عرض مشاركة واحدة
قديم 02-08-2025, 03:56 AM
المشاركة 2
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كتابنا (كيف نفهم ما حدث في سوريا؟!)

تمهيد

إن محاولة الفهم الحقيقي للواقع بالاستناد إلى التاريخ والثقافة الصحيحة والحياد المطلوب، أصبح أمرا بالغ الصعوبة في عالمنا المعاصر.
والأسباب تتنوع في ذلك.
فليس من السهل أبدا أن تحاول الوصول للحقيقة بشكل علمي في عالم كل ما يدور فيه ضد قواعد العلم والمنطق على طول الخط.
وأخطر الأسباب وراء الجهل المنظم أن الجهل في الزمن القديم كان يعود في مجمله إلى التقصير وعدم الرغبة في بذل الجهد الكافي للمعرفة، وهذا السبب كان يمكن للعامة تلافيه نظرا لوجود رموز العلم والفكر المستقلين الذين كانوا يقودون سفينة الوعي في المجتمع ويحرصون على محاربة تيار الجهل مهما كانت قوة دعم هذا التيار.
فالحرص على جهل العوام كان دوما هدفا استراتيجيا للاحتلال الغربي كما كان هدفا للحكومات المستبدة التي تقوم عروشها على نشـر وشيوع ثقافة الجهل وثقافة القطيع حتى يظل المجتمع مجرد جماهير تتحكم فيها سياسة القطيع على النحو الذي شرحه العديد من المفكرين مثل عبد (الرحمن الكواكبي) في كتابه الشهير (طبائع الاستبداد)، وكما وصفها مفكرنا الساخر (محمود السعدني) بثقافة (الاستحمار) قياسا على سياسة (الاستعمار) وبنفس الصورة شرحها أيضا مفكر سياسي كبير هو أستاذ الاجتماع السياسي الدكتور (عبد الرازق عبد المعطي) صاحب كتاب (تراث العبيد في حكم مصر المعاصرة)
وكما قلنا كان هذا التيار يفشل أمام وجود الرموز المانعة التي تحمل رسالة الوعي، وهو ما حافظ على دور فاعل للشعوب في مواجهة حربها مع الاحتلال عَبْر التاريخ حيث كان قادة الوعي هم أنفسهم قادة المقاومة في كل عصر.
وأيضا في عهد ما بعد الخلاص من عهد الاحتلال المباشر كانت مهمة الرموز مماثلة في مواجهة الاستبداد المحلي –بعد رحيل الاستعمار الخارجي ظاهريا- وكان السلاح الأقوى لهؤلاء الرموز هو حرصهم على بث ثقافة الاستقلال وكشف التجارة بالشعارات التي احترفتها الحكومات المتوالية لتبرير استبدادها أو لتبرير عملها ضد مصالح الشعوب.
وذلك بعد أن خرج المحتل بسلاحه الظاهر وحرص على مساندة الحكومات الداخلية التي أصبحت وكيلا عنه في حفظ مصالحه.
عدا بعض التجارب الوطنية الحقيقية التي عملت بإخلاص وبدعم شعوبها ولم تفشل تجاربها إلا بسبب الاستبداد والدكتاتورية على نحو ما جرى في تجربة (محمد علي) وتجربة (عبد الناصر)
وكلاهما تبعته حكومات معادية تماما لخط الاستقلال، فقد سقطت تجربة (محمد علي) بمجيئ عصـر (إسماعيل) الذي ارتكب كل المحاذير التي حرص والده (إبراهيم باشا) وجده (محمد علي) على تلافيها وتسببت سياساته في سقوط مصـر وتجربتها الوطنية والحضارية تحت الاحتلال الإنجليزي
أما تجربة (عبد الناصر) فقد انقلب عليها (السادات) بعد حرب أكتوبر وتوجه بسياسته الكاملة للعدو التاريخي وهو الولايات المتحدة لتقع مصـر منذ ذلك الحين رهنا للسياسة الغربية في المنطقة.
