفَجّر الصـراع السياسي داخل سوريا بعد حرب السويس بدخول المخابرات المركزية على الخط عن طريق عميلها (وليام إيفلاند) والذي توافق مع السياسي السوري (ميخائيل إليان) وَمَدّت المخابرات المركزية خيوط اتصالها مع سياسي آخر في نفس الوقت هو (عبد الكريم الدندشي) لتدبير انقلاب مدعوم من عدد من الشخصيات العامة بسوريا وأعضاء مجلس الشعب ومنهم (مأمون الكزبري)
وكان هدف الانقلاب الرئيسـي هو الخلاص من كتلة الضباط الناصريين التي تشكلت بقيادة (عبد الحميد السراج) الذي كان رئيسا للشعبة الثانية (المخابرات الحربية) في الجيش.
وفشلت محاولة الانقلاب فشلا ذريعا وتم القبض على جميع المتورطين بها ومحاكمتهم بشكل علني وانهالت منهم تفاصيل العملية باعترافات كاملة.
ولم تيأس المخابرات الأمريكية من محاولة التغيير في سوريا من الداخل فقامت محاولة انقلابية ناعمة بقيادة المقدم (أديب النفوري) وكان هدفها هو التخلص من مجموعة الضباط القوميين عن طريق توزيعهم على عدة فرق هامشية وإبعادهم من تشكيلات الجيش ليتسنى للنفوري السيطرة على الجيش بعيدا عنهم.
لكن المحاولة فشلت أيضا لوضوح مقصدها، وهنا لم تتورع الولايات المتحدة عن طرح أمر التدخل الناعم جانبا وبدأ التفكير العملي في غزو سوريا عسكريا عن طريق (حلف بغداد) وفرض الأمر الواقع قبل أن يتمكن القوميون من تكرار التجربة المصرية.
وبدأت التهديدات العسكرية على الحدود السورية من كافة نواحيها تستغل حالة الفوضى والتشـرذم التي تعاني منها سوريا داخليا.
وخارجيا بدأ التهديد العراقي المدعوم من البريطانيين عن طريق رئيس وزرائها (نوري السعيد) أحد عَرّابي (حلف بغداد)، ومن الحدود الإسرائيلية بذريعة حماية إسرائيل من تداعيات الانفلات السوري، ومن ناحية الحدود التركية التي حشدت قواتها بذريعة الدفاع عن أمنها ضد الأكراد في الشمال، وفي خلفية الأحداث كان الأسطول الأمريكي على السواحل البحرية يراقب ويتابع!
ولعل القارئ يلحظ أن التهديدات على سوريا من سائر جوانبها في وقتنا الحالي هي صورة تاريخية مما كانت عليه سوريا في الماضي.
فنفس هذه التهديدات هي ذاتها التي تعاني منها سوريا اليوم بعد حالة الفوضى التي أعقبت انهيار النظام البعثي.
فالحدود العراقية تمثل تهديدا مدعوما بالقوة الإيرانية، والحدود التركية تقع تحت سيطرة الأتراك والتهديد الإسرائيلي قائم بنفس الكيفية فضلا على السيطرة الأمريكية على السواحل
فالأطراف الطامعة في الداخل السوري لم تتغير مع الأسف.

لكن ما صنع الفارق الضخم بين زماننا وذلك الزمان البعيد أن العالم في منتصف القرن العشـرين لم يكن على صورته الحالية قطعا.
فوجود الاتحاد السوفياتي كعنصـر قوة مواز للقوة الأمريكية كان عاملا يُلْجم راعي البقر الأمريكي عن تبجحه الزائد.
كذلك وجود الكتلة الوطنية المتمثلة في الحركة القومية كانت عاملا رادعا لكثير من الفوضى الجارية اليوم وكانت حاجزا كبيرا أمام كافة عملاء المنطقة من الحكومات المتحالفة مع الغرب، بخلاف الانهيار الحالي الممتد منذ نهاية السبعينيات وحتى اليوم والذي تصاعدت فيه السيطرة الأمريكية على المنطقة لتبلغ أقصى مدى لها بعد حرب الخليج الثانية.