وما كان للتجربتين (محمد علي) و(جمال عبد الناصر) أن يسارعا للسقوط لو أنهم اعتمدوا على الحكم التشاركي وترك سياسة الاستبداد العقيمة التي أنتجت سياسيين هُمْ في واقعهم مجموعة من منافقي السلطة يتحينون الفرص للانقلاب على أي تجربة ديمقراطية أو وطنية مستقلة تقوم على تأسيس نهضة حقيقية كتلك النهضة التي شهدتها عشـرات التجارب الناجحة مثل تجربة ماليزيا وسنغافورة والبرازيل والهند والصين وفيتنام وغيرهم
وبلغت هذه الحكومات من التبجح ما جعلها تحاول دوما التجارة أمام شعوبها بقضية الاستقلال الوطني أو شعارات التقدم أو شعارات التدين والدفاع عن الدين ... الخ
بينما هي في الأصل حكومات حصلت على شرعيتها من الدعم الغربي الذي استبدل سلاحه الحربي بسلاح فكري واقتصادي وسياسي يحقق الأهداف المرجوة دون أدنى تكلفة مباشرة إلا في القليل

وهذا كان واقع العالم العربي حتى الماضي القريب.
لكن الكارثة الحقيقية أنه منذ عصـر الخمسينيات وحتى السبعينيات انتشـر عهد المتاجرة بالشعارات ونشـر (الجهل) الذي تطور وأصبح نشـرًا (للتجهيل) بحيث تمكنت تلك الأنظمة من تنفيذ استراتيجية عنيفة تعتمد على خلق جهالة منظمة بالمجتمع تدفعه للصـراعات الطائفية أو السياسية بحيث يصب هذا كله في مصلحة الحكومات نفسها مع انشغال الشعب برموزه ومفكريه في محاربة بعضهم البعض وإهمال القضية الوطنية.
وإذا تحقق هذا كان من السهولة بمكان أن تستقر السلطة المستبدة في الحكم دون قلق نظرا لوجود الدعم الغربي لها خارجيا ووجود الدعم الداخلي بانشغال الشعب عن المطالبة بحقوقه وغياب اهتمامه بأبجديات محاسبة تلك الحكومات.
وهي نفس الاستراتيجية التي اخترعتها بريطانيا باسم (فَرّق ... تَسُد) وكانت سببا رئيسيا في أن تكون مستعمراتها هي المستعمرات الأكثر استقرارا بين المستعمرات الأوربية نظرا لأن بريطانيا كانت تدخل إلى أي دولة أو مجتمع فتقوم بإشعال الصـراعات الثنائية النائمة بين مختلف فئات الشعوب المستعمرة ثم تدعمهم جميعا في صراعاتهم ضد بعضهم البعض وبالتالي تصبح حكومة الاحتلال عندئذ هي قِبْلة كافة الخصوم وتعيش قوة الاحتلال مستقرة بلا مقاومة مرهقة أو صراع على الاستقلال.
وهو ما فعلته في الهند لعقود طويلة عن طريق تحريك الفتن الطائفية في بلد يعج بثلاثة آلاف عقيدة مختلفة، ويعاني الفقر وانعدام التعليم.
وكذلك فعلته في كافة دول شرق آسيا وافريقيا والأمريكتين ولم تتحرر تلك الشعوب إلا مع ظهور التيار الفكري المستقل الذي أعاد للشعب وعيه المفقود ليعلم أن الاحتلال هو العدو الحقيقي وأن الصـراعات الطائفية تدبير منظم منه

وليس معنى هذا أن المعادلة دائما كانت في صف الاستراتيجية الغربية بل قامت عبر التاريخ محاولات رائدة لاستقلال حقيقي، منها ما اكتمل بالفعل مثل تجربة الهند وفيتنام والصين والبرازيل ومنها ما فشل وأصبحت نتيجته أن صارت تلك الدول –حتى لو تقدمت علميا- مرهونة بالقرار (الغربي –الأمريكي) على نحو ما صارت به السلطة في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية حيث تدخل الأمريكيون في مناهج التعليم والسياسة الداخلية لضمان عدم تكرار تجربة استقلال الدولتين والسماح لهم فقط بالتطور الاقتصادي مع مصادرة القرار العسكري والسياسي لأمريكا والدول الكبرى
ومنها أيضا ما حدث في الشـرق الأوسط والذي نشأت به تجارب لم تكتمل إلا أن وجودها في حد ذاته واستمرار محاولاتها هو أمل متجدد لنجاحها ذات يوم.