ولذلك اختلفت النتيجة اختلافا كبيرا في صراع الخمسينيات.
ورغم وجود الفوضى في الساحة السياسية الداخلية إلا أن جماهير الشعب مع كتلة الضباط القوميين أدركوا أن استمرار تلك الفوضى معناه نجاح الاجتياح العسكري لسوريا وتقسيمها لأربع دويلات كما كان المخطط الاستعماري السابق في الأربعينيات.
لذلك عادت إلى الواجهة مسألة الوحدة مع مصـر لتتصدر الساحة، ولم تكن فكرة الوحدة مع مصـر بعيدة عن التفكير المصـري والسوري بل جاءت بطلب رسمي من الرئيس (القويتلي) قبل اشتعال الأحداث وبدأت القيادة المصـرية تفكر بشكل عملي في كيفية التخطيط لها.
وكانت فكرة عبد الناصر للوحدة مع سوريا أنها خطة ممكنة التنفيذ بشكل مرحلي على خمس سنوات لكي تكون الوحدة ناجحة وأساسا يمكن الارتكاز عليه لضم المزيد من الدول العربية.
لكن إعصار الحوادث الذي بدأ مع عام 1957 والمخاطر المحدقة بسوريا جعلت كتلة الضباط الوطنيين في الجيش ترى أن الحل العملي والناجح لإنهاء فوضى الصـراع على الحكم هو إتمام الوحدة الفورية مع مصر مع وجود الرعاية السوفياتية الرادعة لأطراف العدوان.
وعليه وصلت إلى مصـر فجأة طائرة عسكرية تحمل أربعة عشـر ضابطا من أعضاء المجلس العسكري السوري البالغ عددهم أربعة وعشرين عضوا.
ولم يكن النظام في مصـر يعلم بالرحلة حيث كان عبد الناصر في أسوان في استقبال الرئيس الإندونيسي (أحمد سوكارنو) وعلم بالخبر هناك وعاد من فوره للقاء المجموعة.
وشرحت مجموعة الضباط وجهة نظرها في المخاطر التي تتعرض لها سوريا وكيف أن الأطراف الفاعلة في سوريا من مدنيين وعسكريين يستحيل اجتماعهم على شخص أو فئة محددة للحكم تجتمع عليه البلاد بلا خلاف.
ونظرا لوجود الانقسام بالجيش فإن الصـراع الداخلي ينذر بحرب أهلية بين الأطراف في نفس الوقت الذي تحتشد فيه قوات الغزو من الخارج
ولهذا فإن الحل الأمثل لهم هو إتمام الوحدة مع مصـر في وقت قياسي، فالوحدة تحت قيادة مصـر لن تجد خلافا أو اعتراضا من أحد لا سيما بعد أن دخل الشعب السوري في المعادلة وأصبح نداء الوحدة كاسحا
هذا فضلا على أن الوحدة ستوحد مختلف فرق الجيش تحت قيادة الدولة الجديدة مما يمثل رادعا كافيا لمؤامرة الغزو التي تعتمد اعتمادا كاملا على حالة الفوضى والاقتتال الداخلي
وطبقا لمحاضر الاجتماع بين الضباط وعبد الناصر والتي أوردها هيكل في كتابه (سنوات الغليان) فإن عبد الناصر استقبل طلبات الضباط بإقرار المبدأ بالوحدة لكنه اعترض بالطبع على الطريقة التي تصورها الضباط لإتمامها لكونها طريقة تهمل كافة المعايير السياسية اللازمة.