لكن الواقع الحالي لا يشـي بأمل قريب مع رؤية طبيعة وخفة تفاعل الناس والمثقفين مع ما يحدث، لكن ما يدعم وجود الأمل –في نفس الوقت- هو أننا قد بلغنا القاع بالفعل في عصـرنا الحالي، وبالتالي نأمل في محاولة العودة ولو ببطء بعد أن استدار التاريخ على نفسه دورة كاملة آن أوان تغيير اتجاه القوة في النظام العالمي.
فلم يحدث في تاريخ المنطقة والعالم أن أصبح الوعي والعقل مأسورا لهذه الدرجة، ولم يحدث أن غاب صوت الرموز والعلماء والمفكرين وتم سحقه لصالح الجهل والتجهيل بمثل ما حدث ويحدث في عالمنا اليوم على مستوى العالم –لا على مستوى العرب وحسب- ولا حدث قبل اليوم أن الاستقطاب العنيف أصبح هو عقيدة الشعوب نفسها لا عقيدة التيارات المتناحرة كما كان مألوفا في الماضي
ولم يحدث أن سادت الغوغائية والضياع-حتى على مستوى ممارسات الحكومات ومؤسسات التفكير- بمثل ما يحدث اليوم حتى أن معظم أساتذة الجامعات والمفكرين وأهل الرأي انزوى أكثرهم بعيدا عن هذا الجنون المتفشـي الذي نجح في أن يقلب صراعات الفكر والسياسة والعسكرية إلى صراعات مناطحة ثيران كتلك التي نشهدها من مشجعي كرة القدم حيث يحكم الصوت العالي والتنمر البغيض والانحياز معدوم الهدف!
فالتعليقات ومحاولة تفسير الأحداث اليوم لم تعد تعتمد على مبادئ العلوم السياسية وعلم الاجتماع وعلى التفكير الاستراتيجي الذي يهدف للمصلحة العامة.
بل صُودر التاريخ وصودرت السياسة لصالح الاستقطاب وتم هتك عرض علوم التاريخ ومبادئه وتفسيره بما يتماشى مع الأغراض السياسية الضيقة التي لا يهمها مصلحة شعوبها أو حتى أمنها القومي!
بل أصبحت الأهداف هي الصعود بالطائفية الضيقة –ليست الدينية- بل الطائفية السياسية التي تخدم أغراض السياسيين بغض النظر عما يُقَال عن مصلحة الشعوب أو استقرار العالم!
وهذا يذكرني بواقعة ذات دلالة حدثت في الحرب العالمية الثانية عندما قام (جوبلز) وزير الدعاية الشهير في الحزب النازي بابتكار فكرة شيطانية لنشـر شعبية الزعيم النازي (أدولف هتلر) في أوربا وتحطيم الروح المعنوية لجيوش الحلفاء.
فقام بجمع النسخ المنشورة والمخطوطة لكتاب (القرون) الذي كتبه الراهب (ميشيل نوستراداموس) صاحب النبوءات الأشهر في العالم.
وكان كتابه – رغم أنه كتاب دجل فارغ ككافة كتب هذا المجال- إلا أن تأثيره على العوام كان ساحقا منذ عهد صاحبه وحتى عصر الحرب العالمية بل وربما إلى اليوم.
فالجهلة من الإعلام والمغرمين بنظريات المؤامرة يستندون إلى هذا الكتاب كما لو كان كتابًا سماويًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!

هتلر ووزير إعلامه جوبلز

المهم أن (جوبلز) -شيطان الإعلام النازي- جاءته الفكرة العبقرية في جمع النسخ الأصلية للكتاب في ألمانيا ومستعمراتها، وإعادة طبعه بآلاف النسخ بعد تزوير بعض محتواه عن طريق حذف النبوءات التي قد يتم تفسيرها بهزيمة (هتلر) واندحاره في الحرب العالمية، ثم وضع نبوءات أخرى مشابهة تمت كتابتها بواسطة خبراء بنفس أسلوب رباعيات (نوستراداموس) وبالطبع كان محتواها مليئا بنبوءات النصر لهتلر واندحار الحلفاء.
ثم قامت المخابرات الألمانية بطبع ونشـر تلك النبوءات وتوزيعها بشكل فادح في دول الحلفاء مما خلق حالة هائلة حول هتلر ساعدتها انتصاراته المدوية في أوربا ونجاحه في إسقاط معظم دولها ثم خَتْم انتصاراته باحتلال فرنسا نفسها.
والمثير في الأمر.
أن المخابرات البريطانية عندما بلغتها أمر فكرة (جوبلز) سخروا منها سخرية شديدة إذ تعامل خبراء المخابرات البريطانية مع الفكرة على أنها فكرة شديدة التخلف لا يمكن لعاقل أن يتفاعل معها.
ورغم أن تحليل المخابرات البريطانية كان صحيحا إلا أن الفكرة حققت نجاحا هائلا لم يتوقعه جوبلز نفسه، والسـر هو ثقافة القطيع مع سيطرة الخوف على جماهير الدول الأوربية من هتلر.
ففكرة جوبلز لم تنجح لأن الجماهير الأوربية كانت متخلفة بل لأن النبوءات جاءت في وقت قاتل، حيث كان هتلر يكتسح أوربا بانتصارات مذهلة فضلا على سيطرة الرعب الذي فتك بقلوب الأوربيين ونظرا لأن الخوف يعطل التفكير فقد راجت نبوءات جوبلز المزورة ووجدت لها موقعا في قلوب الناس كما تقول الحكمة القديمة:
(إذا ضعفت النفس استسلمت للخرافة)

هنا لم تجد المخابرات البريطانية مفرا من أن ترد الفكرة بعكسها فقامت بجمع نسخ كتاب نوستراداموس المتوفرة في بلادها، وحذفت منه ما أرادت ووضعت عشـرات النبوءات التي تتنبأ باندحار هتلر والنازية كما اندحر من قبله (نابليون بونابرت) رغم اكتساحه أوربا سابقا ونجاحه في هزيمة كافة إمبراطوراتها، ورغم ذلك نجحت بريطانيا في آخر الأمر في هزيمته وانطوت صفحته.
وهكذا أيها السادة.
انمحت النسخ الأصلية تقريبا من كتاب (القرون)، ومع ظروف الحرب وقلة تكنولوجيا الطباعة في ذلك الوقت، أصبح من المستحيل عمليا إيجاد نسخة واحدة صحيحة من الكتاب وبقيت فقط النسخ المزورة التي لا زالت تُطْبع حتى اليوم بملايين النسخ ويعتمد عليها النصابون من كافة دول العالم وهم يتاجرون على الناس بطرح نبوءاتهم المستقبلية.
وليس العيب فيمن يفعل لكن العيب –كل العيب- فيمن يتفاعل ويصدق تنبؤات تعتمد على كتاب مزور ورغم أن الكتاب نفسه تم تزويره إلا أن نسخته الأصلية أيضا كانت عبارة عن تخريف متنبئ لا يختلف عن أي نصاب من نصابي التنبؤات المنتشـرين عبر تاريخ الحضارات والبشر!
فهي مجرد نبوءات شعرية بكلمات شديدة العمومية والاتساع يمكن حملها وتفسيرها وتكييفها على أي حدث عالمي كبير

ووجه الاستدلال بتلك القصة عزيزي القارئ.
أن الوضع الحالي في عالمنا العربي أصبح مستعدا فقط لسماع من ينتمي إلى الاستقطاب، فإذا خرجت على الناس –مثلا- فتكلمت في مناصرة جانب هتلر مستعينا بتنبؤات جوبلز فإنك ستجد الدعم والمناصرة من أنصار هذا الاتجاه، وإذا تكلمت في اتجاه مناصرة الحلفاء مستعينا بتنبؤات المخابرات البريطانية فستجد الدعم والمناصرة من أنصارهما.