وكانت أبرز عناصر الاعتراض المنطقية تتخلص فيما يلي:

أولا:
أن الضباط لم يأتوا بتفويض من الرئيس أو الحكومة الشـرعية القائمة في البلاد بل إنهم لم يأتوا بتفويض كامل من المجلس العسكري للجيش، مع أنهم أغلبية أعضائه إلا أنه يتبقى العشـرة الباقون بمن ورائهم من فرق وقوات
ثانيا:
إتمام الوحدة الاندماجية ليست أمرا سهلا أو اعتباطيا بل هو أمر جلل نظرا للاختلافات السياسية والاقتصادية بين النظام المصـري والسوري والتي تتطلب مدة أقلها خمس سنوات لتوحيد التوجهات الاقتصادية والسياسية داخليا
ثالثا:
الجيش السوري نفسه عقبة كبرى أمام الوحدة لكونه جيشا سياسيا من قمة رأسه حتى أخمص قدميه فمعظم ضباطه وتشكيلاته لها قيادات حزبية وسياسية مستقلة والولاء لديهم لتلك الانتماءات لا للبلاد

وطالت المناقشات أياما طويلة ولكنها أثمرت عن نتائج قوية حيث قام الضباط بالرد وتفنيد اعتراضات عبد الناصر كالتالي:
أولا:
مسألة التمهل في الوحدة وإتمام خطتها على مدار خمس سنوات هذا أمر كان من الممكن قبوله في الأحوال العادية، أما في الحالة القائمة فسوريا مهددة بحرب أهلية فضلا على مخاطر الغزو الخارجي التي احتشدت بالفعل ولا تنتظر إلا التغطية السياسية دوليا للهجوم.
والحل الوحيد هو الوحدة الفورية التي سترفع عن كاهل البلاد انقسامها الداخلي بشكل كامل نظرا لأن الشعب السوري نفسه دخل على الخط بكامل قوته –ربما لأول مرة- واجتمع على رفض كافة التيارات السياسية المتناحرة والنداء بوحدة سوريا مع مصر تحت قيادة قومية واحدة يثق فيها الشعب.
وهذا التوحد سيجعل من سوريا كتلة واحدة في مواجهة الخطر الخارجي.
ثانيا:
من ناحية تخوف عبد الناصر من الاختلافات الفادحة بين السياسة الداخلية لمصـر والخط الاشتراكي الذي تتبعه وسياسة منع الأحزاب، فإن وجود القوة الشعبية المؤيدة للوحدة سيكفل لعبد الناصر حل الأحزاب السورية وتطبيق الاشتراكية
وهذه الشعبية نفسها هي التي ستجبر باقي قيادات الجيش على عدم الاعتراض على الوحدة وإلا سيضعون أنفسهم أمام الجماهير
ثالثا:
بالنسبة للتيارات السياسية داخل الجيش فمجموعة الضباط استجابت لطلب عبد الناصر بأن كافة القيادات السياسية داخل الجيش ستتقدم باستقالتها وتندمج في الحياة السياسية ليتفرغ الجيش لمهمته الوطنية بالدفاع عن البلاد تحت قيادته الموحدة
رابعا:
بالنسبة لطلب عبد الناصر أن يتخذ الأمر الخط الشـرعي بموافقة الرئيس القويتلي والحكومة وطلبهم رسميا الوحدة مع مصـر، فقد قام وفد من الضباط الحاضرين بالسفر لسوريا لمدة أربعة وعشـرين ساعة وجاءوا بالطلب رسميا ومعهم وزير الخارجية (صلاح البيطار) لتعزيز النداء السوري بضـرورة إتمام الوحدة.
وبالفعل تم الإعلان رسميا عن الوحدة وجاءت نتيجة الاستفتاء الشعبي كاسحة وانفجرت سوريا من أقصاها إلى أقصاها دعما للتوجه القومي.
والأهم..
أنها كانت لحظة فارقة في التاريخ السوري حيث اجتمع الشعب –رغم كل الاختلافات السياسية والمذهبية- على قلب رجل واحد لتنتهي الصراعات كفقاعة دخان.
وسافر عبد الناصر لسوريا رئيسا لدولة الوحدة وكان الاستقبال الشعبي خرافيا حيث حملت الجماهير سيارته واحتشدوا أمام مبنى الضيافة ليخرج عليهم عبد الناصر بخطابات متقطعة استمرت طيلة اليوم.