أما إن كنت عاقلا -في هذا الزمن المجنون- ووقفت فوق برج القاهرة عاريا تصـرخ في الناس بأن كلا الجانبين مجرد نصابين وأن هتلر والمخابرات البريطانية ونوستراداموس نفسه نصابون يستحقون الحرق ويتعين علينا رفضهم جميعا.
فهنا لن تجد مُنَاصرا ولا مستمعا وفي الأعم الأغلب ستجد عربة اسعاف تنتظرك أسفل البرج لنقلك إلى أقرب مستشفى أمراض عقلية.
وبالطبع حديثنا هنا عن هتلر والمخابرات البريطانية هو حديث لضـرب المثال، وكل ما عليك عزيزي القارئ أن تضع مكانهما أي نوعين من الأطراف المتصارعة اليوم حول أي قضية تشاء وعندها ستصلك الفكرة.
والأسباب الرئيسية الواقفة خلف هذا الاستقطاب نلخصها فيما يلي:
أولا:
قراءة التاريخ والواقع تعتمد –كما في أي مجال علمي- على الحياد التام في المعالجة وإلا أصبحنا في مواجهة (دعاية) لا مواجهة (علم)
فالباحث من المفترض أن يبدأ من نقطة الصفر بحثا عن تحليل نهائي ونتائج حقيقية لما يبحث فيه، وهذه النتائج –قبل البحث- لا تكون بالقطع واضحة أمامه، وإلا لما كان هناك معنى للبحث أصلا.
وبالتالي فإن أي باحث يدخل إلى بحث قضية وهو معبأ بنتيجة مسبقة ويبدأ بحثه العلمي بهدف إثبات أو نفي مبدأ معين يسعى إليه فهو هنا ليس باحثا علميا ولكنه إنسان مؤدلج تمت مصادرة جهده وعقله لصالح أيديولوجية محددة يُهِمه إثباتها ونفي ما يعاكسها.
وما يحدث في العالم العربي منذ عام 2011م يمكن الحكم عليه من خلال تلك النقطة، فالشاشات الإعلامية تبث لنا صراعات ثنائية بين حكومات تتاجر بالوطنية ومعارضة تتاجر بالدين وتيارات تتاجر بالعلمانية والديمقراطية.
بينما الأصوات التي تعادي كافة هذه الصراعات لا تجد لها مكانا رغم أنها الأصوات الحقيقية الوحيدة في عالم الشاشات المفتوحة اليوم!
إذ أن طموح الشعوب وأهدافها غائب تماما عن أهداف المتقاتلين على الحكم والسيطرة وكل منهم يضع يده في يد الشيطان لتحقيق سيطرته بغض النظر عن الشعوب التي يتم التعامل معها كقطعان وظيفتها أن تصـرخ وتهلل للمنتصـر وتلعن المهزوم ثم تذهب في اليوم التالي لتواصل جهدها في البحث خلف لقمة العيش وشربة الماء!
ثانيا:
رغم أن الغوغائية هي صفة يمكن قبولها في عوام الناس ممن يسهل استقطابهم، إلا أن مصيبة العصـر الحالي تكمن في تحول (الإعلام) بسياسة الوعي إلى (إعلان) بسياسة الغريزة.
فالإعلام منذ نشأته المعاصرة في القرن العشـرين بدأت مصادرته لصالح القوى القادرة على التحكم فيه، حيث أصبح الإعلام مرهونا بمؤسسات جبارة وكيانات اقتصادية طاغية وسلطات هائلة تستطيع الوصول للأذهان والقلوب بشتى الوسائل.
ورغم وجود هذه السيطرة في القرن العشـرين إلا أن المفكرين المستقلين أصحاب رسالة الحقيقة وجدوا آلاف الفرص للخروج بأفكارهم –رغم الحصار- وذلك يعود إلى أن آلة الإعلام العالمي والإقليمي ليست آلة واحدة بل هي آلات متعددة ومتصارعة بحرب لا هوادة فيها فكانت النقطة التي نفذ منها كبار المفكرين أنهم استغلوا هذه الصـراعات وخرجوا بفكرهم المستقل عندما استعانت بهم آلات الإعلام المختلفة لفضح خصومها وبيان حقيقتهم.
ولولا تلك الصـراعات لما تمكنا من الحصول على آلاف المراجع والوثائق والشهادات المتلفزة عن حقيقة الحرب الباردة ووحشية الشيوعية والرأسمالية على حد سواء، ولما عرفنا زيف شعارات العدل والمساواة التي رفعتها التيارات الشيوعية وزيف شعارات الديموقراطية والإنسانية والحرية التي رفعتها الرأسمالية" "
ولولا تلك الصـراعات لما عرفنا أن أنظمة الحكم التي تولت في العالم العربي عقب حركات التحرر انتهت إلى سياسة الدول الوظيفية التي تؤدي نفس سياسة الاستعمار ولكن بإنتاج محلي!
ومنها عرفنا أن تلك التيارات وتلك الدول التي رفعت شعار (الإسلام) ما كان هدفها الإسلام في شيء بل هو مجرد غطاء لتنفيذ الأجندات السياسية الغربية.
وعرفنا أيضا أن تلك الأوطان التي رفعت راية الوطنية والدفاع عن القومية ما كان هدفها القومية ولا الاستقلال وإنما هدفها تكريس الدكتاتورية وحكم الفرد
ثالثا:
العيب الوحيد في رسالة الوعي التي حملها المفكرون المستقلون أن بعضهم تورط في الدفاع الأعمى أو الهجوم الشامل، وهذا العيب يمكن تفاديه بمراجعة كافة المؤلفات والشهادات ومحاولة الوصول إلى الحقيقة المجردة وإهمال التحليلات سابقة التجهيز
فإذا نجحت عزيزي القارئ في الخروج من شرنقة (الأدلجة) وخلايا (الاستقطاب) فهنا –وهنا فقط- تستطيع الحكم على الصورة الكاملة والكامنة لكل حدث أو قضية تود معرفة حقيقتها.
وكمثال على صحة توجهك يمكن اختبار نفسك، فإذا وجدت نفسك تُقر بالحق الذي تراه بغض النظر عن مُتّبعيه، وَتُبطل الباطل الذي تراه بغض النظر عن مرتكبيه فأنت عندئذ على بداية الطريق.
وتطمئن أكثر لصحة تحليلك لتاريخنا المعاصر وواقعنا الحالي إذا وصلت بالنتيجة أن كل من تراهم على الساحة الآن هم من تجار الحكم لا أكثر ولا أقل.

فَهُم إما مرتزقة بالمعنى الحرفي أو مرتزقة بالزي الرسمي!
لا فارق بين أمير أو وزير أو زعيم طائفة أو قائد ميلشيا.
فالأعمى في عصـرنا الحالي يمكنه -إذا اتسم بالحيادية- أن يرى مدى تأثير وسيطرة الدول العظمى على أحداث المنطقة العربية، فالدول الكبرى التي يسميها المفكر الكويتي الكبير (عبد الله النفيسـي) بدول (المركز) هي التي تتولى القيادة للدول الوظيفية التي تشمل المنطقة العربية على مستويات توظيف مختلفة ويسميها النفيسي بدول (الأطراف).
ولا يمكن فك هذه السيطرة إلا بقيام دور فاعل للشعوب، فهنا -وهنا فقط- تختل يد السيطرة الغربية وتصبح مجبرة على التعامل ندا بند مع سلطات تحكم باسم الشعوب حقيقة لا مجازا.
رابعا:
الفكر الإسلامي –كما هي العادة- حمل لنا توصيفا دقيقا لما يحدث اليوم من خلال أحاديث النبي عليه السلام فيما يخص أحداث آخر الزمان.
تلك الأحاديث التي أهملها مفكرو السياسة في العصـر الحديث –تحت زعم محاربة الخرافة- في نفس الوقت الذي لا يستحي هؤلاء من الترويج لتنبؤات العرافين أمثال (نوستراداموس) واتخاذها مصدرا من مصادر المعرفة!
القصد أن الفكر الإسلامي وتفسيرات مفكريه القدامى –بعيدا من متاجرة التيارات الدينية المعاصرة- أعطتنا صُوَرا مختصرة ومركزة على وضع العالم اليوم.
فالذي يستغرب من قولنا إن كافة التيارات المتصارعة اليوم كلها على الباطل، عليه أن يعود لتلك النصيحة الذهبية التي أرساها النبي عليه السلام لزمن الفتن.
فقد جاء في الحديث الصحيح:
(تكونُ دعاةٌ على أبوابِ جهنمَ ، مَنْ أجابَهم إليها قذفوه فيها ، هم قومٌ مِنْ جِلْدَتِنا ، يَتَكَلَّمُونَ بألسنتِنا ، فالزمَ جماعَةَ المسلمينَ وإمامَهم ، فإِنْ لم تَكُنْ جماعَةٌ ولَا إمامٌ فاعتزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّها ، ولَو أنْ تَعَضَّ بأصلِ شجَرَةٍ حتى يُدْرِكَكَ الموتُ وأنتَ كذلِكَ)
والخطأ الأكبر الذي يمكن أن نقع فيه أن نُسْقط الحديث على التيارات المتاجرة بالدين فقط، أو نسقطه حصرا على المعارف والفتاوى الدينية.
فالحديث حديث شامل وهو يخص شئون السياسة والاجتماع بأكثر مما يخص مبادئ الشـريعة المتخصصة، فالفقه الإسلامي –ليس كما يروج البعض- من أنه المختص بفقه الفرائض بل هو فقه الواقع في كافة شئون وحياة الناس دينا ودنيا.
وعليه فالحديث برهن لنا على العلامة الكبرى التي توضح لنا بداية عصـر الفتن، وهي وجود الفرق المتحاربة أو المتخاصمة كما يبين لنا سبيل النجاة المتمثل في لزوم جماعة المسلمين وإمامهم.
وهنا سأل الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان:
(فإن لم يكن لهم إمام ولا جماعة)
فقال النبي عليه السلام:
(إذا تعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة) ..... إلى آخر الحديث
والنصيحة أو التوجيه النبوي هنا كاملا ومكتملا، فلا شك أننا في قلب بركان الفتن، ولا شك أن عِقْد شعوب العالم العربي والإسلامي قد انفرط نهائيا، وأصبح المسلمون في أسفل درك الحضارة وتحت سنابك التحكم.

ولذلك جاء التوجيه النبوي للعامة باعتزال تلك الفرق المتصارعة جميعا، وعدم الدفاع عن فرق سياسية أو دينية أو حزبية ضيقة
ونداء اعتزال الفرق ليس معناه اعتزال الحياة بل اعتزال الفرق نفسها بأيديولوجية كل فرقة، والاحتفاظ بقلب مستقل وعقل متأمل لا يخدعه رفع الشعارات مع انعدام التطبيق
فالاندماج تحت أي نظام أو أي فكرة التورط في الدفاع عن تلك التيارات يورطك حتما في التحذير النبوي القاطع والمتمم للحديث السابق الذي ورد عن النبي عليه السلام بقوله:
(مَن خرج من الطاعةِ ، وفارق الجماعةَ ، فمات ، مات مِيتةً جاهليةً ، ومن قاتل تحت رايةٍ عَمِيَّةٍ ، يغضبُ لعَصَبِيةٍ ، أو يَدْعُو إلى عَصَبِيَّةٍ ، أو ينصرُ عَصَبِيَّةً ، فقُتِلَ ، فقَتْلُه جاهليةٌ ، ومَن خرج على أمتي يَضْرِبُ بَرَّها وفاجرَها ، ولا يَتَحاشَا من مؤمنِها ، ولا يَفِي لِذِي عُهْدَةٍ عَهْدَه ، فليس مِنِّي ، ولستُ منه)

ونص كلام النبي عليه السلام واضح في أن التحزب بالفرق وترك الجماعة العامة هو من قتال الفتن وكذلك الدفاع عنها هو دفاع الفتن.
والنقطة الخطيرة هنا أن الحديث استثنى الجماعة، ولكن ما الحل عند غياب الجماعة أصلا، هنا تأتي القاعدة الداعية باعتزال كافة الجبهات المتصارعة والدفاع فقط عن المبادئ العامة للدين والوطنية بغض النظر عن كل متاجر بهما.